يعاني اللاجئون/ات السوريون/ات من التمييز العرقي والعنصرية كل يوم في تركيا، محاولين/ات النجاة في مجتمع يرفضهم ويحاول لفظهم باستمرار. وبمواجهة العديد من التحديات التي لا تقتصر على كلمات قاسية أو نظرات مستهجنة، بل تتجسد في جروح نفسية عميقة تترك ندوبها على الأرواح. ينعكس البؤس الداخلي على الملامح التي أبدلها الخوف والقلق وترك بصمته الأبدية عليها. عند كل اعتداء يتعرّض له أي لاجئ/ة، يقلق البقية ويضعون/ن أيديهم/ن على وجوههم/ن خوفًا من الصفعة المقبلة، فكل حادثة تتحوَّل في الذاكرة والنفوس إلى وصمة مهينة لا تُمحى. يهربون/ن من واقعهم المرير إلى النوم، فيكون الحلم هو استعادة الكرامة والإنسانية وتمزيق شبح العنصرية الذي أنهك أرواحهم/ن. يستيقظن/ون ليجدوا/ن مخالبه على أعناقهم/ن، يتبسَّم ابتسامة خبث في وجوههم/ن، فينتفضون/ن مذعورين/ات للعودة إلى دراستهم/ن أو عملهم/ن، وقبل خروجهم/ن من منازلهم/ن يقفز الشبح ويعتلي ظهورهم/ن، وكأنه يقول: لا داعي لاستقامة ظهرك ولا شموخك، أينما تكون أكون.
في العام الدراسي (2017-2018) قُبلت في جامعة كهرمان مرعش سوتشو إمام في مدينة كهرمان مرعش، وانتقلت للإقامة في منزلٍ مع طالبات سوريات أخريات بعيدًا عن مدينة هاتاي التي تقيم فيها عائلتي. كنت الأجنبية الوحيدة عمليًا في دفعتي، بالإضافة لطالبة سورية أخرى كانت نادرًا ما تأتي إلى الجامعة لظروف شخصية. لا أنسى أول محاضرة لي كانت لدى البروفيسورأ.ن الحاصل على الدكتوراه في تخصصي. كنت أعمل على التركيز بكل ما أوتيت من قوة، ولم أُزِح عيني عنه ولو للحظات لمحاولة فهم كل كلمة يقولها بحكم أنها ليست لغتي الأم وتحتاج إلى جهد مضاعف، وهذا ما لفت نظره. في نهاية المحاضرة، نظر لي وقال: “أنتِ سورية؟” أجبت بنعم، فقال: “هل فهمتِ شيئًا؟” أجبت بنعم، ولكن ليس كل شيء. ضحك وأضحك الطلاب، فضحكت معهم، رغم يقيني بعدم وجود سبب منطقي للضحك!
اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!
كان هذا البروفيسور عميدًا لكليتنا في أعوامٍ سابقة، وذات يومٍ كان يشرح لطلاب صفي بأن السوريين/ات يستطيعون تغيير تخصصهم/ن في الجامعة بعد القبول والدوام، وينظر لي فينظر الطلبة نظرة استغراب وتجهُّم. وفي وقتٍ لاحق، قال إن هناك بحيرة في المدينة جفّت مياهها وأصبحت ملوثة، فأصبحت وجهة للسوريين/ات ليصطادوا الأسماك منها. ومرة أخرى، وإن دولتهم استقطتب جميع الفئات من السوريين/ات دون النظر بماضيهم/ن، وربما هم/ن مجرمين/ات أو إرهابيين/ات، وأوحى للطلبة أنه ربما هم من يقومون/ن بحرق الغابات في تركيا ويدمرون جمالها. وبعد كل هذا الحديث نظر لي بابتسامة “لكن لا، أنتِ جيدة، لستِ مثلهم: ابتسم ابتسامة بلا روح.
