في العودة الى عنتاب بعد الزلزال
عدنا أول البارحة إلى غازي عنتاب، ليس لأنها باتت آمنة ولا لأن الحياة عادت فيها، بل لأني أريد للصدمة أن تنتهي فقد غادرناها بعد الزلزال بيومين لأستقبل مكاناً لا أود الحديث عنه في الوقت الحالي.
استقبلتنا عنتاب القاسية التي لم تريني وجهها الحاني يوماً بانقطاع التدفئة والماء في منزلنا مما يجعل المبيت لأم لم يمض على ولادتها ثلاثة أسابيع مع طفلة بسنة وثلاثة أشهر أمراً صعباً.
قررنا المبيت في منزل صديق كريم لم ينتظرني لأطلب منه حلاً بل أرسل لي فوراً عنوان المنزل وصاحب المفتاح.
وصلنا بيت صديقنا وضغطنا على مفتاح تشغيل المكيف، وضع الحار أعطانا لوناً أحمر على جهاز التحكم، جلسنا لمدة طويلة بانتظار أن ندفأ، ثم فقدنا الأمل فنمنا، كان البرد قد تغلغل في المنزل فنال منه ومنا.
كان منزلاً دافئاً يحمل طاقة حب وأمان كبيرين فلم نجد بداً من أن نستسلم للراحة النفسية فيه ولتوصيات أصحابه أن نكون مرتاحين وبخير.
تعود ليلاً الهزات الارتدادية لتوقظني، وجوع طفلي يوقظني، أفكاري أيضاً توقظني فأبكي كثيراً، كان يجب أن أبكي عندما خفت أن يصيب طفليّ مكروه ولكنني لم أجد الوقت لذلك.
مشاعري ملتهبة، بكاء طفل ونعوات منتشرة وكلمات أب مكلوم أو حتى مجرد تخيل أسوأ السيناريوهات تقتلني، تتردد على مسامعي جملة: “ماذا لو كنا مكانهم؟!”
بكيت البارحة كثيراً، لم أمنع نفسي فأنا أعرف أن بكائي هذا طال تأجيله، طفل بعمر بلال ابني أخرجوه من تحت الأنقاض، طفلة رأيت بعينيها ابنتي التقت بوالدها في مخفر الشرطة، أبكي كثيراً كلما تذكرت ما جرى، مشاعري ملتهبة ولم يطفئها ثلج الشارع ولا المطر المنهمر وقتها، تمرض ابنتي ويلتهب حلقها وأنا أفكر بالآلاف في الخيم أو العراء لا يجدون مصدراً للدفء يساعد أطفالهم على التحسن.
يذكر صديقنا ابراهيم زبيبي عن مشاعرنا أن ما يزيدها التهاباً أننا أصبحنا أهلاً.
إحدى عشر سنة خسرنا فيها الكثير الكثير، أعمارنا وذكرياتنا وشغفنا وأحبائنا ورفاق دربنا، تغربنا وحاولنا النسيان والتعافي، ظننا أننا نجحنا وبدأنا بمرحلة جديدة لنثبت لأنفسنا ذلك ألا وهي مرحلة بناء الأسرة التعويضية.
سعينا بأيدينا وأقدامنا لتكون لدينا أسر تعوضنا عما مضى في مرحلة شبابنا المتكهّل، ليأتي يوم تتزلزل فيه حياتنا ونجاحاتنا المهزوزة ونتمنى في هذا اليوم بالذات لو لم يكن لدينا أطفالاً.
حسناً كان الأمر صعباً منذ حدث ذلك الزلزال، لا أجرؤ أن أتذكر كيف كان الأمر فقد كان غريزياً غريباً، زوجي يحمل ابنتي وأنا غطيت بجسدي المتعب طفلي حديث العهد بالحياة المتمدد بجانبي على السرير.
تصيح والدة زوجي من غرفتها إثر الهزة وانا لا أعي ما يحصل فيقول لي باسل: “هزة..هزة” فأتشهد، لم يكن يملؤني رعب أو خوف وقتها بل كنت أفكر فقط متى ستتوقف الهزة كي نهرب.
