هل اختبرت/ي يوماً ما معنى أن تكون مريضاً وبحاجة شديدة للدواء، ولا تستطيع الحصول عليه فقط بسبب جنسيتك أو عرقك!! نعم قد يحدث ذلك، وسبق وحدث في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة، واليوم أختبر هذا الشعور بكل تفاصيله، فمنذ عام 2015 وحتى اليوم لم أتمكن من الحصول على الدواء بالشكل المطلوب فقط لأنني سورية وأعيش في تركيا، ومرات قليلة التي حصلت فيها على الدواء ومن نفقتي خاصة، ولكن لم أستطع الاستمرار في تحمل التكاليف.
سأتحدث هنا عن قصتي بشكل خاص، اسمي أمل “اسم مستعار”، أبلغ من العمر 35 عاماً، أعيش في مدينة غازي عنتاب التركية منذ ما يقارب العشر سنوات. شاءت الأقدار أن أصابُ بمرض التصلب اللويحي منذ عام 2011، لأحمل هموم هذا المرض معي وأوجاعه في حقيبة سفري، وأسافر إلى تركيا عام 2013.
يعرف مرض التصلب اللويحي كأحد أمراض المناعة الذاتية، يهاجم الجهاز المناعي، ويسبب مشكلات في الاتصال بين الدماغ وبقية الجسم. في النهاية، يمكن أن يسبب المرض تلفًا أو تدهورًا دائماً في الألياف العصبية. تختلف مؤشرات التصلب اللويحي أو المتعدد وأعراضه اختلافاً كبيراً من مريض/ة لآخر/ى بناءً على موضع تلف الألياف العصبية وشدته في الجهاز العصبي المركزي. وحتى لحظة كتابتي لهذه المقالة لا يتوفر علاج شافٍ تماماً للتصلب اللويحي، لكن هناك علاجات تساعد في سرعة التعافي من نوباته وتعديل مسار المرض والسيطرة على أعراضه.
وابتدى المشوار
عندما أتيت إلى مدينة غازي عنتاب التركية عام 2013، كانت وضعي الصحي نوعاً ما مستقر، وظننت أنني شفيت من المرض، ريثما تكررت وظهرت أعراضه مرة أخرى عام 2015 أي بعد مرور عامين، إذ عجزت على تحريك أطرافي اليسرى مع الشعور الدائم بوجود ما يشبه التيارات الكهربائية تسير في العمود الفقري.
كان لابد من أن أخضع مباشرة للعلاج لكي لا تتفاقم حالتي الصحية، وهنا كانت الطامة الكبرى، إذ تعتبر تكاليف العلاج غالية، ففي أحد المرات سمعت طبيباً سورياً يقول على سبيل المزاح “مرض التصلب هو مرض الأكابر لأنو تكاليف علاجو كتير غالية”.
بالإضافة لما سبق ومن أجل استقرار وضعي الطبي والصحي، من المهم توفر إمكانية الحصول على الدواء المناسب، وأحد هذه العلاجات هو “إلا باجيو”، ويعتبر من الأدوية المكلفة وغالية الثمن، ويتوجب من أجل السيطرة على المرض، الحصول على الدواء بشكل مستمر، وقد تمتد فترة العلاج لسنوات.
في تلك الفترة كنت بلا أي وثائق رسمية، أتحمل تكاليف علاجي على نفقتي في المشافي الخاصة، وهنا كنت أمام خيارين وهما: إما أن أستمر في تحمل تكاليف علاجي على حسابي الخاص، وهذا سيكون مرهقاً بالنسبة لي ودخلي لا يسمح بأن أتحمل هذه التكاليف، أو أن أحصل عليه بشكل مجاني في حال كنت أحمل بطاقة الحماية المؤقتة “الكمليك”، بحيث أستطيع من خلاله الحصول على الدواء بشكل مجاني ودائم. ولكن هل كان الأمر بهذه السهولة!
إن الحصول على بطاقة الكمليك في مدينة غازي عنتاب أشبه بالسير في طريق من الألغام، وأغلب الذين يعيشن/ون في عنتاب يعرفن/ون مدى صعوبة الحصول على الكمليك، سيما في ظل العنصرية الممارسة من قبل إدارة الهجرة التركية على السوريات/ين في كثير من الأحيان، ورفض منحهم/ن كمليك الحماية المؤقتة وأحيانا لا يعطونهن/م مواعيد من أجل إصدار الكمليك أو بحجة أن السستم معطل “سستم يوك”.
بعد جهد جهيد توصلت من خلال أحد الأصدقاء لرجل لديه معارف في إدارة الهجرة، وأخيراً تمكنت من حجز موعد في إدارة الهجرة بعد شهرين من إصابتي بالمرض، وذلك من أجل الحصول على الكمليك. ولكن هل لك أن تتخيل/ي ما معنى الانتظار لمدة شهرين بينما يأكل المرض من جسدك مع تفاقم حاجتك للدواء.
