في عام 2019، وجدت نفسي أمام قرار لم يكن سهلاً على الإطلاق، ولكنه كان الخيار الوحيد المتاح وهو الفرار من سوريا لأن الحرب سرقت مني الكثير، أرهقت جسدي وروحي، وجعلت حياتي وحياة ابنتي الوحيدة سلسلة من الألم والخوف. تعرضت ابنتي لإصابتين،الأولى برصاصة اخترقت رجلها، والثانية تسببت بفقدان أحد أصابع يدها. لم يكن هناك أمان في الأفق، فكان الهرب هو السبيل الوحيد.
تركيا بدت لنا كملاذ آمن في البداية، لكن سرعان ما تحول هذا الأمل إلى واقع مرير. منذ لحظة وصولنا، بدأت في مواجهة سلسلة جديدة من التحديات والصعوبات. قوانين صارمة، فصل قسري، وتمييز يومي كان يثقل كاهلي ويجعل حياتي أصعب مما كانت عليه في سوريا.
منذ البداية، كان الفصل القسري بيني وبين ابنتي هو الجرح الأكبر. حصلت على كيمليك ولاية أنقرة، بينما حصلت ابنتي على كيمليك إسطنبول. هذا الفصل بيني وبين ابنتي كان بمثابة بداية لمعاناة طويلة لم تنته بعد. رغم محاولاتي المستمرة في تقديم طلبات لم الشمل، إلا أن القوانين الصارمة رفضت ذلك.
كنت أعيش قلقاً دائماً بشأن سلامة ابنتي وشوقاً دائماً لرؤيتها. بعد فشلي في طلبات لم الشمل، قررت أخذ إذن سفر لولاية إسطنبول لرؤية ابنتي والاطمئنان عليها. كانوا دائماً يواجهونني بالرفض. أتوسل إليهم وأبكي بحرقة شديدة: “إنها ابنتي الوحيدة، ليس لدينا أحد سوى بعضنا”. لكنهم يرفضون. أطأطئ رأسي من الخذلان وأبكي، لا أريد أن يراني أحد. أشعر أنني في معتقل، أعيش أنا وابنتي في دولة واحدة، ولكن هناك آلاف الحدود والحواجز التي تمنعني من رؤيتها. قررت أن أذهب إلى ابنتي وأعيش معها دون تصريح سفر.
كانت حياتي اليومية مليئة بالقلق والخوف. كل خطوة خارج المنزل محفوفة بالمخاطر. ملابسي كانت تعكس كوني لاجئة سورية، مما جعلني هدفاً للتمييز. في إحدى المرات، بينما كنت في طريقي إلى الطبيب، تعرضت لأزمة صحية حادة نتيجة هبوط ضغط مفاجئ. طلبت من أحد الركاب أن يفتح النافذة ليدخل الهواء، فكان ردة فعلهم أن أوقفوا الحافلة ورموني في منتصف الطريق وأنا على وشك الإغماء. هذا الحادث المؤلم دفعني لاتخاذ قرار صعب بخلع حجابي للحفاظ على سلامتي، وبعد خلع حجابي، كان دائماً لدي خوف من معرفة الناس هويتي. أصبحت خرساء، لا أتكلم اللغة العربية خوفاً من اكتشافهم أنني سورية.
اقرأ/ي أيضاً:العيش في عنق الزجاجة
في إحدى المرات، كنت ذاهبة إلى السوق لأحضر بعض الخضروات. كنت أتكلم بالهاتف، ففاجأتني فتاة تركض مسرعة باتجاهي وبيدها عصا وضربتني بقوة. لم أعرف ماذا يجري، نظرت إليها كانت تتكلم وتصرخ “إذهبي إلى بلادك” وبعد هذا الموقف بقيت فترة طويلة سجينة في المنزل، خائفة من الخروج بسبب العنصرية. كل يوم كان موقفاً جديداً وجرحاً جديداً وألماً جديداً.
الخوف من السلطات جزء لا يتجزأ من حياتي اليومية. لم أكن قادرة على العمل بشكل قانوني بسبب القيود المفروضة، مما اضطرني للعمل بطرق غير قانونية للبقاء على قيد الحياة. الخوف من الترحيل كان يلاحقني دائماً كظلي. حتى في أحلامي كان يلاحقني. أصبحت أستيقظ مرهقة من الخوف، بدأت أدخل في حالات أرق لا أستطيع النوم من الخوف لكي لا أرى الشرطة في أحلامي. كنت أتوقع كل يوم أن يتم القبض علي كأنني مجرمة وترحيلي من تركيا، مما جعل حياتي مليئة بالخوف والقلق المستمر.
التمييز لم يكن مقتصراً على المواقف العامة فقط، بل امتد ليشمل جميع جوانب حياتي. من رفض العمل الرسمي إلى صعوبة تعلم اللغة التركية. حتى أصبحت محاصرة بين جدران العزلة والخوف. كنت أعيش وحيدة. منزلي الذي يجب أن يكون مصدر أمان، أصبح سجناً انفرادياً. في كل مرة يدق جرس الباب، أركض لأختبئ في الخزانة من الخوف. قلبي يخفق بسرعة كأنه يريد أن يكسر قفصي الصدري ويخرج من شدة الألم. تأتي ابنتي إلي مسرعة لتحتضنني كأنني أنا طفلتها وتبكي وتقول لي: “لا تخافي، لن يحدث شيء، أنا معك”.
أعاني من نقص الدعم الاجتماعي والنفسي. كل يوم كان يمر يزيد شعوري بالعزلة واليأس. كما يقولون: “الذي يخاف من العفريت، يطلعله”. في يوم من الأيام، تشجعت للخروج لتغيير الجو لأنني لم أعد أحتمل ضغط التفكير. قررت الذهاب إلى المقهى لشرب القهوة، وأنا في الطريق، أوقفني البوليس ليسألني إذا كان لدي كيمليك. أجبت نعم، فقال لي: “أعطني إياه لأراه”. يريد أن يتحقق من هويتي. أقسم أن قدماي من الرجفة لم تعد تحملاني. قلت: “لا أريد أن أعطيك إياه”. فأخذني إلى مركز الترحيل. حين دخلت، شعرت بصفير في أذني وكأنه بدأ العد التنازلي، فكرت كثيراً ماذا علي أن أفعل، وما كان علي إلا أن أتفاوض معهم لدفع مبلغ ليتركونني أذهب. دفعت المبلغ المطلوب وخرجت إلى المنزل.
قصتي مجرد جزء صغير من حكايات أكبر تعبر عن معاناة العديد من اللاجئين السوريين في تركيا.
واحدة من أصعب التحديات التي نواجهها كلاجئات/ين هي القيود الصارمة على التنقل داخل تركيا. نحن نعيش في سجن كبير، لا يسمح لنا بالانتقال بحرية بين الولايات دون إذن سفر، مما يزيد من معاناتنا ويعزلنا عن أحبائنا. حتى عندما نحاول الحصول على إذن سفر لرؤية عائلتنا، نجد الأبواب مغلقة أمامنا.
كما أن السعي للحصول على اللجوء في دول أخرى هو رحلة محفوفة بالصعوبات. على الرغم من أن الوضع في تركيا لا يطاق، إلا أن القوانين والإجراءات المعقدة تجعل من الصعب علينا الانتقال إلى مكان يمكننا أن نشعر فيه بالأمان والاستقرار. الأمل في العثور على ملاذ آمن يبدو بعيد المنال، ولكننا نظل متمسكات/ت به كالنور الذي يضيء لنا طريقنا في الظلام.
What do you think?