تختلف قصص الناجيات من الاعتقال والتغييب القسري في سوريا، ولكن إحدى تقاطعاتها تكمن بما يتعلق بالوصمة الاجتماعية التي تمارس عليهن بعد الخروج من الاعتقال، الناجيات اللواتي كنّ يفكرنّ في لحظة الحرية تضيق عليهن هذه الحرية مع تعامل الدوائر الاجتماعية معهن.
ودوماً الوصمة ونظرات غريبة:
تروي الناجية حسنة دبيس قصة اعتقالها دون اسمٍ مستعار هذه المرة، فلم تعد نظرة المجتمع لها تعنيها بعدما عانت من وصمةٍ عنيفة من أقرب المقربين لها، حيث لم تتجاوز حسنة (الهمز واللمز)، والذي رافقها منذ خروجها من المعتقل قبل ثلاث سنوات، فما إن تذكر أنها كانت معتقلة حتى ترشق بنظرات متشككة، وأسئلة تبدأ بجملة “اغتصبوكي شي؟؟” على حسب تعبيرها.
ورغم أن حسنة اعتادت هذا النوع من الأسئلة والإجابة عنها، إلا أن جوابها لم يكن مقنعاً لفئة من السائلين/ات، بالأخص تلك التي كانت تتناول تعرضها لمختلف أنواع العنف الجسدي واللفظي والنفسي والتحرش، ولكنها لم تغتصب!! إلا أن الشك دوماً في عيونهم/ن وكأنهم/ن يبحثون عن حدث بعينه بين كلماتها ليثبتوا/ن لها أنهم/ن على حق في نظرتهم/ن إليها.
قصة حسنة:
اعتقلت حسنة أثناء فترة حملها بشكلٍ تعسفي على يد النظام السوري في عام 2013، وذلك عند دخولها إلى الغوطة، لتنجب صبياً وهي في السجن، والذي بقي معها إلى حين خروجها من المعتقل بعد قضاء أربع سنوات من عمرهما، وفي حين توقعت أن يكون أهلها وأقاربها باستقبالها عند خروجها من المعتقل، إلا أن الحقيقة كانت حين صدمت بواقع الرفض منهم/ن وتخلي الجميع عنها، ولم يكن كافياً مقدار ما تعرضت له لتفاجئ بعد خروجها أن زوجها قد توفي في المعتقل، ووالدها وشقيقها ما يزالان في السجن.
وهكذا وجدت نفسها وحيدة بلا مأوى أو أي شكلٍ من أشكال الدعم بعد خروجها من الاعتقال، حتى عندما لجأت إلى عماتها وأخوالها بحثاً عن العون، تم رفضها وطردها من منازلهم/ن، مما شكل صفعة جديدة تلقاها حسنة بعد نجاتها من السجن.
عبارات ترن وتجرح:
“أنت الآن معتقلة”
“ابنك خريج حبوس”
“أكيد صار معك شي جوا”
“لحقنا العار من وراكِ”
عبارات صدعت رأس حسنة، أعادتها إلى ظلم أشد من زنزانتها العفنة المظلمة، وزادت من رضوضها النفسية وصدمتها التي كشفت عن نوع جديد من الاعتقال وهو “وصمة المجتمع”.
تهجرت حسنة وولدها إلى الشمال السوري في 2018، لتسكن مدة قصيرة مع أختها وزوجها الذي لم يحتمل إقامتها في منزله، وما كفّ عن توجيه اللوم والعبارات القاسية لها كونها تجلب العار له ولزوجته وأنها يجب أن تستر نفسها وتتزوج من أول راغب بها لتتخلص من الوصمة التي لحقتهم منها على حد تعبيره.
تقول حسنة: “قررتُ الزواج بأول شخصٍ يطرق بابي، لم يعد يهم من يكون الخاطب وهل هو مناسب أم لا المهم ان أتخلص من وضعي الحالي، لم يخطر ببالي أن يكون شخصاً أجنبياً من بيئة مختلفة تماما عن بيئتنا العربية”.