كنت في تلك الفترة كمن يسابق الزمن ريثما حصلت على بطاقة الكمليك، نظرت لهذه البطاقة لاحقاً وأنا أسأل نفسي أنه أليس من حقنا الطبيعي أن يكون لدينا وثائق رسمية، وأن نحصل على العلاج المناسب، إلى أي مدى نحن السوريين/ات محرومين/ات حتى من هذه الحقوق، لنجد أنفسنا نتحمل التعب والمشقة، وندفع المبالغ الطائلة فقط لكي نحصل على أبسط حقوقنا.
رحلة بألف صفعة
بعد حصولي على الكملك توجهت مباشرة لإحدى المشافي الحكومية في مدينة عنتاب، وتدعى مشفى “أرسين أرسلان” من أجل البدء بإجراءات الحصول على الدواء، إذ لابد من أن تصدر الوصفة الطبية “الرشيتا” من قبل المشافي الحكومية، لكي يتم الحصول على الدواء بشكل مجاني.
بعد فتح سجل طبي لي في هذه المشفى و أخذ موعد من الدكتور المختص، الذي كان حينها رئيس قسم العصبية في المشفى، كانت لدي بوادر أمل في أنني سأتمكن أخيراً من الحصول على الدواء، غير أنني تفاجأت عندما قال الطبيب لي وبعد فحصي: ” يتوفر نوعين للدواء.. واحد منهم عبارة عن حب والآخر عبارة عن إبر.. وعلى اعتبار أنك سورية.. فما رح وافق على صرف الحب لك وإنما فقط سأصف لك الأبر.. ولو كنتي تركية كانت التعامل معك اختلف.. والحبوب فقط منصفها للأتراك اللي متلنا!”
كلام الطبيب كان بالنسبة لي كمن صفعني على وجهي، لم أعرف ماذا أرد من خلال لغتي التركية الضعيفة، صمت وشعرت أن الكلام يختنق في صدري، بدأت أتخيل حجم الألم الذي سأعيشه في حال كان علي أخذ العلاج بالإبر، هذا يعني الحقن المستمر، وكذلك تحمل مزيد من الألم نتيجة الوخز المستمر، مما يولد شعوراً بالتخشب، وظهور بقع زرقاء في جسمي.
لم يكن لدي حيلة هنا سوى البكاء، فلا يكفيني أنني أتحمل المرض وأعراضه، ولكن علي أيضاً أن أتحمل العنصرية، وكأننا نحن السوريون/ات لا نشعر بألم وخز الأبر، وإنما فقط الأتراك حسب اعتقاد الطبيب. بعد التفكير بكلامه لم أكن قادرة على فعل شيء، فغادرت المشفى رافضة العلاج بالأبر.
اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة
يفضل لأنك سورية ما تحبلي
من المعروف أو الشائع طبياً أن مرض التصلب اللويحي يصيب النساء أكثر من الرجال، وذلك بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات مقارنةً بالرجال. فهذا المرض الذي ربما يمكن وصفه بأنه متحيزاً جنسياً، لا يؤثر على الصحة الإنجابية للنساء بشكل مباشر، ولكن العلاجات التي تتلقاها النساء المصابات تؤثر على صحة الجنين في حال يردن أن يحملن ويرزقن بأطفال.
في المرات القليلة التي تلقيت فيها العلاج وبعد عدة محاولات، قررت أنا وزوجي أن نرزق بطفل، وكنت مدركة أن من مخاطر دواء “الأباجيو” الذي أتلقاه يؤثر على الحمل، وعلى صحة الجنين، ومن أجل ذلك حجزت موعداً لمقابلة طبيب آخر في مشفى “أرسين أرسلان” لكي أشرح له أنني أخطط للحمل، عله يرشدني أو يصف لي العلاج البديل ريثما يتم الحمل والإنجاب.
كنت برفقة مترجمة عندما قابلت الطبيب، كنت أتمنى أن يقوم بفحصي والتأكد من حالتي الصحية، ومن ثم يقوم بدوره كطبيب ويصف لي الدواء المناسب.
شرحت المترجمة للدكتور حالتي، فرد الطبيب ببضع كلمات دون حتى أن يقوم بفحصي، حيث رفض ذلك وقال لي: “يعني سورية وبدك تحبلي عنا هون بتركيا.. وكم ولد ناوية تجيبي إنت الثانية.. يفضل ما تحبلي”، بدى الانفعال على وجه المترجمة وهي تجادله، وبعدما احتد النقاش بينهما، نهضت المترجمة وأمرتني بحركة السريعة أن نتحرك ونخرج من الغرفة، حيث رفض الطبيب تماماً أن يصف لي الدواء البديل.
قررت لاحقاً ومن تلقاء نفسي أن أتوقف عن تناول “الأباجيو” ورغم خطورة هذا القرار على صحتي، كان همي أن أرزق بطفل وأن أصبح أماً.
إنتي سورية؟
في عام 2023 عاود مرض التصلب اللويحي الظهور ثانية في جسمي، مع ظهور انتكاسته المماثلة، من قبيل عدم القدرة على تحريك الأطراف اليسرى مع شعور بالتنميل المستمر بكامل الجسم، والإحساس بالتيارات الكهربائية تسير على طول العمود الفقري.
