هل يبدو الاسم مألوفاً أم أنه اسم عابر لم تعطه الحياة فرصة البقاء في أذهاننا؟ وهل دُفن كصاحبته مثل الآلاف من النساء اللواتي حارب المجتمع لإبقاء حياتهن وموتهن سراً؟ من هي ميساء التي لا أرغب أن أكون هي يوماً ما؟
ميساء ثلاثينية وأم لثلاثة أطفال كانوا دوماً الأداة التي يستخدمها والدهم لترهيب وتهديد ميساء، ومعلمة في إحدى مدارس “أطمة” في ريف إدلب الشمالي. جاء الخبر سريعاً وعابراً ربما، “ميساء انتحرت”، هكذا ملأ الخبر صفحات التواصل الاجتماعي، مع تفاصيل قليلة أن ميساء وضعت حداً للعنف الذي تعرضت له يومياً من زوجها، الذي حرمها أطفالها الثلاثة، فواجهت كل هذا وحيدة وقتلت نفسها.
قبل خبر موتها على العلن، لنطرح على أنفسنا كم مرةٍ يجبُ على المرء أن يواجه موته ويعيشه بكل تفاصيله حتى يصل لسبيل الانتحار، وهل أصبحت خياراتنا كنساء محصورة ضمن موتين وكلاهما موت غير معلن.
انطوت ميساء على قصتها بعد أن عاشت أقسى أنواع العنف الذي جسده شريك حياتها الزوجية، وبحسب ما روته الدائرة المقربة منها، أن آثار العنف الجسدي كانت ظاهرة يوميا على ملامحها، حتى العنف الذي مارسه بالضغط المستمر عليها وحرمانها من حق التكلم عن كل الذي تحمله، أو يأخذ منها أطفالها.
طاقة النساء على الصبر مرعبة ومخيفة، فمن كانت تصبر على الأذى لأجل أطفالها هي حتماً تقدم بطولة وتضحية من نوع يصعب تفسيره، من كانت تتحمل أعباء عملها كمعلمة وأم والوقت نفسه “معنفة” وتظهر بكل قوتها لتكن امرأة عادية هي حتما أكبر من كل المصطلحات التي تكمن داخل اللغات.
وربما كان هذا الصبر خياراً وحيداً وضعته الحياة أمام النساء، وخاصة في ظروف كتلك المحيطة بحياة ميساء، زواج أقارب وثلاثة أطفال ونزوح وتهجير وحرب لا تنتهي، إضافة لكل ما يحيط بحياة النساء من ظلم وعنف واضطهاد متجذر عميقاً في تاريخ المجتمع البشري.بعد أن انتهت السبل، ووصلت النهاية المكلومة اخذت ميساء انتحارها طريقا أخر للراحة، بعيداً عن زوجها وعائلتها وكل من ساهم في موتها المباشر والأسباب التي دفعتها للموت كل يوم.
الآن هل ستكتب نفس النهاية لميساء جديدة؟ ولمَ حتى بعد وقوع هذه الفاجعة منطقتنا مازالت تأخذ الأمور المتعلقة بالنساء في منحى السخرية؟ هل باتت أوجاعنا مصدراً ليستمد بعض الذكور الرجولة منه.
لا نريد الموت، نحن الحياة بهيئتها المتناقضة، الأمر ليس بالسهولة التي كنت أتصورها حين اتخذت قرار المواجهة للعيش كما أحب، أصبحنا كنساء ندرك تشاركنا في العقبات التي تقف بعد كل فعل، حتى في أبسطها مثلا كفعل الكتابة، عند الانتهاء من النص ستكون أمامنا قائمة من التهم تدخل في سياق ما كتبنا، ومنها فضائية تماماً، لا صلة لها بالمحتوى، سيكتب لكِ أنكِ نسوية كتهمة، وأنكِ ضد ما تحمليه من معتقدات دينية وغيرها من التهم الموجهة لكِ، ليس للذي تكتبيه.
كل ما روي عن ميساء وظروف انتحارها إلا أنه كان كافياً لإشعال نوعاً من الثأر بداخلي، وإحساساً بأحقية الدفاع المستميت عن نفسي وعن من هن مثلي شريكاتي في العبء الحياتي كامرأة، قبل الحادثة بيومين فقط، كنت أستقبل كل ما يقوله زميلي في العمل أنه نوعاً من المزاح، حين يقول “حاج تتعبي آخرتك لبيت زوجك، نحن الرجال صار لازم نطالب بحقوقنا”، لكن بعد هذه الحادثة هو مذنب في كل مرة سيتجاوز مزاحه معي مساحة الحقوق التي نقاتل من أجلها كنساء كل يوم والتي حرمنا منها قبل ولادتنا حتى.
وربما سأدخل في خضم معركة جديدة تبقيني من الناجيات، فأنا ناجية حتى الآن من بطش نظام الأسد، ونازحة ومهجرة، وهذه نجاة يشاركني بها كل السوريون، لكن الآن أريد أن أكمل حياتي كناجية من نظام أبوي قمعي، حتى لا أكون ضحية يوماً ما لمن لا يملك من الرجولة سوى ما تعلمه من خبراته المكتسبة تاريخياً واجتماعياً والتي تحدد شروط رجولته بأن يمارس هيمنته وسلطته علينا كإناث.
وحتى لا أكون ميساء ويستمر وجعنا حتى بعد الموت، لأن القرية منعت تداول قصة ميساء، وكتمت حقها حتى بعد موتها، ومنع زوجها أطفالها من وداعها للمرة الأخيرة قبل الدفن، لأنه حسب ما يقول أن ما فعلته عار سيلاحقهم طول الحياة.
What do you think?