“نعم تزوجت مهاجراً” هكذا عبرت حسنة عن الشخص الذي تقدم لها، بوصفه مهاجراً روسياً قدم إلى مناطق الشمال السوري وانضم إلى فصيل مقاتل “بدوافع عقائدية” حسب تعبيرها، لم تكن حسنة تملك خيار الرفض أو القبول، كان عليها الزواج والسكوت عن كل التساؤلات التي تعتريها بشأن مستقبل مجهول لأنه كان الخلاص الوحيد لها من الوصمة التي لحقتها هي وابنها، وملاذاً من الفقر العوز الذي كان سبباً آخر في معاناتها ودفعها باتجاه الموافقة غير المشروطة.
تقول حسنة متأثرةً: “أردت الخلاص فحسب ولم أهتم لبقية التفاصيل التي ستقتلني يوماً ما”، ثم تابعت: “عشت معه سنتين أنجبت خلالها طفلةً صغيرة حظها كأمها”
ثم سردت حسنة ما عانته من زواجها الأخير، كحواجز اللغة والفكر والبيئة المختلفة التي نشأ فيها كل منهما حكمت على هذا الزواج بالفشل والطلاق أخيراً.
الزواج من المقاتلين الأجانب موضوع كبير ومتشعب:
في عام 2013 ومع ارتفاع أعداد المقاتلين الأجانب الوافدين إلى الشمال السوري، انتشرت ظاهرة الزواج من أجنبي (والمقصود المقاتل) لعدة أسباب، أهمّها الحالة الاقتصادية المتدنية التي دفعت بعض العائلات لقبول تزويج بناتهن من مقاتلٍ “مهاجر” للخلاص من الفقر العوز، وكذلك نتيجة قلة الوعي والجهل الذي انتشر لدى البعض في ظل الفوضى والحرب الدائرة منذ عشر سنوات، كما لعب شبح الخوف من الوصم بـ “العنوسة”، دوراً كبيراً في ذلك خاصة بعد هجرة عدد كبير من الشبان السوريين إلى بلاد اللجوء أثناء الحرب.
بالنسبة لحسنة، كان الدافع الرئيسي وراء زواجها من مقاتلٍ أجنبي يكمن في هروبها من الوصمة الاجتماعية التي لحقتها بعد اعتقالها.
وفي هذا الصدد، التقينا بالمرشدة النفسية نجاح محمود، والتي ترى: “إن الضغوط النفسية التي تتعرض لها الناجية بعد خروجها من المعتقل كرفض المجتمع لها، ووضعها في إطار الوصمة يدفعها باتجاه سلوك غير واعٍ ولا مدروس كردة فعل طبيعة على ما تعرضت له، فمنهن من لجأت للانتحار ومنهن من تزوجت بمقاتلٍ أجنبي ومنهن من دخلت بعزلة اجتماعية بعد تخلي الجميع عنها”.
بينما يشير المحامي نادر المطروح، إلى خطورة هذه الظاهرة، وضرورة التوعية بتوابعها في المستقبل على الأطفال والأم خاصةً في حال الوفاة أو عدم تثبيت الزواج بشكل قانوني فيقول:” القانون السوري لا يعطي الجنسية لأطفال الأم السورية من أب أجنبي وفي حال كان الأب مجهولاً يُسجل الطفل على اسم أمه”.
وهذه الحالة التي خبرتها حسنة بنفسها بعد إنجابها طفلة بقيت مكتومة القيد، فزواج حسنة منذ البداية تم بطريقةٍ غير قانونية، والذي اقتصر على ما يسمى بـ”كتاب شيخ” أي أنه غير مسجل بالمحاكم وبالتالي يبقى أطفالها بالمستقبل بلا أوراق ثبوتية تحرمهم/ن من حقوقهم/ن كمواطنين/ات في الدولة السورية.
تزوجت حسنة وتطلقت دون أن تنال شيئاً من حقوقها الشرعية أو القانونية منها، سواء أكان المهر أو النفقة، وصولاً إلى تسجيل الطفلة على اسم والدها، بالإضافة إلى أنها لم تتخلص من وصمة الاعتقال ونظرة المجتمع لها، حتى لاحقتها وصمة الطلاق أيضاً لتزيد الخناق عليها وتكبلها بعادات المجتمع البالية فتحسب عليها الحركة والكلمة والدخول والخروج وتفاصيل قاتلة تنهش ما تبقى منها.
حسنة واحدة من عشرات الناجيات اللواتي دفعن ثمن اعتقالهن مرتين مرة خلف قضبان السجن ومرة داخل قضبان المجتمع.
What do you think?