عقب الفنجان السادس توقّفت عائشة عن عدّ فناجين البابونج التي تناولتها للتغلّب على القلق المسيطر عليها بعد انتشار خبر اغتيال باسكال سليمان، وإلصاق التهمة بالسوريين. لم ينفع العلاج الشعبيّ التقليدي في تهدئة نوبات الهلع التي أصبحت تمنعها عن فتح نافذة غرفتها لتجديد هوائها، فضلًا عن مغادرة المنزل، فهي تعيش في “الديكوانة” المنطقة المشهود لبلديتها بالعنصرية، وتجاوز الصلاحيات عبر إصدار أوامر ترحيل، واقتحام منازل السوريات/ين وإجبارهن/م على الإخلاء من دون سبب، فكيف وهم يمتلكون ذريعة كهذه لمعاقبة الجميع، حتى أولئك اللواتي/ الذين لم يسمعن/وا بالخبر بعد.
صبيحة العيد.. اختبأنا بدل الاحتفال
في مساء الثامن من نيسان/ أبريل انتشر خبر مقتل منسق القوات في جبيل “باسكال سليمان”، حيث عثرعلى جثته في بلدة سورية عقب يومين من اختطافه.
نشر الحساب الرسمي للجيش اللبناني على منصة إكس بيانًا قال فيه إن “العصابة الخاطفة من السوريين، والجثة عثر عليها في سوريا، حيث قتل سليمان من قبل العصابة السورية أثناء محاولتهم سرقة سيارته”.
عود ثقاب فوق كومة من إسفنج تشرّب شهورًا من التحريض المستمر، والعنصرية المتراكمة.
اقرأ/ي أيضاً: حياة مؤجلة حتى إشعار آخر
سيل هائل من التسجيلات الصوتية المليئة بالتهديد والوعيد للسوريات/ين اللواتي/الذين يجب عليهن/م العودة فورًا إلى بلدهن/م، ولكن ليس قبل الانتقام.
كان البيان المقتضب التحريضي في متنه كفيلًا بنزول عدد من “شباب القوات” إلى الشوارع والاعتداء على كل من يشتبه به أنه سوري، والشبهة هنا، يتم تحديدها بناءً على الشكل أو على المعرفة السابقة بجنسية الشخص المعتدى عليه.
بهذه البساطة، اعتدوا على سيارات تحمل لوحات سورية، وضربوا عددًا من المارة بطريقة وحشية.
مشاهد مرعبة لأتباع حزب القوات يضربون شبانًا سوريين في ذوق مكايل وبرج حمود، عدا عن قطع الطريق بالاتجاهين في جبيل، وإحراق الإطارات.
كان الهلع يسيطر على كل من تواصلت معهم، وهم بالمناسبة ليسوا أهدافًا مباشرة بحسب المعايير العنصرية للمعتدين في الشوارع، فالجميع سبق لهم وأن سمعوا مرة على الأقل “مش مبين عليك/ي سوري/ة” لأن السوري/ة الذي/ التي يظهر عليه/ا جنسيته/ا هم/هن الناطور، وعامل العتالة، والعاملة المنزلية، والعائلة البسيطة التي يعمل فيها الأب جميع المهن ويؤدي كافة المهام التي من الممكن أن تعود عليه وعلى عائلته ببعض النقود في هذا البلد المنهار على ذاته، وعلى أكثر الفئات هشاشة فيه.
كان قد انتشر في المساء تعميم يفيد بمنع تجول السوريين لليومين القادمين، ذكر فيه أن ذلك حفاظًا على السلامة والسلم.
وفي ظل تضارب الأرقام من جانب الجهات الرسمية عن العدد الحقيقي للاجئين، وعن عدم تسجيل جميع السوريين اللاجئين في لبنان أنفسهم لدى مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، لا يمكننا معرفة تماماً عدد الذين يقبعون في منازلهم أو خيمهم محظورين من التجول بوصفهم جميعا مجرمين بناء على جنسيتهم التي حملوها بموجب مصادفة الولادة في مكان ما.
قد يبدو هذا السرد مظلومياً أو مبالغاً به، لكنها ليست المرة الأولى التي تقع فيها أحداث مشابهة. ما يميز هذه المرة عن غيرها هو التصعيد، اتساع رقعة الاعتداءات، والتحريض المباشر من رؤساء أحزاب وبلديات ومسؤولين في مختلف مستويات الدولة ووزراء.
