الداخل السوري

بين الذاكرة والمنفى كنت أنا

By Women Now for Development

April 05, 2021

أردت بدء الكلام بالحديث عن هويتي الأولى، في حقيقة الأمر أن المدن تعطي هوية استثنائية لسكانها، لكن انتمت جذوري العائلية لقرية تقع على أعتاب مدينة دمشق من جهتها الغربية، وادي بردى الذي ضم سلسلة من القرى ذات الأثر التاريخي البعيد. كنت أنا من ضمن سلسلة القرى التي شكلت ثورياً بوابة باتّجاه الغرب “بسيمة”. القرية التي لم تكن مهيئة لتشهد أحداث عالمية ولم يكن المجال لتوثيقها بطريقة إحترافية أكثر من محاولتي الآن في التوثيق عن طريق حدث شخصي، أستخدم ذاكرتي السردية حتى لا أبقى بلا ماضٕ يدفعني إلى مستقبل. أحاول مع ذاكرتي الكثيفة عن القرية رغم البعد.

ما بين هتاف سلمي وبندقية كنت أنا.

الولوج في ثورة عفوية بفعلها الأول كان أسهل عليّ من شخص متقدم أكثر في العمر، حيث بدت لي كعملية تربوية مكتملة ونموذجية لدرجة تعصبي لدرب الشهداء وأنا في عمر الحادية عشر. أتذكر كطفلة حينها ظهوري في كاميرا الجزيرة أثناء تغطية إحدى المظاهرات أحمل لافتة تدعو لإسقاط النظام السوري، مما دعى أبي ليشعر بالصدمة وهو يرى إبنته الطفلة تطالب بإسقاط النظام حيث كان آنذاك موظف في مؤسسات الدولة.

هذه الصورة تحديداً دفعتني مرعبة لا تفسر وقتها، رغبة في الاستمرار. في الحقيقة المباشرة الصريحة لا أدرك بماذا استمر. هذا التناقض الذي لم أدركه في البداية تحول لصراع بعد أول قطرة دم و أول مرة دفعني الحصار لأنام جائعة لأول مرة أعرف انواع السلاح الذي استبدل الغيم والجبال.

صداع بين حياة خارج الحصار وموت أدركه الآن وأنا في العشرين من عمري أنه حالة اجتماعية ألفت القلوب بعضها البعض ولأول مرة كان العدو هو الأسد لا غير. ملامح الصراع الذي أكتب عنه بدأت في الظهور في المراحل الأولى من الأحداث التي أثقلتني وأثقلت جمهور الثورة. في مرحلة تكوين النفس والأحلام الوردية كانت الطفلة تسمع مصطلحات عسكرية يصعب استيعابها. بينما الأصدقاء يعيشون تفاصيل العاصمة دمشق التي بقيت ندبة وحلم حتى لحظتي.

مما زاد الصراع هو انخراط المنزل بمجريات الثورة كلها من تظاهر اعتقال مصابون شهداء ونصر، كل ما ذكر صنع مني فتاة مندفعة تارة ومنهزمة تارة أخرى، أروي بلسان أكبر من عمري، لكن خوض التجارب التي أعطتني ياها الثورة صنعت مني ما صنعت.

المواجهة الأخيرة إيان ذلك كانت الثورة على مجمل اتساعها وأبطالها من مدن وأشخاص يمرون بمنعطف كسرنا.. كسرنا كسوريين حينما كان المنزل في حالة من السكون واليأس يراقب تهجير مدينة حلب لم نتوقع أن القرية تتجهز لإستقبال قوة عسكرية تطيح بأكبر المدن السورية، تخيل معي كيف لقرية تحملها. يوم البدء في المعركة الكبرى كنت جالسة مع صديقتي -التي استشهدت لاحقاً- نفكر كيف سننهي رغبتنا الجامحة في اللعب بعيداً عن طلقة قناص أنهينا. الأمر أصبح أسهل لأن الطائرات الحربية نسفت كل الرغبات واستشهدت الصديقة في شظية دبابة كانت أضخم من حلمنا في اللعب. تسارعت الأحداث أقف مرة أمام الموت ومرة أمام نصر الثائرين وآخرها أمام اقتحام القرية، كان شعور الخوف أقوى من تربية الصمود التي اعتدها. أخذتنا أمي أنا وأختي لنركض اتجاه النجاة، تاركين أبي وأخي يواجهون اختزال ما تبقى من قوة وموت, تخطيت مرحلة الصراع النفسي لأبدأ بترتيل هواجس النفس على العلن وأطرح على الذات أسئلتها الجدلية. لمَ أنا؟. لمَ الحياة خارج حدود القربة؟ هل نحن على خطأ؟.

