يخبرني أستاذي الذي يعمل كطبيب نفسي بأنه من الأفضل لي أن أتحكم بردة فعلي، وأن أضبط انفعالاتي وأسيطر على غضبي. يخبرني بكيفية خلق إطارات جديدة لحياتي، كأن أنظر بإيجابية لعدة أمور أنا شخصياً لا أستطيع أن أبصر منها إلا حقيقتها المظلمة، وما أشد ظلامها. يخبرني طبيبي بأن أثقف نفسي نفسياً، رسائل توعوية يفترض أن تغير حياتي حتى وإن كان ذلك تغييراً طفيف. يعلمني بعض التقنيات التي قد تريحني لدقائق أو ساعات أو حتى أيام، ولكن ماذا بعد؟
في الحقيقة كل ما أخبرني به صحيح فكيف لا وهو الطبيب وأنا المتعرضة لعدةِ أشياء، لستُ الضحية ولست الناجية. أنا أتأرجح بين الكفتين، أقفز بين الحبلين. أرفض أن أخضع وأكون الضحية، وأعجز عن النجاة. ستكون أقوالي غير صحيحة إن قلتُ إنني أنفذ تعليماتِ الطبيب بدقة. أنا أصدقها وأؤمن بها. والمضحك أنني أقدمها، أنا أزود الناس بها كل يوم وكل ساعة حد الإدمان، لكنه في النتيجة إدمانٌ صحي. هل يعقل ذلك؟ في الحقيقة نعم، في الحياة عدة أنواع من الإدمان، كإدمان السعادة الذي لم أجربه بشكل مطلقٍ بعد ولكنه موجود. إدمان النجاح، إدمان العلم وغيره. أنا أساعد الناس على إيجاد الإدمان الإيجابي والصحي وأعجز عن إيجاد إدماني.
ما أحاول قوله هنا هو بصراحة تساؤل. كيف نعثر عن إدماننا الإيجابي، كيف نبتكر أطرنا الجديدة السعيدة، كيف نتغير ونحن لا نزال نقبع في القوقعة ذاتها؟ زميلة لي تسأل دائما: “دكتور كيف سنأثر على حياة النساء ونساعدهن دون أيقاف العنف؟”، يجيبها الطبيب في كل مرة هناك من يقوم بهذا الجزء، هناك من يمكننا إحالة الناس إليه أو إليها، وأحياناً قد نعجز عن وقف العنف، وأحياناً أخرى قد يرفض الأشخاص التغير ببساطة أو التعاون مثلي أنا. لكن زميلتي طيبة جداً، ترفض التوقف عند هذه الخطوة، وكأنها ستغير العالم، أو على الأقل البقعة البنية التي تعيش فيها. وهو أمر ليس مستحيلاً إن توفرت له كل الشروط!
سألتني صديقة ذات مرة: “كيف تساعدين كل هؤلاء الناس وانتِ تعيسة، أوليس فاقدُ الشيء لا يعطيه؟” كان سؤالاً منطقياً نوعاً ما، ولكنني اكتشفت أن فاقد الشيء يعطيه، وأحياناً يعطيه بطريقة أفضل ممن يملكه. ليس كل شيء حقيقي كما يبدو في الظاهر، وليس بالضرورة أن يكون كاذب، الأمور نسبية لطالما كانت نسبية تعتمد على ملايين المبررات والحجج. الأمر ببساطة أن نتكلم بلغة من نداويه. ولكن لغتي معقدة بعض الشيء.
لن أتحدث عن الحرب كعادتي وما سببته لي، سأتحدث عن الأشياء الناتجة والمترتبة. كشابة عشرينية (25 عام) متزوجة، لا أطفال، عائلتي حولي، لدي عمل، لدي أصدقاء، مكتفية مادياً، فما الذي ينقصني؟ السؤال الصحيح ما الذي يجري؟ هل هو تجبَر؟ هل هو اكتئاب؟ هل هو حِداد؟ ماذا يحدث؟
إنها تلك اللعنة التي تعيش في رؤوسنا جميعاً، تتغذى بشكل جميل وكافي، وتحتل مساحة مختلفة في وعيينا أو في اللاوعي. إنها اللعنة التي تأسر روحي وتلتهم عواطفي وتأجج مشاعري. تلك اللعنة التي وجدت منذ الازل، وطورت نفسها في كل ثانية على مدار ملايين السنين. تلك اللعنة هي لعنة التفكير!
قد يبدو الأمر كوميدياً للبعض أو سطحي وهذا أمرٌ طبيعيٌ جداً فلعنة التفكير تأخذ حيزاً خجولاً منهم، لذلك هم لا يشعرون أو يدركون، أما أنتم الذين تحاربون هذه اللعنة بلا جدوى تعلمون جيداً ما أقصده وما أريد قوله. أحياناً لا داعي للكلمات فهي عاجزة عن الوصف، أحياناً تخرس الكلمات وتختبئ خلف التعابير. وتنشأ حرب بين النفس وعضلات الوجه أو حركات الجسد، فأنا من الممكن أن أبكي كل يوم بلا دموع، قد اضحك خلال الألم وقد أتناول السكريات عند التوتر. يبتكر المصابون بهذه اللعنة عدة أدوار ولوحات، قد يؤدون لوحة عظيمة خلال يومهم العادي، قد يخلقون مشهداً مشرقاً وهم في الحقيقة ينزفون.
لطالما اعتبرت نفسي ذكية، فأنا على الأقل أعلم ما يدور حولي وما يدور داخلي، أنا أعلم ما أحتاجه ولكنني عاجزة عن الوصول إليه.
معلولون نحن نعم، وهناك مضاعفات عديدة ترافق هذه العلة أو اللعنة كما أحب تسميتها. لكن دعونا ننظر إلى الجانب المشرق من الحكاية. نحن من اختبر كل أنواع الألم والفقد والخسارة، نحن الذين تعلمنا كل شيء، نحن المبتكرون وقت الحاجة، المزوِدون، الحالمون والناجحون. نحن الخلاقون والمنظمون وأصحابُ الأولويات، نحن الذين نعلم أبعاد كل فكرة وكل خطوة سنخطيها، رغم الأرض المهزوزة تحت أقدامنا ورغم الطائرات التي تترصد لنا، رغم الحواجز والآلياتِ والأرتالِ والسياسة والتصريحات والفقر والأزمات والأوبئة، وسط النيران وعلى بعد خطواتٍ من سيارة مفخخة، رغم الأقنعة ومن تحت الطاولة نحن دوماً سنسبقهم بخطوة. رغم الحياة المؤجلة. نحن الذين سنسأل دوماً ماذا بعد؟
What do you think?