لففنا طفلينا بأغطية صوفية ووضعت غطاءً على رأسي ونزلنا نحو الثلج المتراكم تدهس خطانا العارية بقايا الثلج فقد نزلنا ‘بشحاطات’ المنزل، أين نذهب؟! بقينا في الشارع ننتظر.
برد يقطع أوصالي وجرحي القيصري يئن فأخمده، لا وقت له ولا مكان، نحن في وضع الطوارئ وعلينا أن نبقي أطفالنا في أمان، أحمل بلال وتضحك ياسمينة معتقدة أننا في نزهة ليلية، لا ألومها فقد تنزهت قبلها بأسبوعين حينما ذهبنا جميعنا إلى المشفى لولادتي في الساعة الخامسة صباحاً.
ثلاث ساعات أجلس على مقعد حديدي داخل موقف الباصات ونحن ندري أنه ليس مكاناً آمناً حتى ولكننا بخطوتين نكون في الشارع دون سقف قد يتهالك فوقنا، أقدامي تجمّدت ولكني بكل أمل أنتظر أن تنتهي هذه المحنة ولكنها لا تنتهي.
نعود للمنزل لندفأ قليلاً ثم نعاود الهروب بعد زلزال آخر ظهراً، نلجأ للمسجد القريب منا فيغلق أبوابه لتصدعه، نلتفت نحو مكان آخر فأجد جارتنا التركية تلوح لي بيدها للمجيء، مكتبة صغيرة تصلح أن تكون غرفة لحارس المسجد فيها مدفئتان كهربائيتان وسماور الشاي يغلي كما الأنفس التي يزدحم بها المكان. جلسنا كما البقية حتى لم يعد هناك مكان في حضني لطفلي، ياسمين تريد اللعب في مساحة لا تتسع لها جالسة فقررنا المغادرة.
انتقلنا لسيارة ياسر العزيز الذي زحمناه بعائلتي إلى جانب عائلته، لم يكن لدينا خيار آخر إلا أن نطلب المساعدة من الطيبين، منهكون ولكننا نريد مكاناً آمناً.
نمنا تلك الليلة في سيارته بعد أن تناولنا اول وجبة بعد الزلزال، حينها انتبهت أنني كنت أرضع طفلي من ثدي جاف لم أدر كيف سدّ رمق طفلي الجائع.
يئز جرحي مرة أخرى فأؤجله، لا وقت الآن للتعب، نحن بخير وعائلتي بخير، لا أدري إلى متى ولكني كنت أكرر هذه الجملة كثيراً علها تساعدني على تخطي الصدمة.
عدنا بعدها للمنزل ظناً منا انتهاء الخطر، يقترح أخ زوجي لنا مكاناً أفضل نبقى فيه وذلك ما سأؤجل البوح عنه فقد أثقلت هذه المساحة بما يكفي.
شكراً للطيبين الذين اطمئنوا وأرسلوا واتصلوا وساعدوا وطبطبوا، منهم من شاركنا الزلزال وآخرون بعيدون عنه.
نحن الآن في عينتاب لا ندري ماذا يقدر الله لنا، إن كتب على الموت فسأقول لبلال: طفلي الحبيب أنا أعتذر عما سببناه لك من ألم رغم صغر حجمك، نحن نحبك كثيراً ونحب الخير فيك أكثر فلا تنساه واسع له دائماً.
ابنتي الجميلة نحن نحبك كثيراً ولطالما قلنا لك ذلك، كوني بخير واعلمي أن روحك الجميلة وعقلك الرشيد سيوجهانك نحو الخير والصواب دائماً.
وإن قدر لنا الموت جميعاً فأحبتي البشر، لم أكن أعلم أن هذه الدنيا ستقسو عليّ بهذا الشكل عندما أنجبتني أمي للحياة، اعتقدت أنها ستلين بوجود الأحبة إلا أنها أثبتت لي أنها تقسو أكثر.
هبة سويد العزاوي 14 شباط
لا توجد لدي أي صورة بصراحة لتلك الأيام الصعبة التي قضيناها وقت الزلزال، ولكن في فترات لاحقة أحببت أن أرسم من باب التفريغ النفسي هذه الرسمة البسيطة التي أعي تماماً بدائيتها لأنني لست فنانة ولا رسامة ولكنها صاحبت تلك الفترة.
What do you think?