مضى عشرة أيام وأنا أمكث في المنزل، خطر لي أن أجازف وأقوم بشراء مستلزمات منزلي بنفسي على الرغم من أنني عادة أقوم بشرائها وطلبها أونلاين. قبل أن أتخذ قرار النزول إلى الشارع، تطلب مني الأمر الكثير من التفكير قرابة الثلاث ساعات وبعدها نزلت. حينها كانت الصدمة التي سببت لي الكثير من القلق والتوتر والخوف. كانت الساعة حينها تقارب الثانية ظهراً، حيث بدت الشوارع فارغة من السيارات التي تحمل أرقام السوريين والأجانب، وفي مثل هذا الوقت عادة تكون الشوارع وحركة المرور مكتظة نوعاً ما.
ذهبت لشراء الدواء من الصيدلية القريبة من منزلي. كان يوجد في داخلها رجلان وامرأة، وهي نفسها الصيدلانية التي باعتني الدواء. شعرت للحظة بأنهم يتهامسون عني بصوت منخفض بمعنى تُرجم إليّ “لعمى شو وقحة سورية وطالعة من بيتها”. بعدها دفعت ما ترتب علي من ثمن الدواء وقلت للصيدلانية “teşekkür ederim” شكراً لك، لكنها رفضت الرد على تشكري لها ووضعت النقود في الجارور وأدارت ظهرها لي.
خرجت لاستكمال شراء باقي المستلزمات ووصلت إلى شراء بعض الفواكه من إحدى المتاجر التركية التي دائماً أشتري منها. عندما اقتربت من موظفة المحاسبة، حدقت بي وكأنها تستغرب من خروجي من المنزل، وحينها قررت أن أعود أدراجي إلى منزلي. وقفت أنتظر إشارة المرور ليصبح لونها أخضر لكي أتمكن من العبور إلى الطرف الآخر. فجأة، كان جميع سائقي السيارات الذين كانوا أغلبيتهم من الشعب التركي، يحدقون بي طويلاً واكتشفوا بأنني سورية على الرغم من أنني كنت قد غيرت شكل حجابي السوري إلى الشكل التركي. حينها عاد بي الزمن وتذكرت نصائح بعض الصديقات والأصدقاء لي بأن أغير زي لباسي وحجابي السوري إلى الزي التركي ليتماهى مع تواجدي هنا. كان ذلك لحظة وصولي إلى تركيا لم أكن أعلم آنذاك أن نصائحهم لي كانت تصب في محلها.
وفي اليوم التالي تشجعت وخرجت إلى خارج منزلي. كان الوضع لا يزال محتقن ومخيف، كان القليل من السوريات/ين خارج منازلهن/م لأسباب اضطرارية جعلتهن/م يجازفون بالخروج. بعد عدة خطوات قليلة عن منزلي، تفاجأت بامرأة تركية في العقد الخامس من العمر مشت بجانبي وأسدلت نظارتها الطبية عن عينيها وتمعنت بي وتمتمت بعبارة كلها شتائم لي. استطعت ترجمتها من خلال تعابير وجهها الذي بدت عليه ملامح الغضب والاشمئزاز مني وسألتني ذلك السؤال العنصري الذي أصبح من البديهيات والمسلمات: “? Suriyeli misin” هل أنت سورية؟
لم أكترث لذلك الموقف من الخارج، لكن امتلأني شعور بالحزن والخيبة من الداخل ورفضت مواجهتها خشية على نفسي ولكي لا يحتد ويتصعد النقاش بيننا. لكنني أجبت على سؤالها بيني وبين نفسي: “Evet Suriyeliyim” نعم أنا سورية. يا للسخرية أن تصبح جنسيتنا وصمة اجتماعية نخشى من ذكرها خاصة في تركيا.