وللمفارقة، هناك معتدون حقيقيون صورتهم كاميرات الهواتف، وتداولت مقاطعهم المصورة جميع المنصات الإعلامية وهم يرتكبون جرم الاعتداء على المارة وضربهم وشتمهم، لكنّ أحداً لم يحاسبهم.. فضلًا عن أنهم يتمتعون بحرية التنقل فما من حاجز ينصبه شبان مسلحون بعصي أو بنادق سيوقفهم ليأخذهم إلى أقرب مخفر، هذه الحواجز تنصب فقط للبحث عن السوريين.
ليس المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، المتهم مدان حتى دون الحاجة إلى التفكير باحتمالية براءته. وعائشة التي تعيش في منزل متواضع بتكلفة تتجاوز الـ 600$ لكل شهر، أغلقت النوافذ، وأوصدت الأبواب، ثم أطفأت جميع الأضواء وكأنها ليست موجودة في المنزل، وكأنها لم تكن هنا يومًا.
يعكس هذا التصرف الرغبة بالاختفاء بعد استشعار الخطر المحدّق بها وبوالدتها المسنّة، ولكنّ الاختفاء أو حتى محاولة الهرب ليسا بهذه السهولة، فالبلدية جنّدت عدة شبان لاقتحام المنازل وطرد ساكنيها، ما اضطرّها إلى اصطحاب والدتها ليلًا والهرب إلى منزل أحد أصدقائها في الأشرفية.
وهناك، لم يكن الحال أفضل بكثير، فقد امتلأت شوارع الأشرفية بمناشير تطالب السوريات/ين بالرحيل مع تهديد تحوّل لاحقًا إلى مادة خام للسخرية من الأخطاء الإملائية التي ارتكبها كاتبه.
تعليقًا على كل ذلك تقول عائشة ” عدد لا نهائي من الرسائل عبر مختلف التطبيقات اجتاحت هاتفي خلال عشر دقائق، إلى جانب عدد لا نهائي من الرسائل التي أرسلتها، دائرة خوف وقلق متبادلين بين جميع السوريات/ين اللواتي/ الذين أعرفهن/م في بيروت وضواحيها، دائرة فوق أخرى، ثم دوّامة مخاوف تدور بيننا وتُعيد إلى الأذهان رعبًا جماعيًا ما يلبث أن يبهت فيتجدد. اضطررت ووالدتي إلى الاختباء في منزل صديقي اللبناني 10 أيام ريثما يهدأ الوضع الذي نعلم جميعًا أنه سيعود للانفجار في أيّ لحظة لسبب أو لآخر.”
أموال طائلة من الأمم أم سرقة لفرص اللبنانيين؟
في حيّ الجعيتاوي بالأشرفية ذاتها، تعيش مريم امرأة سورية عشرينية تسكن وحدها في مبنى كلّ سكّانه لبنانيون/ات، لم يكن ذلك التفصيل واضحًا أو مهمًا خلال الأيام الأولى من إقامتها فيه، ولكنّ نظرات الازدراء التي كانت تراها على وجوه جاراتها وجيرانها، ومن بعدها المعاملة القاسية والاتهامات الغريبة التي صارت تتلاقهما بشكل دائم، سببت لها شعورًا بعدم الأمان.
“كان الجيران يتعمّدون باستمرار إغلاق باب المبنى في وجهي إذا ما صادف دخولنا إليه في اللحظة نفسها، أما جارتي القاطنة في الشقة المقابلة فكانت تغلق بابها كلّما رأتني أفتح بابي للخروج.” تصف مريم تلك الممارسات وهنالك ابتسامة جانبية ساخرة تعتلي فمها الصغير.
اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!
وتضيف “بعد مضيّ الشهر الأول، طرقت بابي مسؤولة العمارة وأخبرتني -دون إلقاء التحية- أن الباب الرئيسيّ الذي دأبوا على إغلاقه في وجهي يحتاج إلى صيانة، ويترتّب على كلّ منزل 40$ تكلفة لذلك. بالطبع، دفعت لها من دون جدال أو سؤال عن الفاتورة لأن القساوة التي عاملوني بها بسبب جنسيّتي لن تتبدّل خلال لحظة إلى لطف يسمح لها بمشاركتي هذه التفاصيل فأنا بالنسبة لها دخيلة”.
