بلاد اللجوء

هوامش من رحلة الهرب إلى دمشق

By Women Now for Development

October 15, 2020

سيطرت الكآبة على جونا العائلي بعد أن سافر والدي وأخي وبقينا أنا وأمي وإخوتي الصغار وحدنا تحت الحصار واستمرار القصف المدفعي في مدينة يغرس كل من فيها أنيابه بالآخر.ننام ونصحو على أصوات القذائف المدفعية التي كانت تنطلق بوتيرة منتظمة فجر كل يوم؛ فما أن يقول المؤذن الله أكبر حتى تبدأ سلسلة القذائف اليومية المعتادة وأحياناً كانت المدفعية تسبق آذان الفجر، لتكون أول ما نبدأ به يومنا. ويستمر القصف حتى طلوع الصباح، وكأن ملائكة الليل والنهار تجتمع ًفي وقت الضحى والغروب  شاهدة على الشهداء الذين يرتقون كل يوم، حاملةً معها أرواحهم نحو السماء بعيداً عن هذا الخراب البشري. 

اتجهنا من ريف دمشق هاربين من القصف ووصلنا إلى مشارف دمشق ونزلنا في المحطة الرئيسية التي تصل بين ريف دمشق والعاصمة المكان التعيس المعروف باسم ” كراجات السومرية”،الباصات داخل العاصمة ضخمة عما نعرفه في الأرياف، تتسع لقرابة ٤٠ شخصاً، ولكن في سوريا تبتلع كل ما تقدر على حمله من أشخاص، فترى أكثر من سبعين راكباً مكتظين فوق بعضهم البعض، يكاد لا يكفيهم الهواء، وثم يأتي صوت السائق يعبر الفراغات المعدومة بين الركاب، صارخاً: وسعو مكان لغيركن!!

رغم أن المكان صار أشبه بعلبة سردين” وكالعادة في وقت الظهيرة كانت الأعداد تتراكم فوق بعضها البعض،  كنت أحمل بعض الأمتعة ومنها حقيبة يدي وفيها بعض الأشياء ولكن أهمها ما يُعرف بسوريا باسم كرة النجاة المبدئية من السجون وأقصد هنا الهوية الشخصية، غيابها كفيل بإنزال اللعنات علينا كمدنيين من عساكر الحواجز. انتبهت ونحن في منتصف الطريق أن قفل الحقيبة كان مفتوحاً، بحثت فيها ولم أجد المحفظة الصغيرة. بدأت أرتجف من الخوف أنا وأعوامي الستة عشر و بدأت تنهال علي كل تلك القصص والسيناريوهات التي كان سكان دمشق يهمسون بها بحذر خوفًا من أن تسمعهم الحيطان” و كدت أفقد عقلي تمامًا. بحثت هنا وهناك ولم أجد شيئاً، طلبت من السائق أن يتركني على قارعة الطريق ونزلت كمن لدغته أفعى، وبدأت أبحث في الشوارع حتى تلك التي لم أمر فيها طيلة حياتي. 

عدت أدراجي نحو المحطة الرئيسية وصرت أبحث يميناً وشمالاً ولكن ولا حتى بصيص أمل واحد. لا أعلم كيف وصلنا إلى منزلنا في وسط دمشق دون أن يطلب أحد من عناصر الجيش هويتي، و اتصلت بوالدي وأنا أرتجف واتجهت مسرعًة إلى أقرب مركز شرطة في حي الميدان لأقدم بلاغاً، وصلت هناك في حوالي الساعة العاشرة صباحاً.إنها المرة الأولى التي أزور فيها مبنى الشرطة رغم أنني مررت من جانبه مئات وربما آلاف المرات. كان كل شيء مريعاً جد ًا فأنا و أمي وحدنا وأن تكون في مخفر شرطة سوري بلا واسطات أمر مفجع ومخيف.

طلب منا موظف الشرطة الذي مر على ً تقاسيم جسدي بنظراته المقرفة وكلماته المليئة بالحقد والشر والكثير من الغايات الدنيئة تجاه فتاة لا تتجاوز السادسة عشرة.طلب منا أوراقا من مكتب النفوس الذي يقع في منطقة الجزماتية، توجهنا إلى المكتب وبعد انتظار وفوضى ودفع المال حصلنا على الأوراق. 

عندما عدنا إلى الشرطي، طلب منا اوراقاً أخرى يجب أن نحصل عليها من نفس المبنى الذي كنا فيه قبل قليل.. شعرت حينها أنه يتلذذ بجعلنا ننتظر ونذوب تحت شمس ذلك اليوم الذي كان حاراً رغم أننا في شهر تشرين الأول، أم ربما دمائي هي التي كانت تغلي!

ساعات من الانتظار في بهو المبنى وساعات من التوتر ، طلب مني الشرطي أن أجلس بجانبه : اقعدي عمو قعدي ليش واقفة.. وأشار بيده إلى السرير العسكري الذي يجلس هو عليه، وفي الغرفة مكتب في آخرها وكرسيان ،وعلى جانبيها سريران من الحديد، على كل واحد منهما فراش أظنه موجوداً هناك منذ الأزل نظراً إلى لونه الأصفر من تراكم الغبار. في حلول الساعة الرابعة وبعد انتظار ظننته سيستمر إلى الأبد أحضرنا كل الأوراق المطلوبة و قام بملئ طلب ثم نظر إلي بطرف عينه:

_ وين شهادة المختار

 _ شهادة شو ؟ 

_ مارحتي عالمختار وعبيتي طلب انو ضيعتي هويتك _ …!ا

 _ بدكن تضلو طول اليوم شاغليني قومي روحي عالمختار جيبي ورقة وتعالي.