بالتأكيد لست الجيدة الوحيدة بين ملايين السوريين/ات، لم أفهم هذه النظرة العنصرية تجاه السوريين/ات ولصق التهم والسلوكيات السلبية بهم، كان يحزنني أنه على مستوى عالٍ من العلم ويُعمِّم على شعب بأكمله بأنه فاسد وسيئ.
لم يكن هذا البروفيسور الوحيد الذي أبدى كراهيته للسوريين/ات، فكان أيضا أحد المحاضرين بنا واضحاً بخطابه العنصرية تجاهنا من خلال أحاديثه وتعاطيه مع جميع الطلبة في الفروع والدفعات الأخرى. طالما نظر لي بطريقة غير مريحة، فكلما تحدث عن احترام البلد يرمقني بتلك النظرة، كنت أشعر أنني محطّ اتهام دائمًا دون أن أعلم السبب. احتفظت بهذه المشاعر السلبية لنفسي ولم أرد. ما معنى وصول إنسان من العلم إلى هذا المستوى وشعورك بأنك تفقه أكثر منه، وتعي بالنتائج الكارثية لأفكاره التي ستؤثر على بلده وأمانه قبل اللاجئ السوري؟ كنت أرى بأنّ للمكان قدسيّته وحرمته، لا يستحق منه أن يُعمِّم أو يتكلم بلغة الجاهلين!
بالعودة لثاني محاضرة لي في الجامعة، اجتمع حولي طلاب صفي للمرة الأولى. انهالت عليّ الأسئلة: هل دخلتِ إلى الجامعة بلا امتحانات؟ هل تأخذين من الدولة راتبًا؟ هل المنحة الطلابية خاصتك مدفوعة أم قرض من الدولة؟ هل تعيشين في منزل أم في مخيم؟ هل لديكِ حبيب؟
شرحت لهم عدد الامتحانات التي اجتزتها وعدد السنين التي أضعتها وأنا أعمل على تحصيل مقعدٍ دراسي، وأنّي لا أقبض راتبًا، وأنه لا منحة لديّ على الإطلاق كوني أجنبية، والكثير من الأسئلة والإجابات. هزّ الجميع برأسه متفهماً وانفضّوا من حولي وإلى الأبد، فكان هو التجمع الأول والأخير حولي حتى تخرجي من الجامعة.
كنت أقضي معظم الوقت وحدي في الدروس، أشعر بأنّ اليوم بعامٍ كامل، ثقيل على قلبي. أشعر وكأنني لستُ موجودة أو لا أُرى بالعين المجردة. لطالما رغبت بتوثيق اللحظات السعيدة والتعيسة في كل مراحل حياتي، واليوم عندما أشاهد الذكريات التي وثقتها لنفسي خلال دراستي تعودني الذكريات والصراع الذي كنت أعيشه كل يوم عند استيقاظي للذهاب للجامعة وأنا مثقلة بالهموم وانعدام الشغف والرغبة، أعلم بوجوب استمراريتي وفي ذات الوقت لا طاقة لي لأكرر تجارب الأمس وأسمع نفس الأحاديث أو أن أترك وحيدة وسط كل هذه الصعوبات. كنت أحتاج إلى ما يهوِّن علي ويمدني بطاقة مضاعفة لمواجهة شقاء وحدتي، وكأنني كنت أذهب للحفر في الصخر أو للذهاب إلى الطرف الآخر من العالم ماشيةً حافية القدمين.
اقرأ/ي أيضاً: العنصرية.. كابوس السوريات في تركيا
في شهر شباط من عام 2020، كنت حينها في السنة الثالثة، سقط 36 ضحية من عناصر الجيش التركي باستهداف روسي لهم في سوريا. فاشتعلت الأجواء في تركيا وانطلقت حملات هجوم على سيارات ومحال تجارية للاجئين، وحملات اعتداء بالضرب على من يصادفونه في طريقهم، بالإضافة إلى مظاهرات وحملات إلكترونية تطالب بترحيل السوريين، وتصدَّر المشهد مطالبات شعبية بحرق إدلب، تحت وسم (فلتُحرَق ادلب).