علمت مريم لاحقًا عن طريق الصدفة أنها الوحيدة التي دفعت للصيانة لأن إجماليّ المبلغ كان 40$، وأن مسؤولة العمارة اعتبرت أنها “سورية تقبض أموالًا طائلة من الأمم”. ولسخرية الواقع وسوداويته، تزامن اكتشاف مريم لتعرّضها للاستغلال بسبب المعلومات المضللة التي ينشرها الساسة اللبنانيون ومحطاتهم الإعلامية، مع مقابلة كانت تعرض على الإم تي في لرجل كان يدّعي أن سبب هجرة اللبنانيين/ات هو سرقة فرص عملهم/ن من قبل النازحين/ات الذين/ اللواتي يعملون/ن بأجور زهيدة لا يقبل اللبناني بها. تتساءل مريم، كما سيتساءل أي شخص لم تخرّب العنصرية دماغه/ا: هل يعتمد السوريون/ات على مساعدات الأمم “الهائلة” فلا حاجة لديهم/ن للعمل، أم يعملون بأجور زهيدة إرضاءً لرغبتهم/ن الشريرة بتهجير اللبنانيين/ات؟
ممنوعة من الرفض
ليلى، صبيّة سورية قصدت بيروت بحثًا عن فرصة عمل توفّر لها شكلًا أفضل من الحياة التي كانت تعيشها في إحدى قرى محافظة حماه، ورغم أن المطاف انتهى بها نادلة في مطعم وسط العاصمة بيروت، إلّا أنها اعتبرت ذلك بداية الطريق واختارت الكفاح لنيل الاستقلالية.
تتعرّض ليلى خلال عملها للكثير من المضايقات بعد أن يكتشف بعض الزبائن من خلال لهجتها أنها ليست لبنانية، تأخذ تلك المضايقات أشكالًا متتعدة تتأرجح بين الاستهجان باستخدام العبارة الشهيرة “مش مبين عليكي إنك سورية”، والتحرّش البغيض الذي تضطر إلى التعامل معه وحدها لأن إدارة المطعم تفضّل راحة الزبون على صون حقوق العاملة.
من بين المواقف العديدة التي تذكرها ليلى، هنالك محادثة جرت بينها وبين زبون كان يأتي إلى المطعم بشكل شبه يوميّ، وفي كلّ مرة يأتي فيها كان يحاول “التودد” إليها، رغم أنها أوضحت له عدم اهتمامها به إلّا بوصفه زبونًا مثل أي زبون آخر.
والتودّد هنا، كلمة يستخدمها المتحرّش للتغطية على فعلته.
تسرد ليلى تلك المحادثة وصوتها يرتجف فتقول” سألني الخروج بصحبته لشرب فنجان قهوة في مكان آخر غير هذا، فرفضت. لم يتوقّف عن الإلحاح بل راح يحكي عن رغبته العميقة بالارتباط بفتاة سورية والزواج منها، معللًا ذلك بأن السوريات يرضين بالقليل، وغير متطلّبات، على عكس اللبنانيات، كما أنهنّ جميعهنّ يرغبن بالزواج من لبنانين، ولا يمانعن حتى ولو كان الرجل متزوجًا.”
اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات
لم يكن وقع الكلمات الميزوجينية العنصرية هيّنًا على ليلى لكنّ خوفها من خسارة عملها أجبرها على الاكتفاء بتكرار جملتها السابقة “لست مهتمّة”.
وكأيّ رجل يحمل فكرًا مشابهًا لفكر هذا الزبون، لم يتقبّل اللـ لا، فاعتبرها إهانة شخصيّة ردّ على أثرها بجملة “سورية وإلك عين تقوليلي لا، لازم تشكري ربك إني طلعت فيكي.”
لم تشكر ليلى ربّها على التحرش الذي تعرّضت له، بل دعته من كلّ قلبها أن يساعدها على مغادرة هذا البلد الذي تحكمه منظومة ذكورية عنصرية تمنعها من محاولة تحصيل حقّها، إلى بلد آمن يحترم إنسانيتها، ويؤمن بيئة حاضنة لإمكانياتها تخوّلها من تحقيق أحلامها التي تركت بلدها الأم سعيًا وراءها.
عائشة، مريم، وليلى ثلاث قصص لنساء سوريات يعانين من العنصرية والذكورية في لبنان، وصلت قصصهنّ إلينا بفعل الصدفة، ولكنّ آلاف النساء السوريات على امتداد الأراضي اللبنانية يعانين في كل لحظة ظروفًا قارهة، واستغلالًا شنيعًا لم نسمع قصصهنّ بعد، لكنهنّ يحلمن كل يوم بالخلاص من انعدام الاحتمالات في بلد يبدو أفقه أضيق من مساحته.
What do you think?