ناقص 18
تجلس في زاوية الغرفة خلف النساء، وكأنها تختبئ أو تحاول أن تكون غير مرئية، لا تشارك في الحديث ولا تعطي أي ردة فعل عما يدور حولها، وربما أنها تحاول أن تكتم أنفاسها، هكذا تشعر بالأمان!
هاجر من ريف حماة، عمرها 24 عاماً، عندما قابلتها للمرة الأولى كانت في الـ15 مطلقة للمرة الثانية. هل صدمتكم؟! نعم وكانت والدتها تحاول أن تبحث لها عن عريس جديد.
زوجها الأول ابن عمها طلقها بسبب خلاف عائلي، أما زوجها الثاني فهو رجل يكبرها ب 25 عاماً حتى يتمكن والدها من “مجاكرة ابن عمها وأهله” وفي الزيجتين، لم يكن لها حول ولا قوة.
لا يمكن أن تكون تجربة الطلاق سهلة على طفلة بهذا العمر، فهي تجربة قاسية على النساء الأكبر سناً وكثيرات منهن يعشن بقية حياتهن على ذكريات مؤلمة نتيجة الطلاق وما بعده، لاسيما في مجتمعاتنا.
إرادة مسلوبة!
في هذا المقال لن تسمعوا هاجر تتحدث لكم/ن كثيراً، لأنها لا تملك خيار الحديث عن حياتها ومشاكلها، ولكن أستطيع أن أخبركم/ن بعض الأشياء التي قالتها أمها عن طلاقها.
“كان يضربها دائماً وعادي كل الزلم يقتلوا نسوانهن بس الله يصلحه كان عالطالعة والنازلة يطلقها ونحن مشان الحلال والحرام فكيناها منه”
عندما كنت أسمع حديث أم هاجر، كنت أشعر بالنيران تشتعل داخلي، كانت تخبرني عن الضرب والإهانة والحلال والحرام وكأنها تحاول تجاهل معاناة طفلتها لأنها لا تملك حول ولاقوة، أو ربما لأننا في مجتمعات اعتادت التطبيع مع العنف الموجه للنساء، وكأنه حدث يومي اعتيادي: “إيه كل النسوان بتاكل قتل شو عليه”، هذه الجملة شائعة جداً ونسمعها معظمنا في الحياة اليومية حتى في المسلسلات والأفلام العربية.
مجتمع ما بيرحم!
عادة ما ينعت المجتمع المرأة المطلقة بكثير من الصفات السلبية، المتمردة، الأنانية، غير الحكيمة، المُخطئة، الكثير من الأحكام المسبقة بأنها هي السبب وراء طلاقها.
صديقتي التي عاشت تجربة طلاق مريرة، تقول: “أن المجتمع الذي نعيشه لا يرحمنا يجعلنا مجبرات على تبرير أسباب طلاقنا، في كل جلسة أحضر في عقلي (كليشيه) لماذا أنا مطلقة، حتى لا أقع تحت سطوة أحكامهم/ن وأسبابهم/ن”.
تكمل: “الأحكام أهون شيء بنعيشه كنساء، نحن لما نكون مطلقات متهمات بأننا خرابات بيوت وبدنا كل النساء تتطلق مثلنا، ومو بس هيك كمان نحن بنسرق الرجال من زوجاتهم بتشوفي في نساء نقابلهن يخافوا يعملونا صديقاتهن لأنو في عندها أم أو أخت أو جارة فهمتها إنو تدير بالها من المطلقة!.
شيماء امرأة بالـ40 من عمرها، متعلمة مثقفة عاشت تجربة الطلاق بالثلاثينات أي أنها كانت ناضجة كفاية كي تحمي نفسها من المجتمع ونظراته.
ولكن السؤال هنا هل تستطيع الطفلة التي لم يتجاوز عمرها 15 عاماً، أن تخبركم عن معاناتها كمطلقة في هذا المجتمع؟
تجربة قاسية
الاختصاصية النفسية ليلاس تقي الحسيني، ترى أن الطلاق من أصعب التجارب التي من الممكن أن تمر على حياة المرأة عموماً فما بالكم/ن بطفلة لم تكتمل دائرة طفولتها وغير قادرة على تكوين علاقة زوجية، وإضافة إلى أن البعض منهن يخرجن من هذا الزواج بحمل.
وتلفت ليلاس، إلى أنه في الكثير من هذا الزيجات والطلاقات لا يتحمل الرجل مسؤولية الأطفال ويتركها على عاتق الطفلة لتربي طفل/ة وتتحمل مسؤوليته/ها، وتجد الطفلة نفسها موصومة بوصمة المطلقة وتحاول عائلتها ومحيطها إقناعها بأن فرصها بالزواج مرة ثانية وتكوين عائلة جديدة أصبحت أصعب وأقل احتمالية، أو إجبارها على الزواج مرة ثانية ظنً منهم/ن أنه الحل لمشكلة طلاقها.
إضافة إلى حرمانها من التعليم والحياة الاجتماعية، وبالتالي تقع الطفلة في مشاكل نفسية تجعلها تقارن بين حياتها وسط القيود الاجتماعية والثقافية والقمع الذي تمارسه بعض العائلات مع بناتهن المطلقات وفرض السيطرة والتحكم بهن، وحياة قريناتها اللواتي أكملن تعليمهن ويحلمن بحياة ويسعين لتحقيقها.
