“هربت مع أطفالي بعد فقدان زوجي منذ سبع سنوات ولم أشعر بالأمان حتى اليوم”، بهذه العبارة بدأت الأم السورية نورا حديثها، ورغم أنها في منتصف الثلاثينيات إلا أنها كانت ترتجف وكأن الفقد والرحيل يحدث اليوم.
نورا ليست الأم الوحيدة التي اضطرت لمغادرة مسقط رأسها وأسرتها بحثا عن ملاذ آمن دون جدوى، والترحيل القسري يشكل تحدياً كبيرًا للنساء السوريات، حيث أنه يترك تأثيرًا عميقًا على حياتهن خاصة فيما يتعلق بفرص العمل وتأمين الدخل، وتعتمد النساء على وظائف غير رسمية وغير مستقرة لتوفير احتياجاتهن الأساسية، وعندما أُجبرن على العودة القسرية خسرن هذه الفرص المحدودة.
كما أن رحلة الترحيل بحد ذاتها تمثل واحدة من أقسى الانتهاكات الإنسانية التي تعاني منها النساء والتي تكون مليئة بالصعوبات، حيث يتعرضن لمخاطر كبيرة خلال فخ الترحيل والتوقيع القسري، بما في ذلك ظروف السفر غير الإنسانية والتهديدات الجسدية والنفسية.
عند وصولهن إلى سوريا يواجهن معاناة بين الأمان المفقود والعودة إلى المجهول، وفي تلك البيئة تكون فرص العمل شبه معدومة، مما يزيد من صعوبة تأمين احتياجاتهن الأساسية مثل الغذاء، والمأوى، والرعاية الصحية وغيرها.
هذا الوضع يضع النساء السوريات في دائرة من الفقر والهشاشة النفسية حيث يجدن أنفسهن عالقات في ظروف لا تتيح لهن تأمين حياة كريمة، مما يزيد من معاناتهن ويضعف قدرتهن على حماية أسرهن.
اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!
كابوس الترحيل
نورا وهي أم سورية في منتصف الثلاثينات، روت لنا تجربتها مع الترحيل القسري قائلة: “خرجت مع أطفالي هرباً من الحرب المدمرة في سوريا بعد فقدان زوجي في وسط الصراعات منذ سبع سنوات، خرجت إلى تركيا بحثا عن الأمان بعد فترة طويلة من الآلام التي عشناها على أمل بناء حياة جديدة بعيدة عن القصف والجوع والدمار”.
تحملت الأم السورية مسؤولية إعالة أطفالها منذ وصولها إلى تركيا، حيث بدأت البحث عن عمل حتى تمكنت من العمل في مصنع صغير للخياطة، ورغم التحديات التي واجهتها من ساعات عمل طويلة ولغة جديدة لم تكن تفهمها، إضافة لاضطرارها ترك أطفالها بمفردهم بعد عودتهم من المدرسة، تمكنت من تأمين حياة بسيطة ومستقرة في تركيا لهم في هذا البلد الجديد.
“في أحد أيام الصيف من عام 2024، قررت أن أصطحب أطفالي إلى حديقة الحي لقضاء بعض الوقت بعيدًا عن هموم الحياة اليومية، كان ذلك يوم عطلتي الوحيد في الأسبوع، قررت الذهاب معهم لمنحهم لحظات من الفرح والسعادة، لكن أثناء تواجدنا والأطفال يمرحون اقترب منا عناصر الشرطة وطلبوا مني إبراز أوراقي فقدمت لهم بطاقة الحماية المؤقتة، على أمل أن يتفهموا وضعي”.
تكمل حديثها : “بدون سابق إنذار، طلب مني الضابط الصعود إلى سيارتهم أنا وأطفالي، عندها شعرت بالخوف لوقوعي في فخ الترحيل، وبالرغم من محاولتي للتحدث معهم وإيضاح وضعي لم يُبدِ الضباط أي تعاطف تجاهي، حيث تم نقلي إلى مركز الترحيل وبعد ساعات قليلة من الاحتجاز طلبوا مني التوقيع على قرار ترحيلي ووضعوني مع عشرات العائلات السورية الأخرى المتجهة نحو الحدود السورية، كانت الرحلة قاسية مليئة بالخوف، حيث كان الجميع يعلم أن العودة إلى سوريا تعني مواجهة المجهول والبداية من الصفر”.