كل تلك المواقف حصلت لي هنا حيث أعيش في مدينة غازي عينتاب التركية التي ساقني إليها القدر بعد رحلة تهجيري القسرية من سوريا منذ عام 2018. ومن هنا سوف أكتب بلسان حالي عن هذه المدينة التي لا أخفي حبي لها. هذه المدينة التي شعرت بشيء من الانتماء والحنين لها خاصة عندما ابتعدت عنها حين حصلت كارثة الزلزال المدمر في بعض الولايات التركية والمدن السورية بتاريخ 6 شباط/ 2023. أشبهها تارة لمدينة دمشق حيث كنت هناك، والبعض من صديقاتي وأصدقائي يقولون لي إنها تشبه جداً مدينة حلب التي لم أزرها قط.
لم يعد الأمر يقتصر على حيازتي أوراقي الثبوتية عند خروجي من المنزل فحسب، لكنني بت أخشى حتى من السير في طرقات المدينة خوفاً من أن أتعرض إلى هجوم مباشر من قبل إحدى الشبان الأتراك وإيذائي بالضرب أو الأسلحة كما يحدث في أغلب الحالات عندما تتصاعد وتيرة العنصرية. أتكلم اللغة العربية بشكل منخفض جداً في الطرقات وأماكن التجمعات والأسواق وحتى في منزلي أيضاً، وأقوم بكتم صوت التلفاز خشية من أن يسمعه جيراني الأتراك تفادياً لوقوع المشاكل والاحتكاك المباشر معهم.
حاولت كثيراً أن أكتب سابقاً عما كنت أشعر به خلال فترة كارثة الزلزال ربما لأن الوضع آنذاك كان عاماً، لكن الوضع اليوم هو خاص نعم خاص جداً.
عن أي حماية يتحدثون؟!
تعرضنا للعنصرية والكراهية والرفض من البلدان التي لجأنا إليها لا سيما العربية منها. إنه ليس بالأمر الجديد علينا، إنما هي أفعال ومشاعر اعتدنا على مواجهتها سابقاً وحتى الآن، خاصة في كل من تركيا ولبنان بشكل يفوق التوقع. لا يخفى على أحد ما هو خطاب الكراهية والعنصرية. هو خطاب يشير إلى الإيذاء النفسي وممارسة التمييز حسب اللون والعرق والدين ورفض الآخر والتعامل معه بغير إنسانية. هو خطاب تعريفه شائع على محركات البحث.
أغلبية السوريات/ين المتواجدات/ين في تركيا مشمولات/ين ببطاقة الحماية المؤقتة “الكملك” التي تشكل قيوداً جمة منها منع السفر لغير ولاية تركية إلا عندما يتم تقديم طلب إذن السفر من خلال إدارة الهجرة بشكل شخصي أو من خلال بوابة الحكومة الإلكترونية “e-Devlet” والتي أغلب الطلبات تأتي بالرفض، خاصة للولايات السياحية منها ولاية اسطنبول. والبعض الآخر من السوريات/ين لديهن/م أوراق ثبوتية الإقامات السياحية والطلابية والعائلية، ويالا كثرة تسمياتها. إلا أن الظلم والقهر يشملنا جميعاً دون استثناء هنا.
يصدر في تركيا قرابة كل شهر على الأقل قرار وتعميم وقانون جديد يخصنا ويضيّق علينا الحياة أكثر مما هي ضيقة بالأساس. القوانين التي تقيد تحركاتنا وتواجدنا، ومن أبشع ما تعرضنا له هنا مؤخراً خلال هذا الشهر أيضاً/تموز، تسريب معلوماتنا وبياناتنا الشخصية والتي تتضمن أرقام T.C (الرقم الوطني) وعنوان المنزل ورقم الهاتف من خلال طفل تركي لا يتجاوز عمره الرابعة عشر عاماً، بحسب ما صدر وتداوله الإعلام التركي والعربي والمحلي. الأمر الذي استباح وانتهك خصوصيتنا التي باتت في متناول أيدي الجميع وكأنها معروضة للبيع على طاولة ضمن الأسواق الشعبية.
نناصر بعضنا البعض، والبعض القليل يناصرنا
كانت أحداث العنصرية متسارعة جداً في بعض الولايات التركية وبعض مناطق الشمال السوري، خاصة بعد حادثة ولاية قيصري التي حدثت في بداية الشهر الحالي/تموز من هذا العام، والتي ولدت انفجاراً من الكره والحقد الدفين من قبل أغلبية الشعب التركي ضدنا.
