آلام الآخرين

آلام الآخرين

هذه المقالة هي مقدمة سلسلة مقالات ستكتبها سمر يزبك تحت عنوان كيف سرحت شعر الميدوزا، عن ألم القويّات وتفكيك الشر

لماذا علينا أن ننظر إلى آلام الآخرين؟ (١)

 

لم يهتم الفيلسوف (بيونغ تشول هان) بمصير (الميدوزا) وغضبها، حين وصف عالمنا المعاصر بأنه يفتقد إلى تحديقة الرعب في عينيها. خلافاً له، كنت وما زلت مهتمةً بالبحث عن غضبها ولم أفقد تحديقتها تلك، رغم أني  حين  رفعت رأسي مؤخّراً عن حفرة المقبرة الجماعية وتوقّفت عن توثيق الفظائع، أدركت أن تلك المقبرة  صارت رأسي نفسه.

مستعينةً بالشقاء كان سؤالي عن الحقيقة والمعنى هو بدايةُ علاقةٍ غامضة مع الصمت بوصفه مساحة كتابة، استحضار النسيان كفجوةٍ لاحتمال الذاكرة، ترتيب فراغات الفاجعة، البحثُ عن معنىً واستدراجُ الأسئلة في السرد التخييلي وتَلَمُّسُ الحقيقة  في السرد التوثيقي، وفي كلتا الحالتين، مستجديةً المعنى وتشاكله، والحقائق وتناقضاتها. كان لدي جامعٌ واحد بين كل ذلك ما زلت أعيش هاجسه هو لماذا علينا أن نكتب عن آلام الأخرين؟

قبل ذلك ربما هناك سؤال ممجوج: لِمَ علينا أن نكتب؟

لا توجد لدي إجابة واضحة، فأنا كاتبةٌ متعدّدة الهويات، تغويني الأسئلة وتنفّرني الأجوبة المطلقة، وأضع احتمالاتٍ في أننا ربما نكتب لنصيرَ مرئيين، بغض النظر عن مرجعيتنا في ذلك. نكتب لنكون ذواتاً مرئية؛ سواء أكان ذلك نابعاً عن خجلٍ في التعبير الشفاهي، أم عن أحلام دونكوشوتية بالعدالة، أو نابعاً من حساسيةٍ مؤلمة تجاه بؤس العالم، أو حتى للسخرية من أنفسنا ربما ومن العالم حولنا، بكافّة الأحوال نحن بحاجة لأن تكون كلماتنا مرئية مقروؤة، وهي في أهمّيتها تلك تبحث في تعدّد جوانبها عن اللطف البشري الذي يُشيرعن أولى درجات الإنسانية والعدالة.

اللطف البشري تستدرجه كتابة الفاجعة، ففي كتابة قبحها بحثٌ عن نقيضها، هذا “اللطف” بحاجة لتلك الحقائق الفظيعة، وهذه الغرابة في إيجاد تعريف فعل الكتابة هو جوهرها، إنه فعلٌ لا نهائي وغير معرّف، إنه الفعل الأكثر علاقة بنقصان الحقائق، وهو فعل الحقيقة ذاتها، إنه اجتماع النقائض مكتملة،  تمدُّ يدها متضرّعةً نحو ليلٍ من الأسئلة التي ربما تجعلنا نفهم النفس البشرية، هذه الحقائق المتجدّدة التي قد تُكرر السؤال نفسه وتلِدُه من جديد: لماذا نكتب؟

تخصيص الألم

قد يبدو من المفيد عند النظر إلى آلام الآخرين، البدء بتعريف حقيقتها وربطها بتاريخ محدّد وحدث استثنائي وتخصيصه، أي بالإشارة إليه بوضوح دون التعميم؛ ما حصل في آذار سنة ٢٠١١، عندما  نظر السوريون في ذواتهم وطالبوا بالحرية والكرامة والعدالة، ذلك التاريخ المفصلي الذي أعود إليه وأبحث فيه عن معنىً غيرِ حياتي، كيف حِدْتُ ولسنواتٍ عن هويتي الروائية، ودخلت الفاجعة لأدركَ تماماً ضرورة التورّط فيها ومعها.

أمّا لماذا التوّرط ، فأريد البدء بالحديث عن الرأي القائل إن الفنّ ينبغي ألّا يرتبط بالسياسة؛ هو بحدّ ذاته موقفٌ سياسي (٢)، هذا في حال لم نُحِلْ كلمة  السياسة إلى ما هو شائع، الشيء الذي يفترض الكذب بدل أن يكون شغل السياسة هو الحقيقة.

