عانت هدى من سوء أخلاق زوجها ومرضه، الذي اشتد عليه. فتعاركت معه ومع زوجها حتى توفاه الله، وارتاحت من حمله إلى المستشفيات، وهو يدعو عليها لا لها.
لكن، لا راحة لمؤمن. فحين كانت تقضي أشهر العدة، التي فرضها الله، طال القصف بلدتها واشتد الحصار.
قررت الخروج إلى منطقة أكثر أمناً. فسارعت إلى الخروج من المنزل ليلاً مع ابنتيها الصغيرتين وأختها الأرملة وابنها المعوق، الذي يحتاج إلى رعاية طبية لا تنتهي. اصطحبت الأختان معهما أختهما الثالثة، التي تركها لهما والديهما قبل رحيلهما إلى إلى بلد آخر، وهي تعاني من الصرع وأمراض نفسية أخرى تجعلها غير متوازنة في أفعالها وتصرفاتها. وفوق كل هذا هي مزاجية وأنانية.
استطاع الجميع الهرب من القرية ليلاً، مشياً على الأقدام؛ هدى تمسك ابنتيها وتركض، وتشد يديها عليهما خوفاً من فقدان إحداهما. فعقلها مشغول بالطريق الصعب، غير المعروفة نهايتها. أما أختاها فتمشيان خلفها على مهل. منى تجر ابنها المعوق جراً، فهو لا يريد أن يغادر، لأنه لا يدرك الخطر الذي يحيط بهم، ولا يدري أن أمه تأخذه إلى مكان تستطيع فيه السؤال عن أولادها الآخرين. فأحدهم معتقل والثاني في إحدى دول اللجوء، والأخير غيبه الموت.
لم تستطع هدى وأختها حمل الأغراض الضرورية، فقد خرجتا بأرواحهما. لكنهما أخذتا معهما كيساً مليئاً بالأدوية لأختهما، وابن منى المعوق. وفي الطريق، حدث معهم ما لم يكن متوقعاً. إذ صادفوا جماعة من الناس الهاربين أيضاً. فتحدثوا إليهم، واستأنسوا بهم، فطلبوا منهم المساعدة في سحب الشاب المعوق وحمل كيس الدواء. لكن، هؤلاء الغرباء، بعد أخذهم كيس الدواء، ظنوا أنه ممتلئ بالذهب والأوراق القانونية التي تخص الأملاك، فهربوا به.
حزنت هدى ومنى من الخيانة، وعلى فقدان الأدوية. فأختهما لا يمكنها العيش من دون الدواء، وهما لا تملكان مالاً لشراء غيره. ومن يعاني من الصرع تأتيه نوبات قوية أحياناً، يحتاج فيها إلى رعاية خاصة. لكن، كيف السبيل إليها وهم خائفون وجائعون؟
سار الجميع، في ظل هذه الظروف الصعبة، لمدة أربعة أيام. لم يتذوقوا خلالها شيئاً غير الماء، من نهر كان يرافقهم في رحلتهم. وبينما هم يسيرون في يومهم الرابع، وقد ابتعدوا عن القرية، التقوا برجل يبيع التفاح. فاشتهى الصغار منظر التفاح ورائحته. ووقفت الطفلة الصغيرة تراقب، وأصبحت تقترب وتلحس شفتيها، كأنها تشعر بالطعم اللذيذ عليهما. وما زاد من صعوبة الموقف أن أطفالاً آخرين اشترى لهم أهلهم تفاحاً أخضر يلمع، وبدأوا بقضمه.
أخيراً، تجرأت الطفلة حين لم يبق أمام البائع أحد، فاقتربت منه وطلبت تفاحة واحدة لها ولكل عائلتها، فابتسم وقال لها “تكرم عيناك يا حلوة”. ثم سألها: “من أين أنت يا صغيرة؟ فلهجتك مختلفة عن هذه المنطقة”. والتقط تفاحة مسحها بخرقة كانت في يده، وقد هم بتقديم التفاحة إلى الطفلة، وقبل أن تصل إلى يدها الصغيرة أخبرته عن اسم قريتها. عندها، تغيرت ملامح وجهه، وانقلب حاله وأصبح يشتمها بأقسى العبارات وضربها برجله، وبالخرقة التي كانت في يده، وطردها من أمامه. ثم رمى التفاحة وداسها برجله.
رجعت الطفلة إلى عائلتها، لكنه لم يتوقف عن الكلام الجارح بحقها وحق أهل قريتها. لم تفهم الصغيرة سبب التحول الذي أصابه أو سبب شتائمه وسلوكه، وقد كانت تبكي حزناً على التفاحة، وابتل وجهها الوسخ بدموعها التي حرقت قلب أمها وخالتها. فبعدما هيأت معدتها وسال لعابها لأكل التفاحة الخضراء عادت إلى جوع أشد، وقد كسر خاطرها أكثر.
آه يا ربي ما أقسى ذلك. ما أشد أن يتحول ابن بلدك إلى وحش يريد افتراسك. هل هناك أقسى من أن تصبح اللقمة حلماً لطفلة لم تر من الحياة إلا القسوة؟ هل سيتذكر أحد تلك الطفلة؟ أم ستصبح، هي وأختها، طي النسيان إن أدرك الموت أمها؟ لا يدري أحد.
What do you think?