عند وصول الحافلة إلى الحدود السورية، تم إنزال الركاب في منطقة قاحلة وشبه مدمرة، لم يكن هناك أي مأوى أو وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، كانت نورا تشعر بالضياع والخوف من المستقبل، حيث وجدت نفسها وحيدة مع أطفالها دون أي خطة أو موارد للبقاء.
وفي ظل هذه الظروف القاسية، التقت نورا ببعض العائلات التي تم ترحيلها معها في نفس الحافلة، علمت منهم بوجود مخيم قريب، يبعد عدة كيلومترات عن المكان الذي نزلوا فيه ورغم التعب والخوف، قررت نورا الإنضمام إلى هذه العائلات والسير معهم نحو المخيم بحثًا عن مأوى مؤقت.
“عند وصولنا إلى المخيم صُدمنا بالظروف المأساوية التي يعيش فيها النازحون/ات، كان المخيم مكتظًا والخيام غير كافية للجميع، فيما كانت الموارد الغذائية والمياه نادرة، اضطررت للعيش في خيمة ضيقة مع أطفالي محاولة بكل جهدي توفير ما يمكنني من احتياجاتي الأساسية”.
اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة
أن تعيش في خيمة
تابعت نورا “لم تكن الحياة في المخيم سهلة، فكل يوم يحمل تحديات جديدة وأنا أكافح من أجل تأمين لقمة العيش والسيطرة على المخاوف من المستقبل، كنت دائما أشعر بالقلق المستمر من نقص الموارد والهجمات المحتملة فضلاً عن أنني عالقة في مكان لا يوفر أدنى درجات الأمان، كل هذه التحديات لا تعادل التحدي الأكبر وهو عدم وجود فرص عمل تناسب قدراتي، حيث كانت معظم الأعمال المتاحة غير منتظمة أو ذات أجر منخفض للغاية، ولم تكن الفرص المتاحة تتناسب مع احتياجاتي الأساسية، مما زاد الحياة صعوبة أكثر في تحقيق مصدر دخل ثابت”.
اضطرت نورا للعمل في إحدى الأراضي الزراعية القريبة من المخيم، رغم أنها لم تعمل بمثل هذه الأعمال التي تتطلب جهداً عضلياً في السابق إلا أنها استمرت وتحملت التعب والإرهاق، إضافة إلى أن الأجر الذي تتقاضاه بالكاد يكفي لتلبية احتياجاتها اليومية، وفي نفس الوقت كانت تبحث عن عمل أفضل أو على الأقل أن تستطيع شراء ماكينة خياطة صغيرة تتيح لها تأمين حياة كريمة لأطفالها.
بينما كانت الأم السورية المرحلة تتشارك قصتها مع العائلات الأخرى في المخيم، أدركت أن مصيرهم جميعًا متشابه، تم ترحيلهم من تركيا ليواجهوا واقعًا مريرًا في مخيم مهمل على أطراف وطنهم الذي لم يعد يشبه الوطن، كانت التحديات اليومية تضيف مزيدًا من الألم إلى حياتهم، لكنهم ظلوا متمسكين بأمل ضعيف في مستقبل أفضل.
حياة معدمة
ليست نورا وحدها التي تعاني، بل هناك الكثيرات يتعرضن لمثل هذه الظروف والتحديات، وفاطمة العمر أم محمد إحداهن أيضاً، وهي أم لأربعة أطفال كانت تعيش في تركيا منذ بداية الأزمة السورية منذ حوالي ١٢عاماً، تقول: “عملت عاملة نظافة في إحدى المدارس المحلية لأتمكن من إعالة أطفالي، لكن في حزيران الماضي تم احتجازنا ضمن حملة تفتيش على الأوراق القانونية”.