أدى الزلزال الذي ضرب تركيا عام 2022 أن تتصدع مشفى “أرسين أرسلان” وافتتاح مشفى جديدة في غازي عنتاب اسمها مشفى “شهير”،ذهبت إلى المشفى متأملة أن أحصل على الدواء هذه المرة، وهنا قابلت طبيباً وربما هذه المرة الأولى التي يبتسم الحظ لي في رحلة الحصول على العلاج، حيث كان متعاطفاً مع حالتي الطبية، وقد أبدى اهتماماً شديداً بملفي الطبي. ومن أجل وصف العلاج المناسب لي، طلب إجراء مجموعة تحاليل من ضمنها تحليل “الرنين المغناطيسي”. ولكن هل يعقل أن يسير الأمر على أكمل وجه دون أن أواجه أي عقبات تتعلق بعنصرية بعض الأتراك!
كانت التحاليل التي طلبها الطبيب تتوفر بشكل مجاني للسوريين/ات من حملة بطاقة الكمليك ضمن المشفى، وبالفعل توجهت لغرفة الأشعة على أمل أن أجري التحليل المطلوب، عادة ما يطلب من المرضى أن لا يرتدون أي ملابس بها أي معادن بما في ذلك حمالات الصدر ذات الإطارات المعدنية، في أثناء إجراء صورة الرنين المغناطيسي.
عندما دخلت إلى الغرفة طلبت من الممرضة أن تعطيني الثوب الذي يعطى للمرضى خلال التصوير عادة، لكي أتمكن من خلع حمالة الصدر الخاصة بي. تفاجئت بسؤال الممرضة”هل أنت سورية”، كان من الواضح من لغتي التركية الضعيفة أنني لست تركية، وبعد أن أجبتها بنعم، طلبت مني الانتظار، لاحظت لاحقاً أنها سمحت لجميع الأتراك أن يدخلوا/ن قبلي، رغم أنني أتيت في الموعد المناسب، فضلت أن ألتزم الصمت، بينما لم يتبق سوى أنا ورجل سوري آخر ننتظر دورنا.
توجهت مرة أخرى للمرضة وبلغتي التركية وبالاستعانة بالمترجم “غوغل” شرحت لها أنني أرتدي حمالة صدر غير مناسبة وأريد الثوب قبل الدخول إلى أسطوانة الجهاز.
انفجرت الممرضة بالصوت العالي لأفهم منها أنها ترفض إعطائي الثوب وطلبت مني مباشرة الدخول الإسطوانة بوضعي الحالي، فتحت تلفوني مجدداً وترجمت عن طريق “غوغل” أنه خطر علي ولا يتوجب علي أن أدخل بملابسي.
عادت الممرضة لتتحدث بلكنة تركية سريعة لم أفهم منها ولا كلمة، من ثم أدارت ظهرها ورفضت التحدث معي مجدداً، وحاولت من خلال صديق معي على الهاتف ويتحدث التركية بطريقة جيدة أن يتكلم معها علها تفهم طلبي، فما كان منها أن انفجرت مرة أخرى في وجهي وفهمت أنها ستطلب الأمن لي، بالطبع عندما نقول طلب الأمن أو الشرطة في تركيا، فهذا يعني مصير السوري/ة هو الترحيل. ففضلت السكوت مجدداً ومجدداً.
اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة
اللجوء ليس رفاهية
ما لمسته طوال سنوات من معاناتي مع مرض التصلب اللويحي في المشافي التركية في مدينة غازي عنتاب، أنه أحياناً يرفض الأطباء أو حتى الممرضين/ات إعطاءنا الدواء أو توفير أي فرص للعلاج على مبدأ، أنه كيف للسوريين/ات أن يتلقوا العلاج في بلادنا، مواطنينا الأتراك أولى منهم، فليرجعوا/ن إلى بلدهم ويتلقوا/ن العلاج هناك.
في إحدى المرات وأثناء ما كنت أنتظر دوري في مشفى “أرسين أرسلان”، جاء إلي طبيب تركي، وتحدث معي بالإنجليزية، وأخبرني أن بعض الأتراك ونتيجة للدعاية المضادة ضد السوري/ات في تركيا، تشكلت لديهم قناعات أن معظم السوريين/ات أغنياء، ويتلقون الدعم المالي من الحكومة التركية، ومن أجل ذلك يرفضون/ن الأتراك أحيانا توفير العلاج لهم/ن بشكل مجاني أو يحاولون/ن أن يضعوا/ن العصي في الدواليب..
على مدى سنوات والأكاذيب والدعايات المضادة تتراكم ضدنا نحن السوريين/ات، ليظهر أن اللجوء السوري في تركيا هو عبارة عن مجرد رحلة ورفاهية في عيون بعض الأتراك.
ما تحدثت عنه سابقاً هو عبارة عن غيض من فيض أو مقتطفات سريعة من رحلة ما زلت أعيشها في سبيل الحصول على الدواء بشكل مجاني، ومستمر، مع إحساسي الدائم بالخوف من المرض وأسقط في أي لحظة وأصبح عاجزة عن السير أو الحركة.
What do you think?