لو سألت طفلاً في أي بقعة جغرافية من العالم يمتلك رفاهية الحياة وحقوق الطفولة عن حلمه بالمستقبل القريب، ربما سيخبرك أنه يريد جهازاً لوحياً جديداً أو ربما روبوت آلي يلعب معه أو لربما اختار عجلة أو سيارة كهربائية صغيرة أو التسجيل في نادي للخيل أو السباحة أو تعلم الرسم أو أي حلم آخر.
خيارات كثيرة يمتلكها، ولكن هل تعلم أين تكمن المصيبة الكبرى لدي، حين سألت طفلاً سورياً يقيم في تركيا هذا السؤال ما هو حلمك ؟
خوف مستمر
ميَار الطفل ذو الخمسة أعوام والذي هرب من الحرب مع عائلته عندما كان عمره عشرة أشهر وجاء إلى تركيا بطريقة غير شرعية، ومرت سنوات طفولته في غازي عينتاب فهو لا يعرف مدينته كونه هُجر منها قسرياً مع أبناء مدينته، ولا يعرف سورية سوى عن طريق أحاديث أمه عنها والصور المحفوظة في جوالها كي لا ينسى.
اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!
ميَار يمتلك حلماً بسيطاً وهو من أبسط حقوقه كطفل، حلمه أن يمشي في الشارع نهاراً ويرى الشمس ويذهب للحديقة للعب بكرته في ملعب كرة القدم الموجود فيها ويمر إلى البقالة المجاورة ليشتري البوظة، هذا حلمه المستحيل ببساطة شديدة لأنه سجين منزله منذ أكثر من أسبوعين بسبب حملة الترحيل التي تشهدها المدينة ونظراً لخوف عائلته من الترحيل لم يعد ممكناً الخروج من المنزل.
أم ميَار”تغيرت شخصية طفلي خلال هذه الفترة بشكل محزن، فقد أصبح عصبي المزاج، ولا يتناول طعامه كما السابق، وأصبح يمل بسرعة من أي نشاط أحاول أن أمارسه معه حتى أشغل وقته ، ولأننا نعيش استديو وهي شقة صغيرة وضيقة جداً، أراه يتجول بتأفف ويصرخ بوجهي ووجه والده دون سبب واضح سوى أنه ضاق ذرعاً بالبيت”.
لقد شهدت مدينة غازي عينتاب في آواخر الشهر السادس انطلاق حملة ترحيل شديدة، حيث انتشرت سيارات الترحيل بكثرة في شوارع المدينة وتم تفتيش آلاف السوريين/ات الموجودين/ات ضمن المدينة للبحث عن المقيمين/ات غير النظاميين/ات أو من لديهم/ن مشاكل في أوراقهم/ن الرسمية ممن لا يملكون/ن مثلاً عنوان إقامة أو كيمليك عينتاب أو ما يعرف ببطاقة الحماية المؤقتة، وتم ترحيل العديد منهم/ن إما إلى مراكز الترحيل وذلك لإجبارهم/ن على التوقيع على أوراق العودة الطوعية، أو إلى الشمال السوري مباشرةً مما خلق حالة من الرعب والخوف.
قيود مفقودة بلا سبب!
وفقد العديد من السوريين/ات أوراقهم/ن النظامية بسبب إيقاف القيد من قبل دائرة الهجرة من دون أسباب واضحة، وفي الوقت نفسه صعوبة إعادة تفعيلها منع الكثيرين منهم من إعادة تفعيل قيودهم مما حال دون الحصول على الأوراق النظامية، كما تم إبطال إذن العمل لآلاف السوريين/ات وحرمانهم/ن من الحصول على إذن عمل جديد تسبب في مزاولتهم/ن للعمل بطريقة غير قانونية مما يؤدي لترحيلهم/ن في حال ألقي القبض عليهم/ن، هذا ما دفع عشرات العمال/العاملات إلى الاختباء في المنازل وعدم الذهاب للعمل، كل هذه الأمور زادت المعاناة وضاعفت الضغوطات النفسية والمادية.
اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة
غصون امرأة سورية مقيمة في ولاية غازي عنتاب جنوب تركيا “أعيش في تركيا منذ خمس سنوات، كنت أملك أوراق نظامية ولكن تم إيقاف قيدي وحذف نفوسي بدون أي سبب قانوني أو مخالفة مني، وأنا اليوم منذ بداية الحملة حبيسة منزلي بسبب سيارات الترحيل في الشارع الذي أقيم فيه ولم أتمكن من الخروج حتى من أجل شراء الطعام والماء، أشعر بقلق يمنعني حتى من النوم ليلاً وأسأل نفسي مئات المرات في اليوم إلى أين سأذهب.. فكرت في الخروج إلى أوروبا بطريقة غير شرعية وتواصلت مع مهربين من أجل ذلك، ولكنهم يطلبون مبالغ خيالية تجاوزت سبعة آلاف دولار ولا أملك هذا المبلغ، حين أسودت الدنيا في نظري فكرت في العودة إلى الشمال السوري لأنه الخيار الوحيد المتاح لي، ولكني تراجعت كون الحياة هناك مستحيلة بسبب الظروف المعيشية، كما أن مدينتي تحت سيطرة النظام وقد هُجر أهلها قسرياً منها ودمرها النظام بشكل كامل مما يعني أني سأكون لاجئة أيضاً ولا أملك منزل أو عمل لذلك تراجعت عن قراري ولكن خوفي لا ينتهي”.
لأنني سورية!
أما سمية وهي أيضا مقيمة في غازي عنتاب تقول: “أعيش في تركيا منذ أكثر من عشر سنوات، وكان أطفالي صغاراً حين جئنا إلى هنا، درسوا في المدارس التركية وتفوقوا، لدي اليوم إثنين من أولادي يدرسون في الجامعة كلية الطب البشري، أفكر دائماً كيف سيكون حالنا في حال تم ترحيلنا؟ وكيف سنبدأ حياتنا من جديد؟”
نشأ أطفال سمية في تركيا وتعلموا اللغة التركية وأتقنوها ولم يتمكنوا من تعلم اللغة العربية، وهي تعيش رعباً حقيقياً من شبح الترحيل الذي قد يحرمهم من أحلامهم ومستقبلهم والعنصرية التي تهدد حياتهم.
تضيف “هل يمكن أن تتحول جنسيتنا إلى جريمة نعاقب عليها لأننا هربنا من بلدنا بسبب الحرب وحتى نتمكن من حماية أرواحنا؟ “
الكثير من القصص للأمهات والنساء السوريات اللواتي يمضين أيامهن في الخوف والرعب من مواجهة التحديات المتعلقة بالوضع المعيشي والقانوني والصحي في تركيا لاسيما في ظل العنصرية المتزايدة.
أم آمنة امرأة سورية مقيمة في غازي عنتاب، مريضة سرطان ومنهكة من آلالامه التي أكلت جسدها منذ ثلاث سنوات وتتلقى العلاج في إحدى مشافي الولاية، تفاجأت حين مراجعة المشفى لتلقي جرعتها أن قيدها قد تم توقيفه ولا يمكنها مواصلة العلاج، مما اضطرها للعودة إلى سوريا حاملة معها مرضاً خبيثاً يفتك بسنواتها الأربعين.
اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة
تحدثت ابنتها والتي كانت مرافقة لها قائلة: “بذلت جهدي حتى تكون إقامة أمي قانونية وتتابع علاجها كونه غير متوفر في الشمال، كما أننا لا نملك ثمن الجرعات البديلة التي يجب أن تأخذها كل خمسة عشر يوم، طرقت كل الأبواب وتواصلت مع الأطباء والمسؤولين حتى يتم إدخال أمي ثانية لتتلقى علاجها لكن دون فائدة وأنا اليوم لا أملك سوى مراقبتها أمامي وهي تعاني الألم، أراقب موتها وأنا عاجزة عن تقديم أي مساعدة سوى البكاء والدعاء، حتى أمي من شدة وجعها باتت تتمنى الموت حتى ترتاح مما تقاسيه”.
آلاف القصص والأوجاع والظلم يتعرض لها السوريون/ات في ظل حالة عدم الاستقرار المستمرة. وبعد سنوات طويلة من العيش في تركيا، حيث أسسوا/ن حياتهم/ن، سواء من خلال العمل أو الدراسة أو بناء مشاريعهم الخاصة، تجد اليوم وسائل التواصل الاجتماعي مكتظة بمئات الإعلانات لأشخاص يعرضون/ن ممتلكاتهم/ن للبيع، سعياً للمجازفة بالهرب إلى أوروبا أو العودة إلى سوريا. ورغم أن المستقبل مجهول، إلا أن الخوف من تسليم تلك المناطق الحدودية للنظام يزيد من شعورهم باليأس، حيث يرونه الوجه الآخر للموت.
يبدو أننا كسوريين/ات ممنوعون/ات من الحياة والحرية والأمان والاستقرار.
What do you think?