اللوحة للفنانة ريم يسوف
الكاتبة: ديمة نيكولاس
“الوطن حيث يكون الحب وحيث تكون الحرية “نوال السعداوي”. وفي أيامنا هذه, الحب والحرية يهجران دمشق بصمت وخضوع, فهل لازال لدينا وطن؟
كانَ لدي موهبة بقراءة عيون الغرباء في شوارع دمشق، كنت أروي منها قصصاً عن الحبِ والفقر والتعب والألم. لطالما شعرْتُ بالقربِ من الغريب الذي يتقاطع طريقي معه ويعبر.
سأخبركم عن عيونِ الأطفال حفاة الأقدام على حافة الرصيف قرب صالة عرض شاشات عملاقة تعرض أفلام كرتون, والمطر يهطل بغزارة في منطقةِ القصاعِ، سأخبركم عن عيون هؤلاء الأطفال التي تبوح بالسعادة، وعن أفواههم التي تبتسم ببراءة. رغم مأساة الموقفِ، كان مدير الصالة يضع لهم أفلام الكرتون حين يأتون ويراهم يقفون قرب النوافذ الكبيرة.
في تناقضات الموقف كنت أراهم سعداء رغم مآسي فقرهم والحرمان وأجد مدير الصالة شخصاً لطيفاً يلمسني من نظراته التعاطف الذي يجمعنا في هذا المكان المدعو بالوطن.
أشعر بهذا التعاطف أيضاً من خلال عيون رجلٍ مسنٍّ مستسلم بجانب سور مقبرة الدحداح يعانق الحائط ويبكي. أحاول بما يستطيع أن يمدني قلبي من قوة بالتفكير عن قصته المثقّلة بحزنه، ما الذي يبكيه يا ترى؟ ابنه أو ابنته؟ من يرقد في الداخل؟ أشعر بتخاطر المشاعر والآلام، أشعر أنّي أعرفه جيداً هو مجدداً يدور معي في دائرة الوطن.
منذ عشر سنوات، بدأنا نتلمس الطريق نحو الحلم، هذا الطريق الذي جعل من الوطن ولو كانت لوهلات قليلة, حضناً دافئاً كقلب طفل صغير. كنّا نحن جميعاً أمهات وآباء هذا الطفل, تخيل أن يكون لك أكثر من أم وأكثر من أب! كم سيكون كبيراً الحب الذي سيحيطك؟
كان هذا الوطن محظوظاً بنا وشعرنا كثيراً بأننا محظوظون به.
رغم كل الظلم والأيام العصيبة, أتذكر منها طريق زيارتي إلى سجن عدرا الموحش والمغرّب, لم يشعرني ذلك بالخوف على الرغم من إطلاق النار الذي أوقفنا مرات عديدة. كنت أشعر بأن هذه الغربة ستنتهي فور دخولي غرفة الزيارة، فهناك توجد العيون التي تحاول الصمود بذكريات وقصص سعيدة، التي تعيش في تناقضات لحظتها وتدور في دائرة الظلم الذي يجمعنا ولازال وطن!
ففي البداية كانت كلماتنا عفوية وبسيطة, كانت بحوزتنا الفكرة وكان لدينا الوطن. واليوم, وبعد مرور عشر سنوات, فقدت قدرتي على قراءة العيون وفقدت الوطن الذي أعيش فيه وتحولت طرقاته لجدران عالية وتحول ياسمينه لأسلاكٍ شائكة..
العيون اليوم أنانية، تريد رغيف خبز حتى ولو أخذته من عينيك أنت!
العيون اليوم حاقدة بكسر يمنعها من الدوران معاً، تنطلق كالرصاصِ الطائش ولا يجمعها أي وطن.
هنا دمشق حيث أعيش غربتي اليومية، وحيث رحل الرّفاق عنها. أحسد بعضهم وأملك عيوني الحاقدة تجاه بعضهم، أولئك الذين يتلذذون بمعنى الحرية خارج أسوار سجننا ويتكلمون بألسنتنا ما لا نستطيع نحن نطقه! فنحن هنا، من خلال تعرّضنا للتخويف بالفعل والنمذجة، فقدنا ما تبقى من حريتنا، من تعاطفنا، من كرامتنا، من كلماتنا، ومن انتماءاتنا، أهم ما فقدناه هو وقتنا! لا وقت لنفكر، ولا وقت لنتكلم! لدينا طوابير خبز و غاز ومازوت! لدينا حياة مجبرون على استمرارها! هنا الغربة موجعة حين تأتيك بنظرات التعالي، فأنت تبيع كرامتك من أجل ربطة خبز!
بالمقابل, يروي لي صديق عزيز في ألمانيا عن تلمّسه للحرية أثناء مظاهرات في الشوارع على أبواب السفارات. تشعر بداية بالسعادة لازالوا يفكرون بنا! ثم يمتلكني الحزن لأن صوتي غير مسموع ولساني ليس بمقدوره الكلام, من بعدها يتغلب على ذاتي الحقد من نظرات التعالي، وأخيرا أشعر بالغربة من أقرب الرفاق لي.
أوقف حقدي، وأذكّر نفسي أنَّ لكل منا دوائر غربته الخاصة وطرق نجاته الخاصة، أوقف التعالي الذي أمارسه على الآخرين لكوني موجودة هنا!
لاشيء له معنى، الكلمة فقدت قدرتها عالاستفزاز، اجتررناها كثيراً، كنت أراقب نفسي وأنا أفقد كلماتي، أقرأ مقالة ما، أكتب رداً ما وأمحوه، ومن ثم لم أعد أكتب الرد، وبعدها لم أعد أقرأ المقالة، فهذه الأفكار باتت بعيدة عن واقعنا، قليلة الإحساس بنا، متعالية، تجلدنا فوق غربتنا وتلومنا رغم مأساتنا!
فنحن القابعون في الداخل نخضع للحكومة والقوانين! نحن الخائنون رغماً عنا، لا حل لنا سوى الموت كي نحصل على التعاطف ونشعر مجدداً بتلاشي الغربة ودفء الوطن.
فجأة يصبح لديك فراغ كبير بداخلك كبهو مظلم تحاول تلوينه ببعض العمل الذي لا يأخذ قدره ولايرى مستقبله، وتلونه بالكثيرٍ من السخافة ليصبح بمقدورك التنفس.
أجمع سخافتي من فناجين القهوة وصحون الطعام والتسوق الالكتروني الذي لا تتم معظم مشترياته! لدي خزانة كبيرة من السخافة في داخلي على الرف الأيمن من قلبي، أفتحُ أبوابها كلما اجتاحتني غربة الوطن المبكية فأعدُّ فنجانَ قهوة وارتدي فستاناً مستعار!
اليوم, الوطن صغير، اختزل في عيون أهلي وحضنهم، وفي اعتزالي كل شيء إلا السخافة!
كلما فقدت الأمل أفكر: لو لم يكن هذا الوطن يعنيني لما أوجعتني غربته!
إذا لربما من خلال معجزةٍ ما تفقد العيونُ انكسارها وتعود لتنظر إلى حلم جديد ليوم آخر..
What do you think?