لم يبقَ للعيد سوى ثلاثة أيّام. ركب الشّابُّ درّاجته النّارية، وطلب من ابن أخيه ذي الخمسة عشر ربيعًا الرّكوبَ خلفه؛ لشراء ثيابٍ جديدة للعيد. لكنَّ الرّحلةَ انتهت في المشفى. بعد أن ارتطم رأس الفتى بالرّصيف، حتّى تضرّرت بصلته السّيسائيّة. أمضى العيد في المشفى، ثمَّ رقد في القبر إلى الأبد.
مضت سنتان على تلك الحادثة، ولم يكن قد عاد إلى قلبِ الأمّ، أو الأب نبضُه السّابق. حتّى وصلت نار الحرب إلى بلدتهم، وأُجبِروا تحت قسوة القصفِ بمختلف الأسلحة، على النزوح إلى مزرعةٍ لهم في بلدةٍ مجاورة؛ بحثًا عن الأمان.
سارتِ العائلةُ كاملة. ابتداءً من الجَدّ، والجدّة، وبناتهم، وأزواجهم، وأحفادهم جميعًا إلى تلك المزرعة. التي كانت تحوي بيتًا صغيرًا، تحوطه أشجارٌ مثمرة.
كان العددُ كبيرًا، والأماكن قليلة. تناوبتِ الأسرةُ في النومِ، والرّاحة، وباقي الأعمال. مَضَتْ شهورٌ على تلك الحال. وفي يوم من أيّام الصيف الحارة، استيقظت الأمّ “سمر” مضطربة القلب، ولِتتخطّى هذه الحالة؛ اصطحبها زوجها برفقةِ ابنتهما الوحيدة الصّغيرة بالسّيّارة، في نزهةٍ قصيرة. لكنَّ القدرَ غيَّر طريقه كما فعل مع الابن الأكبر، وهذه المرة إلى أقبيةِ السّجونِ والمعتقلات. بقيت الزوجة والبنت مذهولتين في السّيّارة، وقَدْ ترجمت تصرّفاتُهما الصّدمةَ. كأنَّ الدنيا انتهت…
مضت شهورٌ أخرى، وهم على هذا الحال، إلى أن أتى اليوم الأسود. الذي علمت فيه هذه العائلة البائسة، بمقتلِ الشّاب صاحبِ الدّرّاجة، على يدِ العساكرِ بطريقةٍ غير إنسانيّة.
مرَّ أسبوعٌ آخر. لم تجفَّ فيه الدّموع، ولم يتوقَّف فيه المُعَزّون. إلى أن حلَّت فاجعةٌ أخرى، وكأنَّ القدر لا يريد للمصائب أن تتركَ هذه العائلة. ما حصلَ أنَّ بائَعًا جوّالًا، جاء إلى المزرعة، فاشترى الأولادُ الحلوى، واشتروا لهاني، فأبوه معتقل، والجميع يحبُّ أن يجبر خاطرَه، عدا عن أنّه أصغر فردٍ في العائلة.
نادوه. لم ينالوا ردًّا، وسألوا عنه دون جدوى. انتشرتِ العائلةُ بأكملها. يبحثون في كلّ مكان. ينادون: “هاني هاني
أين أنتَ يا حبيبي؟ أين اختبأت؟ أحضرنا لك الحلوى “.
الجميعُ كان يفتّش إلّا أمّه، التي تجمَّدَت مكانها، ولم تتحرَّكْ، أو تنادِ. كادَ قلبها أنْ يتوقَّف، ولم تعد رجلاها تحملانها، فسقطت جاثيةً على ركبتيها، وتوقفت عيناها عن الحركة، ولم تعد تسمع غيرَ أصواتٍ تنادي باسم “هاني” ، وكأنَّ هذا الاسم يُذكَرُ للمرّة الأخيرة.
يَئِسَ الجميعُ منَ التّفتيش، ولم يبقَ غيرُ الماء. قفز فايز- أخو هاني – دون تردّدٍ في الماء. غاب دقائقَ قليلة جدًّا، مرَّت على العائلة ساعاتٍ طوال، ثمَّ خرج، وفي يده جثّة صغيرة صفراء، بشفتينِ زرقاوين، وقد تخشّبت. خرج الشّابُّ المبلّل. في عينيهِ دموعٌ حارقة، وفي حلقه غصّة، وقال بصوتٍ قوي: “يا رب، يا رب” ثمَّ صمت. عندها انقطعت الأصوات تمامًا. أصيب الجميع بالذّهول.
كانت فاجعةً بكلّ معنى الكلمة. وصل الخبر سريعًا إلى والدِه المسكينِ في معتقله ، ممّا زادَ وضعَه سوءًا. آلمَه الخبرُ، فارتفعت نسبة السَكري في دمه، إلى درجةٍ كبيرة. كان بحاجةٍ إلى مشفى، وبدلًا من غرفة العناية المشدّدة في مشفى، دخل عنايةً مُشدَّدةً من نوعٍ آخر، ووافته المَنيَّة هناك.
أيضا لم تتركِ المصائبُ هذه العائلة، وترحل، وأخذت فردًا آخرَ، بطريقةٍ أخرى :
عاد كبيرُ العائلة إلى بلدته؛ ليتفقّدَ بيتَه، وعِشَّ أولاده مع جاره. دخل البيت الذي كان بابُه مفتوحًا، ليجدَه مسروقًا، وقد أُحرِقَ قسمٌ كبيرٌ منه، واخترقت شظايا القذائفِ القسمَ الآخرَ. عادت إلى ذاكرته صورةُ أبنائه الثلاثة، وحفيدَيْه.
ابنه الكبير، وحفيده الصغير ماتا غرقًا، والأوسط مات تعذيبًا، والثّالث ذبحًا، وحفيده الآخر بحادثٍ، وها هو بيته ركامٌ أمامه.
حقيقةً حتّى في الخيال لا تُحتَمَل كلّ هذه القسوة، انفجرتِ الشّرايين في رأسه معلنةً انتهاء مآسيه، وعادت روحه إلى بارئها تاركةً زوجةً ثكلى، وأبناءً مقهورين، وكنّةً متألّمة.
قصّتي ليست خياليّة للأسف، هي إحدى قصص الشعب السوري العظيم، الذي مازال لديه أملٌ بغدٍ أفضل.
What do you think?