إلى المنفى لكنه يبقى اختيارنا انتظرت الحافلات (الباصات الخضرا) حيث كان التعب الجسدي والصراع النفسي يشتد، شعرت حينها أن البلاد في الشمال السوري هي الحل لكل المتاعب.

المنفى كاختيارنا يكتب عليك أن تصبر بشكل مضاعف على مصاعب الطريق، سارت الأمور وما تتضمنها من حدث كبير ومفاجئ كأنها هامش مؤقت حتى لحظة الإنتقال إلى شريط المخيمات القريب من الحدود، لأن كابوس القصف ظل مستمر حتى إدلب. من المفترض زمنها أن أقابل مرشد أو مستشار نفسي لأتقبل واقعي كوني مهجرة بلا بيت أو عزوة، لكنه لم يحصل عشت الحالة النفسية بأدقّ وأصغر جوانبها حتى اخترت المجتمع لأكمل دراستي وإهتماماتي التي حملتها معي ورافقتني رحلة التهجير. صارت الحياة أسهل، الواقع أحيانا أسهل من صراعات النفس.

سلوكيات في المنفى

قبل حلول الذكرى السنوية الرابعة لسردية الأحداث التي سبقت، تجسد سلوكي بتقبل الإختلاف على اتّساعه ومجرياته التي تختلف كلياً مع بيئتي لكني كنت مقتنعة بأن التماسك الإجتماعي لا يأتي إلا بتقبل الإختلاف، بدأت بتكوين شخصيتي داخل المجتمع المدني وصداقات كثيرة منها ما صار أقرب من كل العلاقات التي مرت في الريف الدمشقي، وكأن الحياة تعطيني تعويضاً اجتماعياً عن الكوابيس التي عشتها، ولكن مع اقتراب الذكرى الشتوية للتهجير لمست ملامح الصراع بظهور جديد يتمحور حول يومياتي المليئة، صرت أتهرب منه ومن الجموع حولي بكلمة “ملانة ضغط شغل”، كل الأمور كانت تحتمل حتى وصلتني صور القرية.

القرية التي باتت مهجورة من عام 2016حتى بداية هذا العام، بكيت .. بكيت دهراً عني وعن أهلي وعن سكانها، في اليوم التالي حملت ما تبقى مني والهاتف في يدي ارتقب بكل أمل مجنون صورة لمنزلي الذي أدرك مسبقاً بحجم الدمار، لم تصل.. كنت داخل قاعة الإجتماع يرسم مشروع أنتظره لمستقبلي، تركت الجلسة وخرجت مسرعة باكية بصوت مرتفع في قرية لا تبعد عن الأراضي التركية سوى خط نظر نظرت إلى الأبنية من حولي بمشهد سينمائي وسألت لم هذه الألواح الحجرية صامدة وأنا لا. سلوكي صارَ عدواني اتجاه أصدقاء العمل وكأنهم هم من أبعدوني عن الوطن، الوطن الذي أعطاني اكبر صراع أعيشه الآن. على العجل أرسلت تفاصيل السلوك إلى صديقتي تدعى “جمان”، وشرحت لها الموقف بكل تفصيل، خفت أن أعمل الأمر ويصبح أكثر عدوانية. تقبلتني جمان بطريقة ودية أكاديمية وطرحت ما عندها من محاولات بغية السيطرة على السلوك كونه شيء من طبيعي نتيجة لما حصل.

“أنت اخترتي طريقك بالثورة من البداية واخترتي تروحي بطريق النضال”.

في حقيقة هذا الصراع -الذي لم أجد له نهاية- إنه جزء من صراعات كبرى منها صراع النفس ومنها من أوصل النفس إلى الصراع متمثل ذلك بالصراعات السياسية العسكرية على الأرض، وأخرى عاطفية. تمادي الأحداث وسرعتها ونسيان مفهوم الثورة في بعض الأحيان يُنسينا كيف وصلنا إلى هنا لشخصياتنا قبل الظهور كل الصراعات هي أول المعارك التي هيأت جنود الثورة للظهور.