وضعتُ في حقيبتينِ صغيرتين كُلَّ ما يمكنني حمله بمفردي، وحدي، في طريقٍ طويل، سافرتُ ابنة 21عامًا. مخلّفة ورائي شهادتي الجامعيّة. هربًا من التّهديدِ الذي تعرّضتُ له من قبلِ ضابطٍ في الجيش النّظامي. كان يُرسلُ عيونه الآثمة؛ لتتلصّصَ عليَّ ،وتحاول اكتشاف المكان الذي يختبئ فيه أخي المنشقّ.
كان بوسعي المقاومة، والاستمرار في محاولات الثّبات أمامَ كلّ ما يمكن أن أتعرّض له، لكن لم تكن الحياةُ سهلةً أبداً في دمشق، حاولْتُ اللّجوء إلى قوّة الإرادة، لكنّ الأبواب كانت محكمة الإغلاق، فمن المحالِ البقاء دون عمل، على فتاتِ ما يرسله الأهل من لبنان كي أحاول إتمام دراستي، عدا عن خلوّ العائلة من الرّجال الذين كانوا يحملون الأعباء الكثيرة التي أضيفت إلى مسؤوليّات النّساء في تلك الآونة.
كان عليَّ النّجاة من التّهديدات، ومن ملاحقاتِ الفرق الشّعبيّة التي احتلّت مداخل منطقة القدم، ومخارجها، بعد فشلي في اللّجوء إلى صحنايا، التي لم أستطع النّوم فيها يومًا واحدًا دون بكاءٍ مع كلّ صاروخٍ يمرّ عبرها ليقتل أهالي داريّا.
في الطّريقِ إلى لبنان، كنت أعيدُ في رأسي كلامَ أبي على الهاتف عندما أخبرته بقراري في قطع دراستي والسّفر إليهم: ” هون الوضع صعب، ونحن قاعدين بمستودع، متل كتير من السّوريين، قدرانة تتحمّلي هاد الوضع، تعالي، مو قدرانة، كملي دراستك وضلي هنيك؟ ”
- ” كل شي أهون من اللّي ممكن يصير معي بهاد المكان “
كان يستردّني الخوف من تفكيري فيما يمكن أن أواجهه في لبنان، الخوف من الاعتقال على الحدود لأسبابٍ كثيرة، قلتُ للمرأةِ التي بجانبي: ” إذا صار عليّي شي، خدي الأغراض بس هاد الرّقم لأبي وصليلو الأوراق الموجودة بالشنتة، أنا مخبيتها تحت البطانة ومشبكتها”
كانت ترمقني بين الفينةِ و الأخرى بنظراتٍ متوجّسة، قلقة، شعرتُ بأنّي قد حمّلتها عبئًا ثقيلًا، شعرت بالمسؤوليّة تجاهي دون أن تعرفني، وخاصّة أنّ الكثير ممّن كانوا معنا في الباص تمّ اعتقالهم حينها.
عند وصولي إلى لبنان، ألقيتُ المحفظتينِ في يديّ أخي الذي كان ما يزال طفلاً حينها، ومشيتُ في حيّ يسكنه السّوريون من كافّة المناطق، تسلّلت رائحة البؤس مباشرةً إليَّ، وعربشت كداليةٍ على عظامِ قفصي الصّدري. أثملتني المشاهد، وأحاطتني عيون الثّكالى من كلّ الجهات. كانوا يمدّون رؤوسهم من النّوافذ، ومن أبوابِ المستودعات كأّنّ رائحة الأرض الحبيبة استفزّت أنوفهم التي لم تعتد عبق الأماكن الجديدة بعد. لأدرك منذ اللّحظة الأولى أنّني وقعتُ في فخّ النّجاة، وأنّي لا أملك خياراً آخرَ سوى أن أصير جزءاً من هذه الجموع الكثيرة التي تراكمت بأوجاعها وفقرها وبؤسها لتشكّل جبلاً يصعب لأيّ عينٍ أن تتجاوزه دون أن تصطدم بحكايةٍ مؤلمة، تستفزّ دمعها.
