مع نهاية الشهر السادس من هذا العام 2024، بدأت مدينة عينتاب التي أعيش فيها ما سُمّي بحملة التفتيش، أو كما أسماها السوريون/ات حملة الترحيل. سيارات شرطة في كل شارع تقريبًا، ترافقت مع تحركات عنصرية بعد الأحداث التي شهدتها مدينة قيصري. تحولت عينتاب المليئة بالحياة إلى مدينة شبه خالية، خاصة من السوريين/ات.
أصبحت أخشى النزول إلى الشارع وبقيت في بيتي حوالي 30 يومًا، رسمت خلالها في مخيلتي شبحًا أسود كبيرًا يزداد حجمه وسيطرته على تفكيري يومًا بعد يوم، حتى ابتلعني. شعرت أنني في زنزانتي المنفردة التي عشت فيها أيامًا وأسابيع أشبه بالكابوس. كنت في سجن صغير لا تتجاوز مساحته مترًا ونصف المتر تقريبًا، وحيدة وخائفة، أخشى أصوات الأقدام التي تقترب من زنزانتي. كنت أرتجف خوفًا عند سماع صوت باب زنزانة مجاورة يُفتح أو يُغلق. عادت كل تلك المشاعر لي دفعة واحدة، كأنها سيل حطم السد الواهي الذي صنعته لنفسي، مدعيةً أنني أصبحت بأمان في هذا البلد.
اقرأ/ي أيضاً: العنصرية.. كابوس السوريات في تركيا
حاولت بجهد كبير مقاومة خوفي الذي عاد، الخوف من البقاء في السجن طويلًا، لكنني لم أستطع. في أول خروج لي إلى الشارع بعد ذلك الشهر، شعرت أن الناس جميعهم ينظرون إلي بريبة ويريدون الانقضاض علي. رأيت رجلًا نظر إليّ مليًا، ثم سار مبتعدًا، وبعد ثوانٍ عاد ليقف قبالتي وينظر إليّ مجددًا. توقف قلبي عن النبض وشعرت برعب كبير. هل عرف أنني سورية؟ هل سيصرخ في وجهي أو يضربني؟ تفحصت يديه بنظرة سريعة لأرى إن كان يحمل أي سكين. تسمرت في مكاني حتى ابتعد.
عدت إلى بيتي خائفة وأقفلت جميع الأبواب، حتى أبواب الغرف، كي أبتعد قدر المستطاع عنهم. وبعد عدة أيام، حين أجبرني زوجي على الخروج من المنزل كي لا أضع نفسي في متاهة الخوف والانغلاق وتذكر السجن والزنزانة، قصدنا المول القريب من منزلنا. نزلت إلى الشارع وأنا أختبئ خلفه، أريد الابتعاد وعيناي تمسحان المكان بحذر.
كان هناك دورية للشرطة، فقفزت إلى رأسي صور الحواجز في سوريا، التفتيش والخوف الذي عشته هناك. تسمرت في مكاني ولم أتحرك، ولم يستطع زوجي إقناعي بالتحرك إلا بعد أن اقترح أن يذهب هو أولًا ليستطلع المكان ويمر من أمام الدورية ويرى ما يحدث، ثم يعود ليمسك بيدي ونعبر من أمامهم. أغمضت عيني بقوة عندما وصلنا إليهم، ولم أفتحهما إلا بعد أن قال لي: “انظري، لم يحصل أي شيء.” لم يدرك أن أشياء كثيرة حصلت، لم يشعر بي وقد قفز بي عقلي إلى حاجز سجن عدرا المركزي، حيث أخذوا هويتي للتفييش وتركوني أنتظر قرابة الساعة حين أخطأ أحدهم في قراءة اسمي.
الخوف من الترحيل اليوم، رغم التزامك بكل أوراقك ومحاولتك أن تكون إقامتك قانونية قدر الإمكان، لا يختلف عن الشعور بالخوف من الاعتقال. نقاط التفتيش على الكملك أصبحت في مخيلتي شبيهة بتلك الحواجز التي مزقت دمشق وأصابتني بالهلع في كل مرة أقف فيها أمام أحدها، رغم أن أموري نظامية كما يقولون.
