عن الهزات الارتدادية قبيل الزلزال
لم يكن الزلزال هو الصدمة الوحيدة التي تعرضنا لها نحن السوريات والسوريون خلال السنوات الأخيرة، لكنها كانت الأعظم، تلك الفترة التي حولتني من طالبة جامعية تُلقب بـ “النيردة” في دفعتها إلى طالبة أسقطت أكثر من نصف موادها.
ومن إعلامية تجهز لبرنامجٍ تلفزيوني إلى امرأة لا تستطيع أن تشرب كوبً من الماء أمام أحد بسبب شلل أصابني في العصب السابع من وجهي.
تلك الهزات أنهكت كل الملامح التي تدلُ على أني امرأة في الخامسة والعشرون من عمرها فقط.
الساعة الواحدة إلا عشرِ دقائق، الوقت الذي وصل بي الاكتئاب إلى أعلى مستوياته، أرسلت رسالة نصية لصديقاتي أخبرهن عن حجم ما أمر به قائلة: “حاسة أني انتهيت مهنيا ودراسيا وكلشي وصرت حدا ماله حيلة
وضعي مافيه تحسن يذكر
حاولت من كم يوم اعتذر من ………خبروني انهم مقدرين الوضع ورح ينتظروني
بس ما بعرف لأيمت رح ينتظروا
الجامعة راح مني ٤ مواد يعني حلمي بإني كون معيدة تراجع
كلشي بنيته من ٦ سنين لهلئ عم شوفه عم يطير
فعليا أنا مو قادرة أغسل كاسة وكأنه الموضوع أثر ع أعصاب تانية
اسفة طولت بس حبيت فضفضلكم”.
ثم أغلقت الهاتف لتصيبني نوبات من البكاء المستمر، حتى تلك الساعة التي غيرت مفهوم الحياة بالنسبة لي وجعلتني أصلب وأقوى.
الساعة الرابعة والربع تقريبًا حان موعد نومي الذي لم يكن منظمًا بسبب الحالة الصحية التي مررت بها.
ما إن أغمضت عيناي حتى بدأ البيت يهتز بسرعة هائلة ودون أي سابق إنذار، لحسن حظي أنني قرأت قبيل يومين من الزلزال تقريرًا عن الاحتياطات الواجب اتخاذها أثناء الزلازل والتي كان أهمها الخروج من البيت في حال لم يكن المنزل طابقي.
وهذا ما فعلته حقًا، حملت طفلي وركضنا وزوجي به إلى الصالة لكن الزلزال أخذ يشتد، فخرجنا مسرعين إلى خارج المنزل، نمسك بعضنا البعض ونتمتم ببعض الأدعية حتى توقف الزلزال.
وبحكم أني أعيش في منطقة متطرفة عن المدينة لم أتخيل حجم الكارثة التي حصلت، وانقطاع الإنترنت زاد الأمر سوء، فلم أعد قادرة على الوصول لأهلي وصديقاتي وأقاربي للاطمئنان عليهم ولا هم قادرون على الوصول إلي.
بقينا ساعة ونصف تقريبًا، متوجسين نرتقب الهزة والأخرى حتى نسرع في الخروج من البيت لنعاود الرجوع إليه حين تتوقف الهزة..
إلى أن طرق بابنا أخو زوجي، جاء للاطمئنان علينا ولإخبارنا أن الناس خرجت إلى الشوارع وأن هناك بعض المنازل تهدمت وهناك بعض الجرحى العالقين تحت الأنقاض، وأن بناية لأقاربنا سقطت وكل من فيها تحت الأنقاض إلى الآن وغيرها من الأخبار الصادمة.
لم تمر هذه السويعات القليلة بسهولة علينا…حتى خرج جميع من يسكن هذه العمارة أحياء إلا والدة صديقتي المتوفية منذُ عدة أعوام لم يستطيعوا إنقاذها…وماتت موتتها الأخيرة..
