لم تختف الهالات السوداء حول عيني، تلك التي رأيتها بوضوح بعد أن رفعت الطماشة لأول مرّةٍ أمام المرآة في الحمامات، بعد جلسة التعذيب المسائية التي اعتدت عليها.
دخلت حينها الحمام ورفعت عن ساعدي لأرى كدمات مزرقة مخيفة، رسمت بإتقان على الساعد الأيمن والأيسر، أجزم أنه محقق وجلاد محترف.
راقبت زوال هذه الكدمات يوماً إثر يوم، كنت خائفة من الخروج قبل أن تختفي ويراها أهلي، لكن جاءت كدمات جديدة وأنا ما زلت في حبسي.
أما الطماشة فحقيقةً لم تكن سوداء، كانت بقايا ثياب المعتقلين التي نزعت عن أجسادهم عنوة قبل تعذيبهم.
تفاصلينا المملّة لكم كانت تملأ علينا أوقاتنا، لنقل أننا قد خلقنا عالمنا في ذاك المكان، كنا مبدعات في محاربة منافذ الذاكرة، لكنها كانت تغلبنا كثيراً.
في الحمامات كان ثمة نافذة مرتفعة وصغيرة يدخل منها نورٌ واضح في النهار، وكنا نرى القمر منها حين اكتماله أحياناً، ونفكر ماذا سنفعل حين نرى الشمس لأول مرة بعد سجننا، اقتراحات كثيرة، بأن نلبس نظارات شمسية لأنّ أعيننا ستكون حساسة للضوء، وأن نشرب الكثير من المياه كي لا نصاب بضربة شمس وغيرها من التوصيات التي كانت مجرد أماني.
أما الليل فكان مظلماً مجازياً، لكن الأضواء لا تطفَأ أبداً، وبالنسبة لي كان هذا نوعًا من التعذيب، إذ يتساوى عندي الليل والنهار، وهذا ما عانيت منه سنتين بعد خروجي من المعتقل، أصبحت أخاف العتمة أكثر مما يخاف منها الأطفال،وفي الوقت ذاته لا أحب ضوء الليل،تفصيل سخيف، لكنه كان جوهر حياتي حتى استعدت قدرتي على النوم بلا أي مؤثر ضوئي.
لست الوحيدة حتماً.
أما الأعياد؟ فكنا نحاول ألا تكون كمآتم لدينا، إذ كان الفقد حاضراً فيها، الشوق يأكل قلوبنا، الخوف يحاصرنا، والعجز ذاك الوحش يفترسنا في كل دقيقة نخاف فيها أن نقرع الباب لنطلب ماءً للشرب!!
كانت الأعياد محطَّ أحزاننا وأوجاعنا وثقل أيامنا الرتيبة، تلك تذكر أطفالها وتلك تبكي أمها وأخرى تشتاق زوجها، وأنا كان يلازمني وجه أبي.
وجه أبي دائماً كان آخر الوجوه التي أراها، حين اعتقلت وحين خرجت من سوريا بلا عودة، رأيته حينها يكبر عشرات السنوات، يشيخ فجأة ويذبل كشجرة هرمة.
ما زال كل شيء عالقًا في ذاكرتي التي ألاحقها وألومها عندما تنسى الأسماء والتواريخ.
ما زال في أذني صراخ تلك الصبية التي رفضت أن تأكل الخبز الصّباحي بينما أهلها محاصرون في مخيم اليرموك لا يصلهم طعام.
وما زلت أذكر أم ياسين التي تضع أذنها على الباب عندما يبدأ تعذيب المعتقلين، علها تدرك صوتاً تعرفه، أما إيمان فقد أصبحت صديقتي عندما ذكرتها بكلمات أغنية ” مندل يا كريم الغربي”.
أخيراً لم يكن لحكايانا آخِرٌ، ولم يكن التكرار يشعرنا بتفاهة الأشياء، ورغم كل اليأس والعجز الذي ينهشنا، كنا نحب الحياة ونتخيلها كل يوم، و اليوم أنا هنا خارج ذاك المكان، في قلب الذاكرة، أتجوّل بين أروقتها لأروي لكم تلك الحكايا.
في الذكرى الخامسة لخروجي من الاعتقال
١٠-٣-٢٠١٤
١٠-٣-٢٠١٩
What do you think?