لقد مضى زمن طويل على ما سعى إليه (جورج أورويل) بمقولته أن لا مهرب من السياسة، حتى لو أولينا لها الظهر وتوّرطنا باللامبالاة التي تطلق الشرّ. كان ذلك قبل أن يكون بإمكان شاب صغير في قرية سورية نائية أن يصوّر ويوثّق  ببساطة ما يحصل، وينقل تفصيلاً صغيراً من حقيقة كبيرة؛ قصفُ الحيّ الذي يعيش فيه على سبيل المثال، وقبل أن يتحوّل العالم إلى  شلال جارف من الحقائق المصوّرة التي تجعلنا  نعتقد أن الحقيقة صارت ملكاً للجميع عبْر الصور، وأننا أحرارٌ فيما نفعله ونعبّر عنه على شبكة الانترنت، وأن زمن الكلمة انتهى.

وقد يُخيّل للكثيرين حتى أن وجودنا نفسه كفاعلين في المجال العام قد أصبح باهتاً ويفقد معناه. لقد فقد المثقّف دوره التقليدي، وصار لزاماً عليه القبول بتقويض سلطته النبوية والبحث عن أدوات جديدة لإنتاجية فاعليته. نستطيع تخيّل أن المنتجين للسرد الذين يستدرجون الأسئلة فقدوا أساس وجودهم، وأن الفلاسفة المعنيين بتأمل الأفعال البشرية  فقدوا قدرتهم على معرفة الأجوبة.

ربما يكون في هذا جزءٌ من الحقيقة، فأنا أدركُ أني أكتب كلماتي هذه جرّاء فعل هزيمة ساحق، ولكن ربما يمكن لي الإشارة وأنا أحدّق في الهزيمة /الشخصية، الوطنية/ إلى أنه لا بدّ لي من النظر إلى الماضي والحاضر لأتطلّع  إلى المستقبل!

في الحاضر جعل السوريون من شاشات هواتفهم ومنصّاتهم  الإلكترونية جنازةً دائمة، يحضر العالم من خلالها موتهم كي يصدّقهم، ملؤوا الدنيا ضجيجاً بفظائع تشكيلات أجسادهم المقطّعة. كان بإمكان عين العالم الجديد أن تحدّق قليلاً فيما يحصل لهم، لكن طبيعة البشرية الجديدة جعلت من صورهم نفسها أداةً للاعتياد على موتهم، حيث لا يحقّق نشر الصور المتسارعة العنيفة للجسد السوري رغم هدفِ عرضها النبيل إلّا مَحْوِها وجعلِها سطحاً ناعماً من الأجساد اللامرئية، ضمن ما يصفه (بيون تشول هان) بمجتمع النعومة، حيث يجد أننا موهومون بفكرة الحرية التي منحتنا إيّاها وسائل التواصل على الانترنت.

الصور لحظية متدفّقة تمحي معناها بفعل طبيعة السوق الإعلامي الرقمي، ويرى (هان)هنا أننا في مجتمع الفرجة حيث التفرّج لا يتطلّب عناءً، والإشهار سهلٌ ومُتاح، ويسمح  بانفلات الذوات وبتحويلنا أنفسنا كأشخاص فاعلين إلى صورة قبيحة في المشهد؛ قبحها يأتي من بهاتتها وتكرارها والانغماس فيما هو آني ولحظي يومي، حيث تصير صورنا تلك أداةً للكسب، للتسويق الناعم الذي يمحو معالم الجرائم والضحايا، وربما يقوم بتحويل المعنى وانتزاعه من أصالته.

إن إعادة المعنى لأصالة كلمة حرية التي بدأت مع سنة ٢٠١١، تستدعي النظر إلى صور آلام الآخرين بذلك البطء القاسي. كأن نشّبه كلماتنا وشهادتنا عن الحقيقة بجهاز تحميض الصور، السرد هو ذلك الحمض ( المُظهِر)  داخل الحوض الذي تطفو فيه الصورة ببطءٍ وتظهر شيئاً فشيئاً، أمّا البطء القاسي في النظر إلى تلك الصور المؤلمة فأسمّيه (المُثبِت). كلماتنا تثّبت الزمن لوهلة. شهادتنا عن حقيقةٍ خاصّة معيّنة تنتشل  صور الفظائع من نعومتها، من عاديتها. نفعل ذلك  بالتطلّع والتحديق في آلام الآخرين، و في هشاشتهم حسب تعريف جوديث بتلر: ” أريد أن أقترح بأن الهشاشة يمكن فهمها فقط إذا كنّا قادرين على التعرّف عليها على أنها قضايا سياسية، الارتباط والحاجة الجسديان، الجوع والحاجة للمأوى، القابلية للأذى والتدمير، صورٌ للتكاتف الاجتماعي التي ساهمت في جعلنا ننمو ونعيش، سأقول صوراً مجسّدة للتكاتف الاجتماعي والعاطفة التي ارتبطت ببقائنا بذاته” (٣)

