“مضت سبع ساعات … ما زلت أنتظر وأستذكر سبع سنوات مرت قضيتها في شوارع دمشق والغوطة الشرقية لأسقط النظام الحاكم ، وها أنا اليوم أحتاج أوراقه الثبوتية … لأعبر”.
عندما بدأت الثورة السورية شارك أغلب الشباب السوري بها دون أدنى تفكير بالخطوات اللاحقة، فقد كانت استجابة سريعة لثورة الحرية وتلبية لنداء انهاء حقبة الاستبداد والظلم في سوريا.
كنت في السنة الثالثة بالجامعة، انخرطت في صفوف الثورة الأولى ومع ذلك تابعت دراستي وترفعت للسنة الرابعة واخترت اختصاص تصميم الخرائط الكترونياً.
لم أتوان عن الحراك الثوري وشاركت في اعتصام طلاب الطب الذي لم تمض عليه دقائق حتى هاجمنا شبيحة اتحاد الطلبة.
أعددت مشروع التخرج وقدمت الامتحان وكنت انتظر تخرجي، لكن تم اعتقالي وحُجبت علاماتي في الجامعة. وعندما خرجت من الاعتقال ضمن صفقة تفاوض لم أتمكن من العودة لجامعتي لاستكمل موادي التي علقت، و لا حتى أن أحصل على اثبات لوجودي في الجامعة بسبب وضعي الأمني. عدت إلى الغوطة الشرقية التي ترافق بداية تحريرها مع خروجي من السجن، حيث بدأت مع صديقاتي بتأسيس أول مركز تعليمي في الغوطة وجمعنا أطفال المدينة، وتكاثر هذا المركز بسرعة ليصبح مؤسسة تعليمية متكاملة بلغ عدد مراكزه خلال عامين (28) مركزاً.
تنقلت في الأعمال خلال حصار الغوطة، من النشاط السياسي، للتعليم، للمجلس المحلي والمحافظة والتمكين النسائي والإعلام، مؤجلة حلمي في استكمال تخرجي حتى سقوط النظام أو الحصول على فرصة أخرى لأتابع طريقي في تحصيلي العلمي وتحقيق حلمي.
وعندما تم تهجيرنا من الغوطة الشرقية في الشهر الرابع من عام 2018 ووصلنا إلى الشمال السوري، عادت لنا أحلامنا في الدراسة و استكمال تعليمنا أو متابعة نشاطنا. لكن اصطدمنا بواقع مرير جعلنا نفضل الموت تحت براميل و حمم النظام التي نجونا منها لتلحقنا لعنة الأوراق الثبوتية، حيث لم تعترف المجالس المحلية الموجودة في المناطق المحررة بأوراقنا الثبوتية المسجلة لدى المجالس المحلية للمناطق المهجرة، بل كانت تعرف بأوراق النظام، و ترفض الاعتراف بسجلات المجالس المحلية التي تعود معها إلى السلطة الأعلى، وهي الحكومة المؤقتة، فاضطر الكثير من المهجرين إلى إعادة تثبيت واقعاتهم ومنهم من قام بتوكيل محام أو معقب معاملات في مناطق النظام بمبالغ باهظة ليحصل على أوراقه لتعترف بها هذه المجالس المحلية.
أما الجامعات فجميعها سواء كانت بالداخل السوري أم بالخارج فتحتاج إلى كشف علامات صادر عن الجامعة التي تتبع للنظام لتتمكن من التقديم على منحة، أو تضطر للعودة لإعادة امتحان الشهادة الثانوية لتحصل على فرصة جديدة بالقبول الجامعي.
الآلاف من الشباب السوري مطلوب لقوات النظام، ولا يستطيع أن يحصل على هذه الأوراق، ولا بد لك أن تلجأ لأحد السماسرة والوسطاء بيننا وبين موظفي النظام الفاسدين لتحصل على أوراقك.
حاولت استخراج كشف علامات و تواصلت مع أحد هؤلاء المرتزقة ليصعقني بالتسعيرة … ثمانمئة دولار بشكل أولي.