أدركتُ أنّني خسرتُ دراستي، ودمشق، وجلستُ في زاويةِ المستودع الذي وقفت طويلاً أمام بابه الحديديّ. أتأمّل كميّة الصّدأ التي ستغزوني مع الوقت في هذا المكان، ومع كلّ حكايةٍ سأسمعها من الجيران الذين دخلوا دائرة اهتمامي مباشرةً.
وفي هذه الآونة، وبعد مرور سنواتٍ من الشّقاء في هذا البلد المتعب، جلستُ أمام التّلفاز أستمع باهتمامٍ بالغ وبإنصاتٍ غريبٍ عن شخصيّتي للسّياسيّين والنّواب الذين يتداولون مسألة الوجود السّوري على الأراضي اللّبنانيّة، فأشعرُ أنّنا صنم قومِ إبراهيم الذي وُضِعَ الفأسُ على عُنقه وهو لم يفعل شيئاً، لأنّه مكبّل الحركة.
كيفَ لي وأنا الغريبُ بكلّ ما أوتيتُ من لغتي بملامحَ تصرخُ : أنا من هناك ، أمشي جثّةً عاريةً حتّى من الأكفان على قدمَين منهكتين هرباً وتعباً أن أحظى بحقّي في اللّجوء إلى أرضٍ لا أحملُ جنسيّتها!! هذا ما أدركتُه حينَ تمسّكتُ بطرفِ ثوبٍ لبلدٍ متشظٍّ من شمالهِ حتّى جنوبه بسبب السّياسيين ، كنتُ كمن استجارَ من رمضاءِ الحربِ بنارِ البائس ، فما ذنبنا لنموتَ مرّتين ؟ ثمّ نصبح حجارة الشطرنج التي يتسلّى بها السيّاسيّون؟
اليوم، وفي هذه اللّحظة بالذات تحوم في رأسي صدى الحكايات، التي عشتها وسمعتها من أصحابها وعنهم، قصص الهرب من الموت.
كيف لهؤلاء الذين فقدوا منازلهم، وأراضيهم، وأمانهم أن يعودوا إلى المكان الذي خسروا فيه الولد والزوج والبيت والأمان والحريّة؟ وما زال إلى الآن تحت سلطة الأسد الذي كان السبب في هجرة كلّ هؤلاء الذين يتلاعب السياسيون بمصائرهم.
كيف يمكنني العودة إلى مكان لا أستطيعُ فيه وضع صورةٍ لرمزٍ ثوري؟ أو الحديث عن فكرتي بصوتٍ عالٍ دون الخوف من قيدٍ أو قبر؟
في ظلّ كلّ هذا الشّقاء الذي يعيشه السوريون في لبنان، تأتي فكرة العودة الطّوعية كقشةٍ قسمت ظهورنا جميعًا لأنّنا نعلم أنّ هذا الحصار هو لترسيخ فكرة العودة لدى المستضعفين الذين سقطت خيامهم، ومصدر عيشهم، وفرصهم في العيش بعيدًا عن نار الحرب وويلاتها.
الآن أفكّر بما سأحمله إن أُجبرْتُ على العودة إلى سوريا، ماذا سأضع في حقيبتين صغيرتين؟ قصص المهجّرين؟ التّعب الذي عشته؟ السنوات التي ذهبت من عمري هباءً وأنا أطرق أبواب النجاة بفكرتي وجسدي وحرّيتي؟
أحمل احتمالاتٍ مخيفة لأخي الذي أصبح شابّاً الآن، أتخيّله معتقلاً أو مجبراً على الانضمام للجيش.
كيف يريدون لمن كوته نار الحرب وآثارها أن يؤمن بحلولٍ لا تتجاوز أن تكون تصوّراً قاصراً عن الأوضاع الحقيقيّة في البلاد، والتي تصلنا من أهالينا الذين مازالوا يعانون من الخوف والفقر والاعتقال في ظلّ هذا النّظام المستبد؟
What do you think?