وبدأت حلقة جديدة من العذاب ، من حسن الحظ أن مكتب المختار يبعد مسافة ٦٠٠ متر لا أكثر. قال المختار المحترم أننا بحاجة إلى شاهدين على عملية السرقة، أخبرته أن والدتي كانت معي و صديق والدي كان يقف بجانبنا

_ أمك مابيصير تشهد لأنها أحد افراد عائلتك يمكن تكون عم تكذب معك

 _ يعني شو اعمل هلأ؟! 

_ لاقيلي شاهد تاني

 _ حسبنا الله ونعم الوكيل يعني كيف أمي بدا تكذب..

 _ روحي عمو لاقيلي شاهد تاني وانتبهت إلى أن عيناه كانت تتجه بخبث لئيم إلى صديق والدي، واتضح أنه يريد رشوة أو ما يعرف ب” تسليكة ” اتصلنا بأحد أقاربنا ولكن المختار رفض مجدداً بحجة أن الشاب لم يتجاوز العمر القانوني وهو في السابعة عشرة، 

ولا يحق له أن يشهد على الموقف، انتفضت غاضبة ومتعبة وبالصدفة البحتة عندما كنت خارجة من المكتب وجدت احد أصدقاء جدي والذي كان جارنا طوال ٢٠ عاماً عرفني عندما قلت له أنني ابنة م_ف

فقد مرت بضع سنوات على رؤيته لم يفكر مرتين وقال أنه سيشهد على الأمر

التفت المختار نحوي :

_كزابين هاد مو شاهد انتو هلأ برا دفعتولو ٥٠٠ ليرة ليشهد معكن.

اشتعلت النيران في عروقي ورحت اصرخ بصوت مرتفع

_ شو بدك يعني من وين جبلك شهود روح جيب ركاب الباص اللي بحياتي ما عرفتن لك شو بدك قلي هلكتو سمايي من الصبح

قامت أمي بسحبي نحو الخارج وأنا أصرخ وأشتم بطريقة لم أعتد عليها في حياتي كلها أعتقد بأن جارنا قد فهم الأمر وقام بإعطاءه ما اتفق عليه.

عدنا إلى مركز الشرطة وأنهينا الأوراق كلها وخرجنا وفجأة اتصلت بي إحدى معارفي التي سبق وكتبت رقمها على ورقة في حال اضطرت للاتصال بها الواضح أن من سرق المحفظة قام برمي الهوية مع بقايا المحفظة والصور الصغيرة لعائلتي تحت أحد المقاعد ولم يحتفظ سوى بالمال حين رأيت هويتي بين يديه شعرت أنني أتنفس من جديد كل ماكان يخطر في بالي أن احد الحواجز سيوقفني ويسألني عن هويتي وحين أقول له _مامعي هوية، ستكون هذه أول خطوة لي باتجاه الهاوية التي سأذوق فيها مرارات وعذابات لا يمكنني تصورها.

توجب علي العودة إلى مخفرالشرطة لأغلق الضبط بعد يوم حافل،وطلبت أمي من أخوتي انتظارنا على الرصيف المقابل للمخفر ريثما نعود. لم نكن قد تحركنا حين سمعنا صوت صراخ وشجار كبير، بضعة شباب تترواح أعمارهم بين السابعة عشرة والعشرين يتشاجرون على أمر ما، واحد منهم كان “عميل” رأيته يركض نحو مخفر الشرطة وخرج برفقة شرطي وهو يصرخ

_ كان عم يسبكن (يشتمكم) سيدي ، وعم يسب سيادة الرئيس. 

في هذه الأثناء وصلنا أنا ووالدتي سريعا نحو المخفر، المبنى كان فارغاً إلا منا، في قرابة السادسة و النصف عصراً، نظر الشرطي إليّ بغضب

_ عم تلعبي معنا وتتسلي..

_لا كانت ضايعة ودقولي حتى آخدها من ساحة المرجة ومن شوي 

_ عم تكذبي كمان.. تاني مرة قبل ما تقدمو طلب وتشغلو الدولة بالمسخرة تبعتكن بتنقبري بتدوري منيح على هويتك، بتشوفيها اذا كانت تحت مخدتك.. _ بس هويتي ماكانت بالبيت قلتلك جزداني انسرق 

_ لا عاد تكذبي لسا نسرق والتقى، شو هالقصة الملفقة هي

 في هذه الاثناء دخل عنصر آخر من اٌلشرطة يجر بيده اليسرى الشاب اليافع الذي رأيناه في الخارج في الشجار ، يمسكه من ياقة قميصه ويقوم بضربه بيده الأخرى بكل قوة وقسوة، يركله بقدمه وينهال عليه بسيلٍ من الشتائم والكفريات. نهض الشرطي من على الكرسي وهرع ليساعد زميله في حفلة الضرب الوحشي.، سمعنا صوت باب زنزانة حديد يفتح، الفتى يصرخ ويبكي 

_ مشان الله يا سيدي والله ماعملت شي هنن هجموا عليي، مشان الله يا سيدي.. لك آااخ يا أمي _ مشان الله 

_تعا خلي الله يشفعلك هلق لشوف ولاك. 

 _ يا سيدي..

 صفعة أخرى على وجهه أخرسته تمامًا، ثم سمعنا صراخه من جديد كان يلسع جلده بالسيجارة المشتعلة بيده.

عاد إلى الغرفة نظر إلي بوحشية _ إذا لسا بتاكلي خرا وبتجي بتشغلي الدولة بقصصك وبتقليلي مرة تانية ضاعت الهوية بدي فوتك وراه عم تفهمي..