ضجيجٌ وهدوء، أقدامٌ مسرعة، وجوهٌ لا ملامح لها، سماءٌ أطبقت على من أنهى القصفُ حياتَه ذاك اليوم، أبوابٌ مشرّعةٌ تودّع أصحابها، طرقات ممتلئة، ودروب مفتوحة على خيارات محدودة.
كان الجميع يتبعون بعضهم في المسير . ” ذلك الممر آمن لقد مرت منه مجموعة قبلنا ” كانت البوصلة الأساسية ومعيار الأمان الأول نحو العبور، واختيار طريق الخروج .
ذاك اليوم كان بداية الرحلة القاسية. نزوحٌ جماعي وهربٌ من الموت إلى مصير مجهول ووجهةٌ مؤقتة. كانت مؤقتة يومها، أمّا اليوم فقد أصبحت جزءاً من تاريخ أهل تلك المدينة الذين تملأ حكاياتهم أحاديث الغربة، وفراق الأحباب والأصحاب. تلك الغربة التي تملأ أيضاً قلوب من بقي داخل الوطن قبل الذي غادره.
لقد مرّ على ذلك سبع سنوات، قضينا ثلاثة شهورٍ منها في بلدة قريبة، في بيت صغيرٍ فاض بأعداد كبيرة. ثماني عائلات عاشت معاً ضمن ثلاث غرف، كنّا لا نقربها إلاّ للنوم، أو لتناول الطّعام، أمّا باقي الأوقات قضيناها في بستان مقابل كان المكان الأوسع والأنسب للعب الأطفال وراحة الأمهات والبنات .
كان ذلك المكان المحطة الأولى قبل الانطلاق نحو خياراتٍ مختلفة لكلّ عائلةٍ من زوار ذلك البيت .
اخترت مع عائلتي وعائلة أخت زوجي التوجه إلى لبنان كونها الأقرب في حال وردنا خبر عن إمكانية العودة إلى مدينتنا من جديد. كان الأمل هو المُتحكم بكلّ خطوة، والخوف هو المجرم والمُحرّض الأساسي على الرّحيل .
اعتقدنا أنَّها خطوتنا الأولى نحو الراحة والبعد عن الخوف. “المهم انو نحنا مع بعض ، والمهم انو ما في اعتقال ولا قصف” كانت العبارة المرافقة لنا منذ أن خطونا أولى خطواتنا في لبنان إلى وقت غير معلوم.
كنا ندرك أنَّ الكثير من المصاعب ستواجهنا، لكننا آثرنا أن نبقى و نتمسك بالأمل ” فترة و بتمضى، كلهن كم شهر ومنرجع لبلدنا ومنخلص من الظلم ” .
كانت المصاعب ومازالت أكثر من أن تُلخص أو تكتب .
لم تبدأ! هي موجودة دائماً حتى قبل أن نضع أقدامنا على أرض لبنان .
اختلف شكل المعاناة، لكنه صار ثقلاً مضاعفاً يجثم فوق صدورنا، فقد تركنا خلفنا أناساً يرسمون لنا معالم الوطن بوجودهم، مازالوا هناك مهددين بالخوف، والموت، ومحكومين بالاستمرار رغم الحرب.
كانت الساعة السادسة عندما حللنا ضيوفاً في منزل أحد الأقارب في إحدى قرى لبنان .
بقينا عندهم ما يقارب الشهر خلال بحثنا عن بيت للإيجار، وممّا زاد الأمور صعوبة رَفْضُ غالبية المالكين تأجيرنا عند معرفتهم بوجود عائلتين مع ستة أطفال، إضافةً لعدم إمكانية استئجار بيت منفصل لكل منا فالإيجار أغلى من أن تحمله عائلة واحدة لقلة السيولة، وغياب كامل لمعرفة سوق العمل وكيفية تأمين لقمة العيش، ومصاريف العائلة في الأيام القادمة .
تخطينا العقبة الأولى، وانتقلنا إلى المأوى الجديد. كان بيتاً كبيراً على أشيائنا، ضيقاً على أحلامنا، بارداً و فارغاً إلّا من صدى ضحكات الأطفال عند اللّعب .
أطفالنا يلعبون ويضحكون، لكنّهم حرموا وقتها من أبسط حقوقهم في التعليم لتأخرهم عن وقت التسجيل في المدرسة، فقد مرت خمسة أشهر على بداية العام الدراسي .
أكثر ما آلمني عتب ابنتي ولومها الدائم لي، لأنني لم أسمح لها باصطحاب حقيبة المدرسة الجديدة التي اختارتها بنفسها من السوق بما فيها من دفاتر وكتب من منزلنا أثناء خروجنا من المدينة مسرعين.
“مافي داعي نجيبها، تقيلة عليكي ، كم يوم ومنرجع ، منخبيها بالخزانة ” هكذا قلت لها يومها عندما حملتها أخذتها من يدها، ووضعتها في خزانتها، وأقفلت. ليتني لم أفعل! ليتني أحضرت كل أشيائهم وألعابهم! علَني خففت عنهم ثقل الوقت والغربة.
منذ سبع سنوات وإلى الآن لم يغب ذاك اليوم بأدق تفاصيله عن مخيلتي وتفكيري، ولم تنتهِ المصاعب، ولن تنتهي، لكنّها تختلف وتزداد تعقيداً كل يوم، إلّا أنّني أؤمن أنه لابد من نهاية لكل ألم، وأنَّ الصّعاب وُجدت لنتخطّاها، ونتعلّم منها فنكون أقوى .
هذه بداية القصة، والخطوة الأولى على طريق التّغيير والأمل …….
سلوى حسين
أبريل 15, 2020عمل فنى رائع لوحة فنية رائعة الجمال