بلاد اللجوء

جريمة علنيّة، صدىً لماضٍ أليمٍ

By Women Now for Development

March 25, 2019

أرادت أمّي أن تكتمَ صوتي ، لكنّها لم تعلَم أنَّ صوتَهُ المطعون تفجّرَ في أعماقي ،وأنّ صرخةَ الرّوحِ أكثر تمزيقاً للقلبِ من رصاصة.

كانَ ذلك في ربيع 2012، بُحَّ صوتُ المئذنة من فرطِ بكاها شيخها بعد ذاك اليوم الذي غرقَ فيه الحيُّ كلّهُ بصمتٍ عميق ، وبدأت مونودراما الحرب إذ السّلاح وحده كان يقف على خشبتها أمامنا نحنُ ويردّد تراتيل الموت، الشّوارعُ أقفرت من النّاس ما عدا ذاكَ الشّهيد الذي ما زالَ صوتُهُ يتردّدُ في أذنيّ كصدىً لماضٍ أليمٍ بيني وبينهُ وادٍ من الأيّام . مضت ثلاثة أشهر ونحنُ نستأجرُ منزلًا في منطقة الدّحاديل القريبة من بساتين داريّا وكفرسوسة، المنطقة مزيج من البيئات السّوريّة المختلفة، قبل الحرب كانت هادئةً وساكنة ومتآلفة إلى أن بدأت الحياة تغيّر روحها و تسيرُ في مجرًى يشبهُ طقوس رواية جورج أورويل 1984 إثر اندلاع الثّورة.

الوشاة في كلّ مكان يختبؤون خلفَ النّظرات البريئة، وصلةِ الدّم القدريّة، وسنينِ العشرة، وميثاق الصّداقة، الكلّ مرتابٌ، خائف، غير واثق بمحيطه، وقد لاحظتُ هذا في الالتفاتاتِ المرتابة لشيخِ الجامع الحورانيّ الشّاب الّذي كان يقفُ مع مجموعةٍ من رجال الأحياء المجاورة أمام منزله ويتّفقون على موعدٍ للمظاهرات في منطقة القدم.

الجامعُ بجوار منزلي تمامًا، كنتُ أسمعُ خطبه والتّكبيرات التي تملأ سماء المنطقة وتهطلُ على قلوبِ الشّبانِ غيثًا من الحماس والتّفاؤل.

في اليوم التّالي لإحدى المظاهرات استيقظنا على أصواتِ الدّبابات وقد أغلقت جميع مخارج المنطقة وحوصرت الدّحاديل من كلّ الجوانب، كانت أصواتُ دعساتِ الفرقة الرّابعة تهزّ القلوب قبلَ الشّوارع. ولا نفتأ نسمعُ صوتَ بابٍ يُخلَع لنسمع بابًا آخر، منعوا الجميع من فتحِ النّوافذ لأنّهم يريدونها جريمةً علنيّة شهودها صمٌّ بكمٌ عُمْي.

اقتربوا كثيرًا من منزلنا استطعت مراقبتهم من شقّ صغير في زاوية شرفة السّطح، أحدهم كان يرفسُ بابًا في أوّلِ الحي وآخرون يتقدّمون فيه وهم يراقبون الأسطح والنّوافذ والأبواب، ويصرخون بأصواتٍ حيوانيّة كي لا يجرؤ أحدٌ على إخراج رأسه، ومشاهدة ما يحصل، وعندما وصلوا إلى منزل الشّيخ الشّاب سحبتني أمّي وهي تهمسُ بخوفٍ مؤنّبةً طيشي.

ارتديت ثلاثةَ أصنافٍ من الملابس فوق بعضها البعض خشيةَ أيديهم العابثة المعروفة بدنس قلوب أصحابها، نظرتُ من نافذة غرفتي من خلفِ السّتارة كان أحدّ الجنود يحملُ بيده بنطالًا عسكريًّا ويضعه أمام البيت المجاور لبيت الشّيخ، ثمَّ دخلَ إلى البيت، وخرج مسرعًا.

بعد قليلٍ علَتْ أصوات العساكر، وكان صوت الشّيخ الشّاب خافتًا تبدو نبرته قلقلةً كأنّما تيقّن أنّه مفارق.

كانوا يصرخون بأعلى صوتهم وكأنّما كلامهم له رسالة تهديدٍ لنا جميعًا : ” ربّكَ بشّار ولى، قول بشار الله ولى ” امتدّت لحظاتُ صمتٍ تلتها صرخةٌ مدويّة أطلقها الشّاب، لتتبعها الصّرخة من أعماقي: ” عم يقتلووووووه، عم يقتلوووه ” ، كتمتها يدُ أمّي كي تخفيها عن مسامعهم، جثوت على الأرض وأنا بحالةٍ هستيريّة.

لم يخرج أحد، حتّى الهواء كتم أنفاسه، مرّت دقائقُ معدودة وأعلنت رصاصةٌ يتيمة موته وفجيعة والده. الّذي خرجَ بعدَ أن ذهبوا بعاداته اليوميّة وفنجان قهوته وجلسَ أمامَ بيته على الدّرجِ ليستقبلَ جثّة ابنه المملوءةِ بالطّعناتِ ورصاصةٍ في الجبين بكلّ هدوء وكأنّه أعدّ نفسه مسبقًا لهذا الحدث، كان مشهدًا غيرَ مألوفٍ أبدًا، وعلى يمينه البنطال العسكري الذي تركته الفرقة الرّابعة كحجّةٍ ودليلٍ لتوهمنا أنَّ قطعةَ قماشٍ سبب كافٍ لإحراقِ المنزل وأصحابه.

وُضعتِ الجثّةُ المطعونة على حافّةٍ منخفضة قرب منزله، ثُمَّ أخفاها جارنا الذي يقطن في الطابق السفلي في بيته خشية أن يعودوا ويأخذوها  لأنّهم لا يبالون بحُرمة الموت.

لكنَّ عيناه المفتوحتان على وسعهما ما زالتا تتشبّثانِ بنظرتي المشدوهة الدّامعة وكأنّما أراد أن يحمّلني أمانة تشييعه أبدًا كي لا يموت في تلكَ اللّحظة ولا يضيع أثر الجريمة تحتَ مظلّة التّعتيم، لكم تمنّيت أن أواسي زوجته التي كانت حاملًا ولهما من الصّبيان اثنين، لكنّني تفاجأتُ أنّها لم تكن في المنزل وقت الحادثة وهذا ما أكّد لي أنّهُ أعدّ نفسه لقدرٍ محتوم دون مخافةٍ ودون تراجع.

دُفِنَ بهدوء معَ ثلّة من الشّهداء في الأحياء المجاورة، دون جنازة، شيّعتهمُ الشّوارع الضّيّقة وحدها،  وبضعة رجال خطفوا الوقت قبل عودة الجيش.

ما زلتُ إلى الآن بعد كلّ تلك السّنوات، أجثو على وقعِ صرخته، أبكي كأنّما أشفي غليل والده، وما زالت نيران المنزل المجاور تتأجّج في أعماقي إلى الآن حقدًا ونقمةً على نظام الأسد وشبّيحته.