حسنا، أريد جواز سفر… ألف وخمسمئة دولار!
توقف لا أريد أن أعرف بقية الأسعار، من أين لي بهذه الدولارات وأنا التي خرجت من بين براثن حصار ما عرف التاريخ مثله وخسرت كل ما أملك وهجّرت، ولم يُسمح لي إلا باصطحاب حقيبة سفر أضع بها ما نجا من الحرب.
ما الذي حل لتصبح الأسعار هكذا؟
ما هو الحل الممكن أن أتبعه لأستطيع إكمال حلمي وأي عمل قد أعمل به يكون مردوده يكفي لهذه الأسعار؟
دخلت في موجة اكتئاب وصعقت مما جرى وحالي هذا يشبه حال الشباب السوري الذي لوحق من قبل النظام وفقد أوراقه. لا نستطيع متابعة دراستنا أو التقديم على عمل يحتاج إلى شهاداتنا أو إثبات تحصيلنا العلمي. ولا نستطيع استخراج أوراقنا من سجلات النظام. وقد غُيب هذا الموضوع بشكل كامل عن كل تشكيلات المعارضة السورية الخارجية، ولم يفاوض أحد عليه، وكأننا يجب علينا أن نستمر بفقدان طموحنا أو نفعل شيئا ما للحصول على هذه المبالغ.
قررت أن أوقف حلمي في متابعة دراستي لمدة سنة على الأقل ريثما أستطيع الحصول على كشف علامات. لملمت مصيبتي وقررت أن أعتبرها سنة حصار أخرى تضاف إلى ما عانيناه في غوطتنا التي خسرناها رغم صمودنا، لأدخل في صدمة أخرى حيث دعيت إلى حضور ورشة في تركيا، ولكن واجهني عائق وهو عدم امتلاكي لجواز سفر. لكن الهيئة المنظمة للورشة لم تستسلم، حيث حصلوا لي على إذن سفر مؤقت لدخول تركيا، واقترب يوم السفر.
أعددت حقيبة السفر وتوجهت لمعبر باب الهوى و كلي ثقة بدخولي تركيا حيث سألتقي قسماً كبيراً من أصدقائي وأهلي، الذين باعدت بيني و بينهم الحرب.
ولكن بمجرد وصولي للنقطة صفر، كما يسمونها، تم إيقافي ومنعي من الدخول و السؤال الأول الذي وجه لي: “أين جواز سفرك؟”
لا أملك جواز سفر ولكن أملك تصريح دخول من المفترض أن يصل إليكم فبحث الموظف عن اسمي و لكن دون جدوى.
قال الموظف: “لا يوجد تأكيد”. قلت له: “لقد تم إبلاغي من الخارجية بإذن السفر، هل بإمكانك أن تتواصل مع الموظف على الجانب التركي؟”، فأجابني بلا.
بقيت سبع ساعات ما بين تواصل مع الخارجية ومحاولة مرات ومرات مع الموظف والتحايل للوصول إلى الطرف الآخر، وكل تلك المحاولات باءت بالفشل، فجلست على الرصيف لا أملك إلا دموعي التي ذرفتها و أنا أستذكر كل المواقف التي عشتها في هذه السنوات السبع لأعود و أقف على معبر يمتلكه الثوار الذين من المفترض أن يعرفوا حجم مأساتي ومأساة آلاف السوريين، ليطلبوا مني ثبوتيات النظام، لأن تعليمات الأتراك تمنع دخول أي سوري لا يمتلك أوراق النظام، وهم أصدقاء الشعب السوري، ويعيدوني إلى حيث أتيت لأقف هنا و ألعن كل من قصر بحق تضحيات أجيال كاملة دمرت حياتها ومستقبلها من أجل أوراق تصدر عمن قتلها سابقاً ونجت من الموت، ولكنه تمكن منها … بأوراقه الثبوتية.
خاص للشبكة السورية الرابط الأصلي
What do you think?