لعل كل ما تم كتابته وتدوينه وتوثيقه عن الحالة السورية سابقاً من قصف وتهجير ونزوح وانتهاكات منذ عام 2010 لم يقنع العالم برمته عما حدث ويحدث لنا حتى هذه اللحظة. لم نعد نستغرب حين يتم غض الأبصار عن جميع الانتهاكات والقهر والظلم الواقع علينا ومعاناتنا التي لم تنته بعد. وكما يقال: “لسا الخير لقدام”، وهو قول شعبي متداول كثيراً يعبر عن الكناية لحدوث أمر سيء. هذا القول الذي دائماً نتفوه به عند حصول أي مشكلة، هو ليس خير لكنه شر مقدر ومحتوم علينا. لا ننكر بأن معاناتنا لم تعد تشكل للمجتمعات الأخرى أي اهتمام يُذكر كما السابق لأن ما حل بنا جعل أغلب الدول الأوروبية والعربية بشكل خاص تشعر بالملل من أخبارنا والرفض لنا ولتواجدنا على أراضيها، حيث يتم تداول أخبارنا المريرة لمدة يومين أو أسبوع واحد كحد أقصى من أجل السبق الصحفي والحديث الآني وتصدر التريند. وبعدها تغيب التغطيات الإعلامية وحملات المناصرة وكأنها فقاعة من الصابون طارت في الهواء وسرعان ما فقعت.
نقوم بالتضامن والمساندة والدعم لبعضنا البعض نحن بنات وأبناء الجلدة الواحدة والبلد الواحد عند حدوث أي انتهاك أو أي موقف عنصري. وكما يقال “مكة أدرى بشعابها”، لذلك وكما جرت العادة بدأت حملات المناصرة بعد هذه الأحداث العصيبة للغاية من خلال بعض المؤسسات والمنظمات النسوية والمجتمع المدني السورية وأيضاً من خلال بعض الناشطات/ين العاملات/ين في السياق النسوي والسوري من خلال حساباتهن/م الشخصية. حيث تصدر الإعلان عن حملة #sesyok-سجن كبير على وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على الأحداث الأخيرة في تركيا. هذه الحملة التي تم تداولها بشكل لافت في وكالات الإعلام المحلية “الإعلام البديل” وبعض وكالات الإعلام العربية وشارك بها أيضاً بعض الناشطات/ين الأتراك. هذه الحملة التي تشير إلى وضع اليد على الفم بمعنى لا يوجد صوت.
وكما سارعت منظمة النساء الآن للتنمية وخصصت منشورات لهذه الحملة عبر صفحاتها حيث تقوم بنشرها حتى اليوم من أجل التضامن والمناصرة مع الأحداث الحالية وعدم تجاهلها.
عندما قرأت عبارة “سجن كبير” عاد إلى مخيلتي كارثة الزلزال التي أجبرنا على أثرها إلى النزوح إلى ولايات تركية لم تتأثر به. حينها ذهبت إلى مدينة إسطنبول التي زرتها مرتين خلال تواجدي في تركيا. حيث سُمح لي في المرة الأولى من زيارتي لها بالبقاء لمدة يومين فقط بعد ما استخرجت إذن سفر. وكانت المرة الثانية عندما حدثت كارثة الزلزال المدمر، حينها كان الوضع كارثياً وسُمح للسوريات/ين في الولايات المتضررة الحاصلات/ين على بطاقة الحماية المؤقتة باستخراج إذن سفر من الولاية التي تم السفر إليها. وخلال تواجدي الأخير في ولاية إسطنبول طلبت من أقربائي أن يأخذونني إلى منطقة أورتاكوي المطلة على البوسفور. فقلت لهم حينها: “يمكن ما أقدر زور اسطنبول مرة تانية”، وبالفعل إلى حد الآن لم أستطع السفر إليها لأننا حقاً نحن نقبع في سجن كبير.