شارك في الحملة كثير من طلاب جامعتي ودفعتي على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وحدثت أعمال شغب كبيرة في كهرمان مرعش، واعتداءات على اللاجئين السوريين بالضرب أو الاعتداء على ممتلكاتهم الشخصية. تم الاعتداء بالضرب حينها على امرأة في المدينة، ما زاد خوفي وخوف صديقات السكن، فاعتكفنا في المنازل وخشينا حتى التحدث بالعربية فيسمعنا الجيران وينقضّوا علينا رغم معرفتهم المسبقة بهويتنا، ولكن الغضب العارم الذي يعصف بالمدينة جعلنا نتخيَّل أكثر الحوارات سوءاً. كان مكان سكننا على شارعٍ رئيسي في مركز المدينة، فأي تجمهر شعبي أو تظاهرات كانت تمر من أمامنا حينها، ما زاد خوفنا وسوء حالتنا النفسية وانعدام شعورنا بالأمان. ما جعلنا نُصرُّ على الاعتكاف أكثر ولأيامٍ أطول.
أنا شخصيًا لم أخرج حتى للضرورة المُلحة، ولم أذهب للجامعة لعشرة أيام. ليست المقاطع المصورة للاعتداءات على الأشخاص أو على الممتلكات ما أرعبني، ولا الأصوات الصاخبة الغاضبة التي سمعتها في المظاهرات الشعبية في حيّنا وحدها ما جعلني أخشى الخروج وأتقوقع على نفسي تلك المرحلة. تعليقات بعض طلاب دفعتي وتعاطيهم مع الأحداث بطريقة مُحزِنة سلبت رغبتي في العودة للمقاعد الدراسية. لم أستطع تخيل مطالبهم بترحيلنا وحرق مسقط رأسي نتيجة ذنبٍ لم نقترفه. ولكن بعد غيابي الطويل غير المُبرَّر ما كان أمامي خيار سوى العودة، وبعدها بأيامٍ قليلة أُعلن تعليق الدوام الجامعي بسبب جائحة كورونا، وكان هذا الخبر رغم تعاسة مسبباته إلا أنه أجمل خبرٍ سمعته حينها. غادرت المدينة ولم أعد إليها سوى لاستلام شهادة تخرّجي.
ما كنتُ أعيشه في جامعتي لم يكن سوى جزءٍ من منظومة أكبر تستهدف وجودنا وهويتنا كلاجئين. لم يكن مجرد عداء فردي بل كانت حالة عامة من التمييز العنصري طالت المجتمع بأسره، ليصبح السوريون كبش الفداء لجميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها تركيا. شعور العزلة والتهميش لم يقتصر على جامعتي أو مدينتي، بل كان واقعًا يعيشه معظم اللاجئين السوريين في تركيا.
كل تلك المشاعر السلبية التي تراكمت على مر السنين أرهقتني وأفقدتني جزءًا كبيرًا من حماستي وشغفي ورغبتي في الاستمرار. غيّرتني وتركت لديَّ جانبًا حزينًا يتملكني في كثير من الأوقات التي لا تحتمل الحزن حتى. رغم كل المحاولات للاندماج والنجاح في المجتمع الجديد، كنا نُواجه دائمًا جدارًا من الرفض والتمييز، ترك فينا جدارًا بيننا وبين أنفسنا.
هي حربٌ، بدأها تجّار الأزمات بشائعات، وصنعوا حكاية مضمونها الكذب يتناقلها الجميع ويُحدِّث بأخبارها، أودت إلى عنصريةٍ قبيحة، كلَّما مشت على الأرض تكبر أكثر حتى شكّلت شبحًا يُطارد اللاجئين السوريين ولا يراه أحدٌ سواهم، يقبع بكل ثقله على رؤوسهم يحملونه أينما حلّوا وارتحلوا، كأنّه يقول لهم: “أنا قدركم، ولي بقيّة، كلّ البقيّة”.
What do you think?