إن التعريف الذي تقترحه (بتلر) يحيل إلى أهمّية فعل الكتابة عن آلام الآخرين، وعدم غضّ النظر عن راهنية هذا الوقت الذي تحوّلت فيه صور المجازر  إلى درسٍ تأديبي للشعوب لإعادتها إلى نهج العبودية. إن صورة الشاب السوري الذي يمكن أن يفقد قدمه جرّاء قصف الطيران تتحوّل في مجتمع النعومة  إلى قضية أخرى، دون السؤال لمَ يقوم مراهقٌ بالاستلقاء تحت طائرة ملاحقاً الصواريخ التي تقصف أهله وجيرانه؟ ستتدفّق في دقائق آلاف الصور الجديدة غامرةً  ذاكرة البشرية كحبّة نسيان لا يوقظها بين حين وآخر إلّا صورة أكثر فظاعةً.

حبّة النسيان تلك ليست مؤامرةً لطمس صورة الضحية، إنها جزءٌ من نظام نعيش عليه وفيه ونمارسه بإرادة وحرية. لم يكن الأمر هكذا  في زمن  الصورة الفوتوغرافية، كان أقلّ فداحة لأن الصورة كانت تثبّتُ الزمن وتواجهه، وتفتح المجال للتحديق والمساءلة. الصورة الرقمية تسّيل الزمن وتُعمي تفاصيله وتمحوه، من هنا  تتحوّل كتابتنا عن صور الألم والضحايا بمثابة لحظة حقيقة ضرورية؛ لا بدّ لنا من الكتابة لإعطاء المعنى لشجاعة ذلك الشاب السوري الذي يقف في عين الصاروخ ويصوّره.

علينا أن ننظر في صور جثث اللاجئين المنتشرة على شواطئ أوروبا، وننتشل الصور تلك من نمطيّتها التي تحوّل موتهم التراجيدي وقضيتهم من السياسي إلى الإغاثي، أن نكتب عنها؛ لماذا يغرق طفل في الخامسة من عمره في البحر؟ ما الذي يوجد وراء التعاطف الآني و وراء هكذا صورة؟ لِمَ تموت طفلة برداً في أحد المخيّمات السورية؟ لِم يقف السوريون أذلاّءَ مهانين في أرتال عبيدٍ طويلة للحصول على رغيف خبز؟ لِم يمتلئ الشارع تحت جسرٍ وسط دمشق بصراخ الأمّهات اللواتي ينتظرن  عودة أولادهن من السجون.

إن النظر إلى ضحايا مجزرة التضامن  والبحث عنهم والتعرف إليهم والتحديق فيهم والكتابة عنهم ما هو إلّا جزءٌ من استحضار حقيقة الشرّ الناقصة، وهو فعل ضد اللامبالاة، وهو أوّل خطوات طريق العدالة المستباحة.

علينا أن نطيل التحديق في حفرة التضامن التي تهاوت فيها تلك الأجساد، ألّا ننساها، أن نتماهى مع غيابها كحضور دائم، وأن نعيد تشكيل حيوات ضحاياها ونطلقَهم في وجه القتلة.

إن العلاقة مع فعل تظهير الألم هو في التحديقة نفسها (تحديقة الميدوزا)، أن ننظر في رعب الفظيع! أن نكتب لننتشل لحظة عبور تلك الصورة الصادمة من فعل التعاطف اللحظي القائم على تفريغها من حقيقتها. ما يهمّ هو إبراز تلك الصورة ورواية حكايتها، علينا ألّا ندع العالم الذي يتفرّج ويتعاطف أن يُبيّض ضميره بتحويل معنى موت الضحايا لمصالح سياسية واقتصادية.

إن لم نفعل ذلك فكيف يمكن لنا النظر إلى المستقبل؛ (مستقبل سوريا، ربما!) إلّا عبْر ذاكرة الحاضر والماضي؟! حيث يتحوّل النظر إلى الفاجعة لنقطةِ بدايةِ تشكيلِ أبجديةِ ذاكرةٍ مُقاوِمة؛ ذاكرة المتألّمين.

