ردّدت على مسامع طفلتي بعض الآيات القرآنية، كرَرَتها مرارا قبل الخلود إلى النوم حتى تترسخ في ذاكرتها، غلبني النعاس في وقت متأخر ونمت لا شعوريا في غرفتنا الصغيرة الدافئة… كان الطقس في الخارج بارداً جداً، لم أكن أعلم بأن تلك الليلة استثنائية ولا تشبه سابقاتها وستترسخ في أذهاننا مدى الحياة.
أيقظني زوجي بصوته المرتجف “فيقي الأولاد لنطلع بسرعة من البناي عم تنهد فوقنا” حينها انقطع التيار الكهربائي والأرض تتأرجح يمينا وشمالا دون أن تهدأ وأصوات حجارة تتساقط تخرج من الطوابق العليا والمكون من سبعة طوابق كنا في أولها، علمنا لاحقاً بأنها خزانات المياه الاسمنتية انفجرت في الطوابق المرتفعة وخرج ذاك الصوت الذي يوحي بأن البناء يتهدم، علماً أنه متضعضع قليلاً منذ أيام قصف الطيران وربما ما زال واقفاً بمعجزة.
اصطحبت أطفالي بسرعة فائقة ولحسن حظي بأنهم كانوا بجانبي تلك الليلة بعد أن ألح طفلي على النوم معنا بحجة أن غرفته باردة ولا يوجد فيها مدفأة، خرجنا هائمين على وجوهنا حتى أن هاتفي المحمول سقط من يدي عند باب المنزل ولم أستطع حمله.
لا يسمع في الخارج سوى التكبيرات… الرجال يُكبرون والنساء تصرخ والخوف يكبر في قلوبنا أكثر فأكثر… في تلك اللحظات لم أدرك تماماً ما الذي يجري حولي سوى أن الوقت طويل ولا يكاد ينتهي الأمر الوحيد الذي أدركه هو أنني أريد حماية عائلتي بشتى الوسائل ولا أريد مفارقتهم… ربما هي الرغبة بالحياة التي يشعر بها كل إنسان… الحياة التي لم تكن منصفة بما يكفي لنا نحن السوريون ولم تتمسك بنا يوما كما تمسكنا بها.
بعد سكون الأرض بقليل أجريت اتصالاتي كان بعض أخوتي بخير أما البقية ممن كانوا في تركيا فلا شابكات تصلنا بهم ولا شاشات ذكية تطمئننا عنهم، شعور لا يمكن للكلمات ترجمته، كانت ليلة صعبة جدا ظننت أنها ستنجلي وينتهي كل شيء ولكن مع جهجة الضوء كان الأمر مختلفا.
الحزن يخيم على البلاد والمدن منكوبة وأخرى لا معالم لها، العالقون تحت الأنقاض في كل مكان وعائلات بأكملها لم يبق لها أثر وأحيانا قد تجد منهم شخصا واحدا بقي بمفرده ليموت في كل لحظة مئة مرة.
اليوم وبعد مضي شهر على وقوع الزلزال لازلت أشعر بعدم الاتزان، وما تزال مشاهد تلك الليلة تتكرر في ذاكرتي وعالقة في مسامعي وكلما أردت الخلود إلى النوم أتذكر صوت حفيف الأرض وتهدم الجدران وصراخ الأهالي وبكاء الأطفال، ثم إنني كلما أحاول النسيان تعود الأرض بهزة جديدة تعيد الخوف لداخلي، حتى إنني عند حدوث الزلزال الثاني خرج الجميع من حولي وأنا في حالة من السكون لم أجد لها تفسيرا حتى اللحظة، لم أهرب خارج المنزل حينها ولم أصرخ إنما اكتفيت بحمل طفلتي الصغيرة وتوقفت أطرافي عن الحركة.
يا إلهي كم هو غريب ذاك الشعور وأتمنى ألا يحصل معي ثانية فهو مؤلم حد الموت…
كما أن المؤلم أكثر هو أحاديث الأطفال عند يتذكرون لحظات الزلزال ويتكلمون عنها بخوف وخاصة عندما أسمع بأن طفلاً يأبى النوم مع عائلته تحت سقف منزلهم ويفضل النوم بمفرده داخل سيارة والديه في شارع مظلم بعيداً عن الجدران والأبنية، لا يكفي ما تركته الحرب في أذهانهم من ندوب نفسية طويلة الأمد ليأتي الزلزال بندوب أكبر وأشد وطئاً.
لطالما كان الأطفال هم الحلقة الأضعف في حالات النزاع والزلازل، ثم ماذا لو كان هؤلاء الأطفال مهجرون خارج حدود بلادهم ولم يبق لهم أحد من عائلاتهم يسندهم بعد خذلان الوطن لهم وخذلان الأرض لهم ومنظمات حقوق الطفل أيضاً لتلاحقهم الخيبات إلى ما وراء الحدود وإلى كل مكان.
What do you think?