“لم يغب عن ذاكرتي ذاك الطفل الصغير. اختبأ بجانب الحائط في الجهة المقابلة لمنزله. وضع أكفّه الصغيرة على وجهه، ظنّا منه أنها قد تحميه وتبعد عنه بعض الأذى.”
صوت مرعب… غبار كثيف… وصراخ يتعالى في المكان. للحظة الأولى لا أحد يعلم ما الذي يحدث وأي كارثة حلت بنا. يا ترى هل نحن الآن في غيبوبة أم أننا في عالم آخر!
قبل لحظات قليلة، لم يكن المكان يبدو بهذا الشكل وبهذه الفوضى الرهيبة، ولكن بعد برهة من الوقت كان باستطاعتنا التأكد أننا في منزلنا. وأصبح بإمكاننا فهم ما يجري حولنا ولله الحمد لم يستطع صاروخ الطائرة أن يسلبنا أرواحنا. ولكنه كان قادراً أن يدمر معه أحلامنا وأيامنا، ذكرياتنا وابتساماتنا ونصف الحي أيضاً…
كان ذلك في شهر فبراير/شباط من عام 2018، شعرت حينها أنني استيقظت من غفوة دامت لبضع ثواني. كل ثانية فيها أطول من عام كامل. لأسمع أصوات الصراخ ترتفع. لم يكن بإمكاني أبداً تحديد مصدرها. كنت أتساءل هل هي من الداخل أم من الخارج؟ يمكن أن تكون من مكان قريب وربما بعيد! لكنها مرعبة جداً.
وبسرعة بدأت أركض محاولة إيجاد مصدر الأصوات والصرخات. رأيت أشخاصاً كثر أتوا من جميع الإتجاهات، بعضهم يحاول دفع الباب أو حتى إيجاده… ومنهم من يحاول إطفاء النار الملتهبة وفي قلوبهم ألف نار ونار ليس بإستطاعتهم إخمادها.
وهناك في الجهة الأخرى من يقوم بانتشال الضحايا وإسعاف المصابين والبحث عن الناجين. هم يسرعون بكل ما لديهم من قوة ونشاط والوقت يمر ببطء شديد. أراقب بخوف وبعجز كبير وفي قلبي بكاء ودعوات يكاد يصل صوتهما إلى السماء السابعة. يا رب لطفك بنا يا رب كن عوناً وسنداً لنا.
وفجأة ومن تحت الأنقاض والركام، أو بالأحرى من خلف ستار الموت يخرج شخص لم يعد يقوى حتى على استنشاق الهواء. يهرعون إليه مسرعين، يسألونه بخوف: أين البقيه؟ هل من شخص آخر كان معك في المنزل؟ هل هناك من لا يزال على قيد الحياة تحت الركام؟
ينظر إليهم صامتاً، لا جواب لديه. هو أصلاً لا يدري ما الذي جرى. ولا يعلم أنه قد نجا. هذا إذا كان فعلاً مكانه بين الناجين…. يتركونه ويعودون علهم يستطيعون إنقاذ حياة من تبقى. وبالرغم من سرعتهم وقوة غضبهم وخوفهم واندفاعهم إلّا أن الوقت ما زال يمر ببطء شديد.
وقبل الإنتهاء من عمليات البحث عادت الطائرات لترمي بحقدها في حي آخر، وفوق أناس آخرين لا ذنب لهم سوى أنهم يحلمون بالعيش ، العيش بسلام وأمان ولا شي سواه.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم يغب عن ذاكرتي ذاك الطفل الصغير. اختبأ بجانب الحائط في الجهة المقابلة لمنزله. وضع أكفّه الصغيرة على وجهه، ظنّا منه أنها قد تحميه وتبعد عنه بعض الأذى. كان كل بضع لحظات يسترق النظر ليرى إن كان أحد أفراد عائلته قد خرج حياً. ثم يخفي وجهه مرة أخرى ويعود للبكاء ومناداة أمّه.
لم يكن ذلك الطفل يعلم أن هذا اليوم كان اليوم الأخير في عمر أفراد عائلته التي ارتقت بأكملها إلى السماء. ولم نكن نتوقع أنه اليوم الأخير في عمر بيتنا الذي تحول إلى رماد قبل أن نودعه.
تهاني أحمد (25 عاماً) تعيش في سراقب، حاصلة على شهادة الثانوية العامة.
What do you think?