نعم موتتها الأخيرة فمعظم الأمهات السوريات يمُتّن عِدة مرات حتى يفارقن الحياة.
مضى على الزلزال يومين وأنا أشعر بعجز عظيم حتى قررت أن كتب بوست عبر صفحتي على الفيس بوك عبرت فيه عن رغبتي بالخروج مع الفرق التطوعية للاستجابة، طالبة ممن يشاركني هذه الرغبة من النساء مراسلتي عبر المسنجر وهذا ما حدث حقًا.
شكّلنا مجموعة صغيرة تضم بعض النساء وتوجهنا إلى مركز المدينة في اعزاز ونحن صفر اليدين والخطط، لكن هدفنا كان واضح ….
ومن هذه الانطلاقة بدأنا التشبيك مع بعضنا البعض وتوسعنا لنصِل إلى الفرق التطوعية الأخرى بهدف وصول منظم للمتضررين والمتضررات من الزلزال.
لم تكن الاستجابة بهذه السهولة، رغم تعودنا على التعامل مع أزماتنا التي لا تنتهي، لكن كل هذا الموت الجمعي لم نكن معتادين عليه وهذا الخراب المهترئ لم يكن سوى إسقاط لما في داخلنا من رماد لكن فكرة أن ترى هذا الرماد على هيئة مدينة كان مفجع.
انتقلنا بعد ذلك للتعامل مع المصابين والمصابات في المشافي، لإنهم/ن الأكثر ضعفًا والأجدر بالمتابعة والرعاية.
أصعب المواقف..
في أول يوم من الاستجابة خرجت مع فريق تطوعي إلى أحد المشافي في مدينة عفرين لإحصاء عدد المتضررين من النساء والأطفال والرجال وتقديم ما نستطيع أن نقدمه كاستجابة طارئة، انتقلنا مع إحدى الممرضات إلى جناح العناية المشددة وهنا كانت الصدمة، طفلان في العامين والنصف من عمرهما ملفوفان بشاشٍ أبيض من رأسهما حتى أخمص قدميهما، يرقدان في العناية المشددة.
الطفل لا أعرف اسمه حتى ولكن سأطلق عليه” X “، كان فاقد لعائلته بشكل كامل وهو بين الحياة والموت.
والطفلة باسم y” ” بقي من عائلتها والدها فقط.
ليس سهلاً أن يخبرك الطبيب أنهم قدموا ما بوسعهم لإنقاذ هذه الأرواح الصغيرة لكن الأمر متروكٌ لقدرهم.
ليس سهلاً أن تنظر في عيني أم متأكدة أن أبنتها ماتت، لكن جميع من حولها يكذبون هذا الخبر الصادم عنها خوفًا على صحتها.
ليس سهلاً أن تُضحِك طفلاً فقد كل أفراد عائلته.
ليس سهلاً أن تُمسِك يدك إحدى الأمهات لتشاهد صور أولادها الذين فقدتهم في الزلزال والذين فقدتهم خلال سنوات الحرب.
ليس سهلاً أن تراقب أمً أملها الوحيد داخل غرفة الإنعاش، تنتظر أي خبر عن ابنتها بعد أن فقدت ابناءها الأربعة الآخرين.
ليس سهلاً أن تأخذ خمس ثواني لتسأل أحدهم هل هؤلاء الأطفال أيتام زلزال أم أيتام حرب؟؟
ليرد: هم أيتام مركبون خسروا والدهم في الحرب ووالدتهم في الزلزال.
هذه الصدمات المتتالية التي تلقيتها جعلتني أقوى وأصلب، زرعت في داخلي الإصرار على الصمود، لأن الصمود وحده من يجعلنا قادرين على الاستمرار في الحياة.
بالمناسبة بعد أسبوعين تقريب من زيارة المشفى علمنا من الممرضات أن وضع الطفلين استقر وتم تخريج الطفل x”” بينما الطفلة y”” تحتاج لعملية في ساقها.
What do you think?