أذكر بداية وصولي إلى تركيا في منتصف عام 2016، كنت دائمًا ما أقول لنفسي: لماذا لا تكون سوريا شبيهة بتركيا؟ بالجمال الذي نراه في الحدائق، بالطبيعة التي يولونها اهتمامًا كبيرًا، بالنظافة التي تعتبر أولوية لديهم. لم أكن أتصور أن تكون شبيهة بسوريا في الخوف الذي يزرعونه في قلوبنا، بالوجع الذي لم نُشفَ منه بعد، بالغصة التي سكنت قلب زوجي حين رفضت إدارة الهجرة منحه إذن سفر إلى مدينة أورفه التي تبعد عن عينتاب حوالي ساعة وربع فقط. كانت والدته قد تعرضت لحادث اضطرها لدخول المشفى وإجراء عملية لتبديل مفصل في رجلها، ورغم كل أوراق المشفى التي أرفقها بالطلب، رفضوا أن يزور أمه التي ماتت بعد العملية بيوم واحد.
كانت الحسرة التي ملأت عيني زوجي حين وصله خبر وفاتها أكبر من أن تُوصف. لم يسمحوا له بتوديع أمه، ولم يوافقوا حتى على منحه إذن سفر لدفنها. بل تم تعليق الإذن دون جواب واضح في البوابة الإلكترونية E_DEVLET ليومين بعد الدفن، واضطر للسفر في سيارة خاصة برفقة صديقين يحملان الجنسية التركية. وحين حاول ابن خالته اللحاق به لتوديع خالته الوحيدة، أعادوه مع تهديد بالترحيل: “لا يمكنك السفر دون إذن، ولن نوافق على منحك هذا الإذن.”
وطبعًا لم أستطع مرافقة زوجي والوقوف إلى جانبه في مأساته هذه، فلم أحصل على الإذن أنا أيضًا. لم أحصل حتى على حق تثبيت زواجي بسبب خطأ موظف كتب في خانة الحالة الاجتماعية في بطاقة الحماية المؤقتة لزوجي أنه متزوج، ورفضوا تعديل البطاقة رغم محاولاتنا العديدة.
بعد مرور قرابة ثلاثة أشهر منذ بدء الحملة، لم أعد أخرج من بيتي إلا للضرورة، وإن خرجت أحاول جاهدة أن لا أتحدث، فأنا أنطق جملتي بثلاث لغات: عربية وتركية وإنجليزية عندما أكون مرتبكة. عدت إلى السجن الذي كنت أخشى أن لا أخرج منه حين كنت في سوريا، سجن فُرض علي وعلى الكثير من السوريين، وكأنني لم أخرج منه. فليس بالضرورة أن تكون زنزانتي مترًا ونصف المتر كي أشعر أنني في سجن، يكفي أنني لا أستطيع المشي في الشارع بحرية، لا أستطيع السفر بحرية.
اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات
لقد فقدنا نصف شجاعتنا التي كانت سبباً كبيراً في ثورتنا، وفقدنا كل قوتنا التي كانت كفيلة في دب الرعب بقلوب شبيحة النظام من انتصارنا، الغربة تجعل المرء بعيداً عن محيطه الآمن وسط عائلته وأحبته،يرفع صوته منادياً بالحرية بين أرضه وجمهوره، وحين يبعدونه رغماً عنه عن وطنه، يترك شجاعته وقوته هناك، هي أثقل من أن يحملها في حقيبة سفر يهرب بها من الموت.
أراقب مثل الكثيرين/ات غيري صفحات الفيس بوك لنعرف إلى أين وصلت الحملة، وهل هناك تحرك مدروس ضد العنصرية المفرطة التي تحولت إلى وحش يلتهمنا معاً، أتراكًا وسوريين.
What do you think?