وكما شاركت ونشرت النساء الآن أيضاً نصائح لتجنب الهجمات العنصرية وأساليب وطرق الحماية من أجل توخي الحذر، خاصة لمن يعيشون ويواجهون العنصرية في تركيا في الفترة الأخيرة.
ومع ازدياد وتيرة التصعيد العنصري في تركيا، تم الإعلان عن وقفات احتجاجية أمام السفارات التركية بتاريخ 6 تموز الشهر الحالي من هذا العام في بعض من الدول الأوروبية، منها فرنسا وبرلين، من أجل لفت الأنظار وتسليط الضوء عما يحدث ومن أجل تخفيف وطأة العنصرية والتوقف عن الأفعال والممارسات غير الإنسانية.
طرقات الموت والنجاة
أتابع ما يكتب ويتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة حول هذه الحملة الأمنية الأخيرة في تركيا. حيث باتت معظم أخبار السوريات/ين تدور حول إعلانات لبيع أثاث المنازل وطرق اللجوء سواء بطريقة نظامية أم غير شرعية وأي بلد تستقبلنا وتتوفر فيها ضمانات الحياة والعيش الكريم، والسؤال حول أسعار الفيزا والإقامات وغيرها من الأمور المتعلقة بالخلاص. لن أتحدث هنا حول معاناة وصعوبة استخراج وتجديد وتصديق جواز السفر السوري لأنها معضلة من نوع آخر.
نحن شعب عاش تجارب الترحال والنزوح والتهجير. لم نملك الخيار بأماكن تواجدنا الجغرافي، خاصة بعد جريمة التهجير القسري التي حصلت في معظم مناطق سوريا. ولعل أكثر ما يحزن أن نسمع بأن السوريات/ين منتشرات/ين في بقاع الأرض قاطبة، منهن/م من تتفاوت شدة نجاتهن/م أكثر من البقية في بلاد اللجوء وقوانينها ونظمها. ولعل أكثر ما يؤرق أماننا في تركيا حالياً هو أننا نعيش فعلاً في عنق الزجاجة.
كم من حادثة لجوء أليمة أدت إلى فقدان سوريات/ين أردن الهرب واللجوء إلى البلدان الأوروبية والعربية بحثاً عن الأمان الإنساني والاجتماعي والقانوني والسلام والاستقرار. كم ابتلع البحر منهن/م، كم تاهت طرقهن/م في الغابات الحدودية؟! ويضاف إلى تلك المآسي مؤخراً انتشار خبر موت اثني عشر سورياً ومن بينهم أطفال لقوا حتفهم من العطش في الصحراء الجزائرية بسبب تعطل سيارتهم في منتصف هذا الشهر الحالي/تموز.
يوجد بيننا وبين الأمان ملايين المسافات والحدود. هل يحق لنا أن نحلم بتلك المدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفيلسوف أفلاطون أم هي فعلاً من وهم الخيال؟ هل سوف نأوي ونستقر في مكان يحفظ ويصون لنا كرامتنا؟ هل سوف تتحول خطابات العنصرية والكراهية ضدنا يوماً ما إلى كلام يحتوينا؟! كلها أسئلة مشروعة نبحث عن إجابتها في كل يوم.
لم أتوقف عن سماع أغنية آمال مثلوثي طيلة تدويني وكتابتي لهذه المادة. هذه الأغنية التي أشعر وكأنها أُلفت ولحنت لنا والتي تصف مشاعرنا.
أكتب اليوم وأنا متجردة من اسمي ومن لقبي ومن توصيفي المهني، كيف لا وقد تم تجريدنا من هوياتنا وأرضنا وانتمائنا. ولعل أكثر ما يؤلم أن نكتب بأسماء غير أسمائنا وأن نطمسها ونبهمها ونستبدلها بأسماء مستعارة بسبب الخوف الذي لا يزال يقيد حرية تعبيرنا عن واقعنا ومعاناتنا. ولأننا نحلم بحياة أفضل لنا، لذلك سوف أستبدل اسمي الصريح باسم حياة ليكتب على هذه المادة.
What do you think?