سقطت أم تحررت، صديقة أم عدوة، حمراء أم خضراء، هذا لم يعد يهمنا بعد اليوم. فالأمتار القليلة التي باتت تفصلنا عن الموت نهايتها محتومة؛ إذن لمَ نزعج أنفسنا في أيامنا الأخيرة بالتنازعِ على أرضٍ قدرُها أن تكون محرَقة؟
لم تعد تسعفني الكلمات كما اعتدت كل مرة عندما ألجأ إليها خلال لحظات ضعفي. لم تعد اللغة العربية بعظمتها سوى السبيل الأخير لوصف ما يجري. لن تنقذني، أو توقف الموت في وطني، لكنني رغم هذا أجد نفسي متشبثة بشراسة بها.
مللتُ الحديث عن سنوات الحرب الثمانية في سوريا، الأجدر أن أصف آخر ثلاثة أشهرٍ في ريف إدلب الجنوبي. تنزلق مفردات الموت بكثرة من بين أصابعي، لتستوطن نصوصي. لكن ما يحدث يجعلني عاجزة حتى عن الوصف، إذ أخشى ألا أعطي شقاء النزوح حقه. ألم الفقد والخسارة، واقع التشرد المرير، حقيقة حداثة الفقر، والحلم الوحيد في تأمين رقعة آمنة ولقمة خبز.
يحركوننا كاللّعبة، ويخططون لأجلنا خططاً نهايتها التراب والظلام، ويمارسون نرجسيتهم علينا، بينما نحن البشر في ريف إدلب أحياء! ما زلنا أحياء فعلاً ونتنفس! ومن لحم ودم! فكيف تتخلصون منا كما لو أننا مجرد أرقام وإحصاءات؟!
كأننا نعيش كابوساً، أو نمثل فيلماً. كأننا مرضى سرطان ينازعون كل ساعة، يودّعون الأشياء والأشخاص، ويعيشون كل يوم كأنه الأخير في حياتهم، ثم يستيقظون في اليوم التالي لتبدأ رحلة المعاناة. كأننا نرفض تصديق واقعنا المميت.
“ميسورو الحال” مصطلحٌ جديد يتداوله سكان ريف إدلب الشمالي، الذي لجأنا إليه من الريف الجنوبي، والذي يفترض أن يكون آمناً. هذا المصطلح يطلق على من اتجه شمالاً واستطاع أن يجد سقفاً ينام تحته، وحائطاً يستند عليه، وباباً يحفظُ خصوصيته. لكن ماذا عن فقير الحال؟ ماذا عن أولئك الذين فقدوا كل شيء خلال ثوان بسبب صاروخ روسي وتحولوا إلى فقراء؟ ماذا عن اليتيم والوحيد والمريض؟
لا تَأَقْلُمَ مع الألم والعذاب، لا أُلْفَةَ مع الخطر والرعب والتهديد، لا مزاح مع التشرد والموت. عشرات السيارات المحمّلة بأثاثٍ كان ملاذاً لعائلة أصادفها في طريقي كل يوم، مئات الوجوه المتألمة أقابلها في المخيمات والشوارع، وآلاف الأصوات الباكية تحت الأنقاض وبين ألسنة النيران. فكيف أتأقلم؟ كيف أكون إنسانة سويةً؟ كيف أخلو من العلل وأمراض العصر من توترٍ، وخوفٍ، واكتئاب؟
بتنا كالسماسرة نبحث في كل بقعة عن مأوى. نبحث، نترقّب، نساوم، ونحاول أن نكون عوناً في الأيام المتبقية لحياة أحدهم بينما نحتاج نحن العون. ضاقت بنا السبل حتى اختفت، ولم يعد التنهُّد يريُّحنا، ولا حتى البكاء. يصبح الإنسان شرساً عندما يشاهد طفله يتلوّى من الجوع.
ما يمكنني أن أطلقه على أيامي هذه أنّها: كوميديا سوداء حالكة. وعندما أفكّر أن أحظى بطفل، وأمارس حقي الذي منحني إياه الله بأن أكون أمَّاً، ألعنُ نفسي عشرات المرَّات.
طفلٌ؟ لا حياة للطفولة في إدلب.
What do you think?