بانوبتيكون سوري

هل نظرنا في آلامنا كفاية؟ هل تطلّع كل منّا في آلام الآخر؟

هناك مثال يحضرني في الحديث عن علاقتنا بآلامنا، مثال السجن الذي صممه سنة 1791 (جيريمي بنثام)، وسُمّي بالبانوبتيكون Panopticon وهو مجموعة زنازين  دائرية لا يُسمح للسجناء فيها أن يتواصلوا. عندهم مراقب واحد في برجٍ وسط السجن يراهم جميعاً، لكنهم لا يرونه ولا يرى  بعضهم  الآخر، كان هذا السجن  لتقويم المجتمع وتأديبه، وقد استعار (ميشيل فوكو) وصف هذا السجن في حديثه عن نشأة العبودية الذاتية لأفراد المجتمع، فهم  ليسوا بحاجة لضبطٍ مباشر، لأنهم يدركون وجودهم  تحت مجال المراقبة، وهم منفصلون لا يعرف أحدهم الآخر.

أظنّ أننا عشنا كسوريين لعقود داخل هذا السجن، حيث مُزّقت الروابط التي كان لها أن تشكّل اجتماع هويةٍ وطنية تحت ظلّ الحكم العائلي الأسدي.

على الطرف الآخر وفي الإنسانية الجديدة العالمية  لدينا (بانوبتيكون)  ناعم أملس بلا جدران، يفرّق  (هان)  بينه وبين السجن القديم؛ في أنّ الكل يراقب الكل. لا يوجد مراقب مركزي، كل فرد مركز نفسه، وهو نفسُه برج مراقبة على الآخر. سجينُ سجنِ (بنثام) لا يرى إلّا نفسه ولا يعرف الآخر، بينما في السجن الرقمي الجديد يعتقد الإنسان أنه حرّ، يرى الآخر الذي يراه بدوره، الجميع متصلٌ مع الجميع، وفي الآن ذاته الكل منفصل عن الكل.

إن المراقبة هنا تجعل من السجّان المُتخيّل في سجن (بنثام) هو كل واحد فينا، كذلك هو السجين، يعتقد كل إنسان أنه يمتلك نفسه، وهو حرّ شفّاف بأن يعرض ما لديه،  ذلك ما يسمّيه (هان) بسمة حياتنا الجديدة التي  تجعل من المُستَغَل المُستغِل نفسه، ويخلص إلى أن هذه الحرية وهذه الشفافية هما أدوات السوق الجديدة والحتمية الاقتصادية، ويذهب في تشاؤمه بعيداً (إن صحّ القول) ليقول  إن مجتمع المراقبة والتحكّم الشفّاف لا يُولد اجتماعاً بشرياً ومجموعاتٍ ذات روابط اجتماعية، بل ما سمّاها بمجموعات المصادفة التي تتشكل بفعل المصلحة، وهي لا تشبه التجمّعات البشرية التي تكون قادرةً على العمل السياسي، أو لديها إمكانية تشكيل هوية ( نحن). تصبح الحرية شكلاً من أشكال السيطرة!

المُلفت في تاريخ  الحديث عن مجتمع التحكّم ومفهوم العبودية التي تحدّث عنها (فوكو)،  وكيف تتحوّل إلى جزء من هويتنا، هو كيف طوّرها ( هان) في حديثه عن إنسان العصر الرقمي، مستقبل البشرية، فحرية الفرد وعبوديته تتداخلان وتتشاكلان، حتى إننا نستطيع بالكاد التعرّف على معنى كل منهما في الإنسانية الجديدة.

هذا المثال هو ما يحضرني في وصف أحوالنا نحن السوريين، لقد كنّا في ذلك السجن، لم نكن نعرف بعضنا، كنّا محاصرين في مكانٍ نتوّهم فيه أننا نرى بعضنا، وما أن لاح لنا أننا أحرارٌ فيما نقوله ونفعله، حتى كنّا لسوء صدفة التاريخ خارجين من كهف عبوديةٍ مظلم، خاضعين فيه لنظام دكتاتوري مافيوي، ولنظام عالمي متوّحش في آن معاً، انفجرت الهويات اللاوطنية للسوريين في الداخل والخارج. خرجوا من بانوبتيكون جغرافي إلى آخر عالمي رقمي، سجنٌ كبيرٌ لم  تنجُ منه المجتمعات المحلّية، ولم ينجُ منه المثقّفون؛ تلك مسؤوليةٌ نتحمّلها، ويجب علينا مكاشفتها وإعلانها!