وأضافت: “ورغم محاولاتي لتوضيح وضعي القانوني تم ترحيلي قسرا إلى شمال سوريا وعند وصولي وجدت نفسي وأطفالي في منطقة تفتقر إلى الفرص الاقتصادية والخدمات الأساسية ولم يكن لدي وسيلة لتأمين الدخل فاضطررت للبحث عن عمل في ظل الظروف القاسية”.
تكمل روايتها “لجأت إلى مخيم للنازحين في ريف إدلب وكان من الصعب العثور على عمل يوفر لعائلتي الحياة الجيدة فقررت أن أعمل في الزراعة الموسمية ولكن الأجر كان زهيدا جدا ولا يكفي لتغطية احتياجاتنا اليومية، لاحقا عملت في تنظيف البيوت داخل المدينة مقابل أجر بسيط إلا أن هذا العمل غير منتظم وغير مستقر”.
وبسبب هذه الظروف، بدأت فاطمة تشعر بالإحباط واليأس، حاولت التواصل مع منظمات إنسانية للحصول على دعمٍ اضافي، ولكن الموارد المتاحة كانت محدودة جدًا، وكانت تعيش تحت ضغطٍ مستمر خوفًا على مستقبل أطفالها الذين كانوا يعانون من سوء التغذية وصعوبات في الالتحاق بالمدارس.
أما رانية، وهي مهندسة برمجيات من دمشق. هربت من سوريا في عام 2015 بسبب الحرب، واستقرت في إسطنبول حيث وجدت عملًا في شركة تقنية ناشئة، كانت رانية واحدة من القلائل الذين تمكنوا من إيجاد وظيفة في مجال تخصصها بفضل مهاراتها العالية وإتقانها للغة الإنجليزية.
اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة
“عملت بجد لبناء حياة جديدة، وأصبحت داعمة لعائلتي التي فرقتها الحرب إلى أن تم احتجازي خلال حملة موسعة استهدفت اللاجئين رغم أني أمتلك تصريح إقامة لكن كان قد انتهى منذ مدة قصيرة وتأخرت في تجديده بسبب التعقيدات الإدارية، إلا أني حاولت بشتى الطرق تسوية وضعي القانوني لكن البيروقراطية حالت دون ذلك، وتم ترحيلي قسرا إلى شمال سوريا”.
لكن بعد ترحيلها، وجدت رانية نفسها في مدينة لا تعرفها خالية من فرص العمل، وبدون أي دعم، بدأت في البحث عن عمل يناسب مؤهلاتها، لكنها سرعان ما أدركت أن الواقع مختلف تمامًا لم تكن هناك شركات تقنية، وحتى العمل البسيط كان نادرًا، حاولت الاستفادة من خبرتها في البرمجة من خلال تقديم دروس للأطفال في المخيمات، ولكن العائد كان قليلًا وغير منتظم.
فضلا عن الظروف المعيشية القاسية في تلك المنطقة، مع انعدام الأمن والخدمات الأساسية، جعلت من الصعب عليها مواصلة حياتها بشكل طبيعي فالبنية التحتية التقنية كانت شبه معدومة، ولم تكن هناك إمكانية للعمل عن بُعد نظرًا لانقطاع الكهرباء والإنترنت بشكل مستمر.
“رغم محاولاتي المستمرة للتواصل مع زملائي/تي السابقين/ات في إسطنبول للبحث عن فرص عمل عبر الإنترنت، إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل، وتفاقمت حالتي النفسية، وزادت ضغوطات الحياة علي، خاصة مع شعوري بالمسؤولية تجاه عائلتي ولم أعد أستطيع مساعدتهم ماديا كما كنت أفعل من قبل، وبدأت عائلتي تعاني من نقص الموارد الغذائية والطبية”.
فكرت رانية بالعمل في الزراعة أو في مصانع صغيرة، لكن هذه الأعمال كانت بعيدة كل البعد عن مجال تخصصها، شعرت بأنها خسرت كل ما عملت من أجله في السنوات الماضية، وأصبحت حياتها عبارة عن تحديدات وصعوبات يومية تكاد لا تنتهي.
What do you think?