أمل بعد معاناة مريرة
براءة 25 عاماً، شابة سورية، تدرس إدارة أعمال في إحدى الجامعات في تركيا، أول زواج لها كانت بعمر الـ15 عاماً، زوجها عمها من صديقه الذي يكبرها 27 عاماً، وطلقها بعد أسبوعين وفق الاتفاق بينهما.
تقول: “بعد ما تزوجته بأسبوعين قرر يطلقني اسمعته عم يحكي مع عمي إنه هي بنت أخوك مثل ما اتفقنا ومصرياتك معك، صار عمي يقله وطي صوتك لا تسمعك”.
فهمت براءة أن عمها زوجها من صديقه باتفاق مؤقت، تضيف: “خبرت مرت عمي بالحديث اللي سمعته بين عمي وزوجي، وسمعتها عم تتخانق معه وتقله رح أفضحك ودمرت البنت وصارت تدعي عليه”.
وفي عمر الـ17 تزوجت براءة للمرة الثانية، واستمرت زواجها لأكثر من 7 أشهر ولكنها كانت تعاني مع هذا الزوج المعنف، الذي كان يضربها حتى يغمى عليها في بعض الأحيان، إضافة لأنواع أخرى من العنف.
رغم أن براءة يتيمة الأب وخسرت أمها بسبب ظلم عمها وجبروته، إلا أن زوجة عمها كانت تقف بصفها دائماً وتحميها، ساعدتها على الانفصال عن هذا الزوج، وهربت بها مع طفليها إلى تركيا حيث تعيش الآن.
بدأت براءة حياة جديدة بعد وصولها إلى تركيا، فهي الآن تكمل تعليمها وتعمل بنفس الوقت.
أثر نفسي
تزويج الطفلات بعمرٍ صغير يضعهن تحت مخاطر متعددة ومن ضمنها التأثيرات السلبية على صحتهن النفسية مثل اضطرارهن لعيش الصراع بين أدوارهن الحالية في داخلهن كراشدات مزيفات ومن ناحية أخرى الأدوار والمتطلبات الاجتماعية التي تترتب على حياتهن الجديدة بعد الزواج، وما بين الطفلة التي تعيش في نفوسهن مما يجعلهن أكثر خوفاً وقلقاً وأقل قدرة على التعامل مع الضغوطات والمشكلات الحياتية التي يعشنها.
وتوضح الاختصاصية النفسية ليلاس، أن تزويج الطفلات يجعلهن عرضة للصدمات النفسية وخاصة نتيجة إجبارهن على ممارسة العلاقة الجنسية الزوجية مع الشركاء، إضافة لعبء الحمل والأمومة وهذه الأعباء بالذات تضعهن بالإضافة للمخاطر الجسدية التي تؤثر على صحتهن، تعرضهن لمستوى خطورة من الجانب البيولوجي النفسي بمرحلة لا تتناسب مع صحتهن النفسية وأجسادهن، وقد تتسبب في تطور ما يعرف باكتئاب ما بعد الولادة، وتجعلهن بعضهن بعد الإنجاب غير قادرات على العناية بأطفالهن ويصبحن أكثر عنفاً وقسوة في بعض الأحيان.
وتحدثت ليلاس عن حالات مماثلة لطفلات أجبرن على الزواج وأنجبن، بدأت بالحزن والعزلة وانتهت بتطوير اضطرابات نفسية أكثر شدة مثل الاكتئاب والقلق والوسواس القهري وغيرها.
تجارب ناجحة لمحاربة تزويج القاصرات
منذ عام 2019، تدعم منظمة النساء الآن من أجل التنمية وبالشراكة مع مؤسسة أهل للتنظيم المجتمعي، حملة “لا تكبرونا بعدنا صغار” في سهل البقاع الأوسط، لبنان. وهي حملة بقيادة صاحبات وأصحاب القضية من المتأثرات والمتأثرين بظاهرة تزويج الأطفال وبغالبية نسائية، وكذلك فتيات ورجال وشبان من المجتمعات السورية واللبنانية والفلسطينية القاطنة في سهل البقاع.
تعتمد الحملة في عملها على منهجيتي التنظيم المجتمعي والقيادة التشاركية، وقد حققت الحملة نجاحات عديدة منذ بدايتها من خلال عدة مراحل واستراتيجيات مختلفة، حيث نظّمت حوالي 100 فرد من أهل القضية. وتم تحريك حوالي 500 فرد من المجتمع المحلي، وخاصة من الفتيات، ليصبحن مناصرات لقضية الحملة. وتعهدت أكثر من 2500 أسرة بعدم تزويج أطفالها، مما أدى إلى إنقاذ حوالي 900 فتاة كنّ مخطوبات وعلى وشك التزويج.
وتساهم حملات المناصرة لهذه القضية بنشر الوعي حول خطورة تزويج الطفلات، مسلطة الضوء على تأثيرها على الصحة النفسية والجسدية للفتيات، وكما تعمل على دعم التشريعات والسياسات التي تقيد أو تمنع تزويج الطفلات والتغيير المجتمعي، لذلك من المفيد جداً أن تنتشر هذه الحملات وتعمل على نطاق واسع في المنطقة التي تعاني من هذه الظاهرة.
What do you think?