هذه هي سنتي الثالثة هنا في بيروت، العاصمة الصغيرة التي يقصدها أغلب سكان العالم للسياحة والترفيه. ولكنني كالكثير من السوريات والسوريين لم أقصد بيروت بهدف السياحة، بل هربًا من الويلات في سوريا بعد أن استحالت كل سبل النجاة هناك.
تضمّ بيروت خليطًا كبيرًا من الجنسيات العربية والأجنبية، لكنّ الحديث عن وجود السوريات/ين فيها هو ما يشغل بال وسائل الإعلام ورجال السياسة.
خلال الأشهر الأولى من إقامتي هنا، لم تكد تخلو مكالمة لي مع أهلي أو أي أحد من أصدقائي دون السؤال عمّا إذا كنت أتعرّض لمواقف عنصرية كتلك التي يسمعون عنها في الأخبار، أو يقرأون عنها في السوشل ميديا، خلال السنة الأولى لم أجب ولا لمرة واحد بنعم.
من جهة كنت أخاف إثارة القلق في نفوسهن/م، ومن جهة أخرى لم أمتلك القدرة على استيعاب كل تلك الكراهية فاخترت عدم تصنيفها ضمن خانة العنصرية ريثما أتأقلم مع كل تلك التغييرات التي طرأت على حياتي.
هل نطبع جنسيتنا على جبهاتنا؟
لم تمضِ السنة الأولى بالسلام الذي تخيّلته، عانيت طويلًا وأنا أحاول تأمين مسكن يراعي الحد الأدنى من متطلبات الأمان، ولا ينظر إليّ صاحبه على أنني “أقبض أموالًا طائلة من الأمم”. وبعد خمسة أشهر من التنقل بين منازل أصدقائي، وجدت غرفة في أحد أحياء الأشرفية، كانت غرفة صغيرة تضمّ الحمام بداخلها، لا تزورها أشعة الشمس ولا مجال لتجديد هوائها إلا بفتح باب المنزل المطلّ بشكل مباشر على الحيّ.
رغم ذلك، كنت أشعر أنها أفضل مكان في العالم، مساحتي الخاصة لأول مرة في حياتي، لم يفزعني شيء فيها أكثر من استهجان الجيران لوجودي، وتعاملهم معي وكأنني دخيلة يجب عليهم التخلّص منها.
لا أذكر أنهم ردّوا التحية عليّ ولا لمرة واحدة خلال 7 أشهر من إقامتي بينهم، حتى صاحب البقالة الذي كان يبتسم لي في أوائل أيام وجودي هناك، توقّف عن ذلك بعد أن اكتشف أنني لست لبنانية، ولكنّه لم يستطع إخفاء “دهشته” فظنّ أن عليه تلطيف الموقف بأن يقول لي “مش مبين عليكي سورية”.
هذه الجملة المقيتة تكون مفاجئة عند سماعها لأول مرة، ثم تصبح رتيبة لكثرة تكرارها. لكنّ ما ظلّ عالقًا في ذهني إلى اليوم هو سؤال لم أستطع العثور على إجابة له ما هي العلامات الفارقة للسورية والسوري؟
لاحقًا، بدأت أفهم أن هنالك نظرة نمطية، وتصوّر مُسبق عن الشكل الذي يجب على المرأة السورية والرجل السوري أن يكونا فيه، وأن الأمر يتقاطع بين العنصرية والطبقية. فكلّ امرأة محجبة، ويبدو على مظهرها الفقر هي بالضرورة سورية وكأن اللبنانيات بكل فئاتهنّ وانتماءاتهنّ لا يرتدين سوى الشورت والكروب توب ولا يزاولن عملًا سوى عرض الأزياء.
في السنة الثانية، لم تعد تلك الجملة تستدعي انتباهي، كنت أقابلها بسؤال ساخر “كيف لازم يبين عليي إني سورية؟”، ثم أمضي. بدأت أشعر بالتوتر في المواصلات العامة، وأثناء التواصل مع الباعة أو الجيران أكون متأهبة دومًا لتلقّي الأسئلة عن لهجتي وجنسيتي وموعد عودتي إلى بلادي التي بحسب آرائهم أصبحت آمنة والأمور فيها أفضل من لبنان بكثير.
اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!
كل تلك التعابير كان مفادها، أننا غير مرحب بنا هنا، ولكنني كنت أعلم أنني لا أرغب بالبقاء، إنما أبحث عن فرصة للنجاة، عن باب جديد أخرج منه إلى عالم ينظر إلى هويتي على انها مركّب معقّد لأنها هوية بشرية لا يمكن اختزالها بنظرة نمطية تم تداولها عن جنسيتي.
خلال صيف 2022 اضطررت إلى ترك غرفتي، والتجوّل في شوارع بيروت بحثًا عن مسكن آخر. حينها، لم أستطع تحمّل تكلفة السماسرة الذين كانوا يطلبون مبالغ خيالية ودفعات مسبقة، فأخذت أجول الشوارع سائلة أصحاب المحال عمّا اذا كانوا يعرفون غرفًا متاحة للأجار.
بالطبع، لم أجد مرادي منذ اليوم الأول ولم ألقَ تعاونًا، أنهكني الحرّ والمشي، واستنزفني تكرار السؤال ذاته واستقبال النظرات اللامبالية كإجابة. فقررت طلب سيارة أجرة قاصدةً منزل صديقتي التي تسكن في الحي نفسه، وكانت الاستعانة بتطبيق “بولت” هي الخيار الأسرع.
انتظرت وصول السائق قرابة الخمس دقائق، لكنّه توقّف في الجهة المقابلة من الشارع وطلب مني العبور إلى سيارته، عندما صعدت كنت منهكة ومحبطة، وأفكر بالأسئلة التي سيطرحها عليّ خلال إيصالي إلى وجهتي، ولكنه فاجأني بأن طلب ضعف المبلغ الذي حدده التطبيق كلفةً للمسافة. في بادئ الأمر ظننته مخطئًا فحاولت أن أشرح له أن المسافة قريبة جدًا ولا تتعدى هذا الشارع الذي نقف فيه الآن.
كان ردّ فعل السائق عنيفًا جدًا، انتقل على مقياس الغضب من 0 إلى 10 خلال أجزاء من الثانية، صرخ بي ” يا بتدفعي يا قومي انزلي من السيارة وروحي فلّي على بلدك”.
لم أستطع استيعاب الموقف، تجمّدت في مكاني، ولم أسترجع انتباهي إلا على صراخ السائق الذي أخذ يكرر “روحي فلّي على بلدك.. روحوا ارجعوا عبلدكن”.
اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات
ترجّلت من السيارة وتركت الباب مفتوحًا كردّ فعل على الشعور بالأذية، لكنّ السائق شكّل خليطًا من الذكورية والعنصرية وصبّه عليي وسط الشارع على شكل شتائم وإهانات تخللها تكرار الطرد إياه.
لم يتدخّل أحد من المارّة، بدا المشهد وكأنه مألوفًا، وكأنهم يتفقون ضمنيًا مع ما كان يقوله. قام السائق بإلغاء الرحلة فلم أستطع كتابة تقييم أوضّح فيه للشركة ما حدث، فضلًا عن أن اللجوء إلى الشرطة ليس خيارًا متاحًا بالنسبة لامرأة سورية لا تملك أوراق إقامة تحت ظل نظام الكفالة العنصري بذاته.
مشيت مسافات طويلة دون وجهة محددة، كنت أطالع وجوه المارّة وأنا ألعب لعبة تخمين جنسيتهم بيني وبين نفسي. لم تكن لعبة مسليّة، ولم أستطع اكتشاف الطائل منها.
فكّرت مليًا بالدافع الذي يجعل إنسانًا ينفجر بوجه آخر فقط لاكتشافه أنه ينتمي إلى جنسية معينة، ولم تحملني أفكاري إلى أي إجابة كما لم تأخذني قدامي إلى أية وجهة طيلة ثلاث ساعات أمضيتها أجوب المدينة الساحلة اللطيفة الساهرة للوهلة الأولى، القاسية الموحشة لكل الوهلات بعدها.
What do you think?