نعم إنها لَورطة قاسية ! كيف يمكننا النظر إلى آلام السوريين، كل السوريين كهوية وطنية  منذ أن عرفنا بلدنا كدولة؟ إنها ورطة ضرورية الخوض، ليس لأنها جزءٌ من صناعة مستقبل فقط، إنما لأنها تقاوم عملية الإمحاء التي فصلتنا عن بعض وحشرتنا في سجنٍ كبير، ومنعتنا من رؤية آلامنا، إنها أسئلةٌ لإعادة تعريف أنفسنا ونحن ننظر إلى تلك الـ (سوريا) المنقمسة والمحتلّة الآن. كيف يمكن أن نقرأ بعضنا كمنتجين للكلمات والسرديات على سبيل المثال؟

كنت وما زلت أدافع عن ورطتي هذه في ألّا أنجو من الشرير والسؤال من هذه الزاوية المعتمة المطلّة على الفسيح المرعب أمامي. أفعل ذلك كروائية وفنانة بانزياح هويتي وتغيّرها وتشكّلها من جديد، وتشظّيها لهويات متعدّدة تشبه سوريا التي ولدتُ فيها وما زلت أنتمي إليها.

من هنا أظن أنه علينا أن ننزاح ونتغيّر ونتشكّل عبْر آلامنا، نحن المشتغلين بالكلمات، أن نرى ما يفعله السوريون في الخارج والداخل ونحدّق في آلامهم بعدالة، نعم فللألم ميزانٌ أيضاً!

ربما يكون في هذا الحديث ما يوحي بنزعة تبشيرية، لا بأس! فهذا النصّ ليس إلّا محاولة مساءلةٍ لنفسي أولاً، ويمكن لي القول أن هذا الشخصي السردي يعود ليؤكّد السياسي. علينا إخراج السياسة من قالبها العقائدي الفجّ، علينا أن نكون  ضد التيار السائد الذي يمحو الاجتماع، أن نقاوم هذا التشتت، ليس أملاً  في العودة إلى ما كنّا عليه، بل في التحرّر مما نبتَ في دواخلنا كأفرادٍ مُستعبَدين يعيدون إنتاج القمع والسلطة . إننا مسجونون داخل طبقات متعدّدة، نراقب أنفسنا وحدود هوياتنا ( الطائفية، القبلية، القومية، المناطقية، الطبقية …)، بعضنا يخجل من ذاته لأنه نجا واحتفظ بحقّ الحياة، إننا نفاضل إنسانيتنا بتلك الوحشية التي تتطلّبها عين الجلّاد المراقب، أعيننا نحن الناجين الأحياء، نحن الذين لم  ننجُ  تماماً؛ مَن فقَدَ ذراعاً نتعاطف معه أقلّ ممَن فقَدَ ذراعين، ومَن مات يصير بطلاً، ومَن عاش نجرُّه إلى مقصلة الإعدام المعنوي، ونحن نصيح تشفّياً! التفاضيلة الوحشية التي تحدّ تعاطفنا مع فاجعة كل منّا، ثم يصير الأفضل هو مَن تحطّم أكثر، أو ربما صمت إلى الأبد مبتعداً عن مستنقع الشرور هذا.

إنه سجن كبير نعيش فيه، ولا مجال للمراجعة مع أخطاء العالم  إلّا  بتأمل آلام الآخرين كجزء من تأملنا لآلامنا الشخصية، إنها لحظةٌ مُلحّة للنظر بعين الفاحص إلى ما كنّاه، هذه الـ (أنا ) التي تتطلّب التحديق مطوّلاً دون أن نفقد تحديقة الرعب في عيني (الميدوزا) ونحن نعبُر من بانوبتيكون محلّي إلى آخر عالمي.

كيف  لنا نحن الضحايا/ الجلّادين أن نؤبّد فينا لحظة انفجار المتألّمين سنة 2011 ؟

كيف يمكن لنا أن نعيد لها حقيقة كرامتها؟

هوامش

١– الجملة مستوحاة من كتاب سوزان سونتاج (النظر إلى آلام الآخرين)
٢– ذكر الكاتب البريطاني جورج أورويل في مقال لماذا أكتب نشر سنة ١٩٤٦ في جانجريل gangrel  أربعة دوافع للكتابة منها؛ الشخصي الجمالي، التاريخي،السياسي، وأضاف تعليقه مؤكّداً أن لا مهرب من السياسة
٣– من محاضرة ألقتها ( جوديت بتلر) في متحف نوبل وبُثّت على اليوتيوب بعنوان (الحياة الهشة)