زنزانة ساكنة وباردة، بابها موصد على ما يزيد عن خمس عشرة امرأة تدور بينهن كل أحاديث الدنيا، ممزوجة بغصّة أنّ أياديهن لا تطال شيئاً. فالأم تحكي عن مشاغبات أطفالها بمزيج من الحسرة والحب والشوق، والابنة تفكر بحال أمها، والزوجة مشتاقة لزوجها شوقاً مضطرباً خائفاً. أحاديث يومية مكرّرة عن الطبخ والجامعة والجمال والمكياج، عن التحقيق والمحقق اللئيم وانتظار أخبار جديدة.
أحاديث نلف بها أصقاع الأرض من مكاننا الضيق الذي يتسع (قسراً) لننام بأرجل ممدودة.
لا يقطع صمتنا وضجيجنا إلا صوت مفاتيح السجّان أو صراخه، عندما يفتح الباب عدة مرات في اليوم من أجل إدخال الطعام أو الخروج إلى الحمام ثلاث مرات فقط، نضبط وقتها على مزاجه أو لإدخال معتقلة جديدة.
في شهر آب أو أيلول من عام ٢٠١٣، يُفتح الباب وتدخل امرأتان، فتاة سمراء جميلة بطول ٍ فارع وشعر أسود قصير، وأمها التي يتجاوز عمرها الخمسين إلى معتقلنا البغيض.
وكعادتنا، تدفعنا اللهفة لمعرفة ماذا يحصل في العالم الخارجي الذي انقطعنا عنه قسراً.
جلسنا جميعنا حول المرأتين وبدأ سيلٌ من الأسئلة، سألنا عن كل شيء، عن سوريا كلها، الاقتصاد والأسعار، الطقس، التطورات التي تشهدها البلد. هل هناك مؤشرات للإفراج عن المعتقلين، هل هناك أيّ أمل بحريتنا، ورؤية الضوء من جديد؟
ثم سألناهما: لماذا اعتقلوكما؟ ما سبب وجودك أنت وأمك في هذا المكان؟
فكانت إجابة الابنة أن أحد الأسباب هو إعجابها بمنشور عن مجزرة الكيماوي.
بدت ملامح الصّمت والدّهشة والخوف واضحةً على وجوهنا جميعاً.
سألنا مرة ثانية وكأنَّ صمماً أصابنا فلم نسمع: كيماوي؟
بجواب صادم خارج توقعاتنا قالت الفتاة: نعم، ضربوا الغوطة بالسلاح الكيماوي، واستشهد الكثير اختناقاً.
مجزرة بشعة طالت الأطفال والنساء والجميع في الغوطة.
لم يكن هناك حاجة لمعرفة كثير من التفاصيل. ما سمعناه كان كافياً أن يخنقنا جميعاً. تحجرت العيون ثم امتلأت بدموع العجز والقهر والخذلان.
اختنقنا بصمتنا. وهاجمتنا أسئلة بلا أجوبة وإنزوينا كل واحدة بمكانها خوفاً وقهراً.
في تلك الأثناء هاجمتنا توقعات أفلاطونية عن هذا العالم الغريب، لفرط سذاجتنا سألنا أنفسنا: هل هذا الفعل الدنيء نهاية نظام الاستبداد والديكتاتورية؟
هل الدول والشعوب والمنظمات الحقوقية والإنسانية ستقف متفرجة أمام هذه المجزرة.
وربما تأملنا أنّ هذا ما سيحدث، سيتحرك العالم من أجل السوريين المخنوقين.
لم يكن لدينا جواب حقيقي. ومدة بقائنا في هذا المكان أوصلت رسالة واضحة: المجرم أفلت من العدالة.
وفي عام ٢٠١٤ كنت خارج حيطان هذه الزنزانة. أريد أن أعرف كل شيء بنفسي. جاءت ذكرى هجمة الكيماوي، لم أكن أتخيل أنّ هذا حصل!
هاجمتني صور الأطفال الضحايا وصرخات الناس الفزعة، كأنّها القيامة. صفعتني كلمات الناجين وشهاداتهم. هنا، على مدّ النظر أرقام ألصقوها على جباه الأطفال لإحصاء الضحايا.
اختنقت أيام وأنا أرى ذكريات موثقة تروي ما حدث. كان الزبد الذي يغطي فم الأطفال والنساء يخنقني ألف مرة.
عاقبت نفسي بالبكاء المر، لعنت هذا العالم الذي بقي يتنفس.
وها نحن على مشارف نهاية ٢٠١٨، ننظر خلفنا ويؤلمنا جرحنا الذي لم يلتئم.
شهد العالم هجمات كيماوي أخرى في خان شيخون والغوطة وغيرها من مناطق سوريا. ندد العالم بما حصل كل مرة، وبكينا واحترقنا وصرخنا حتى بُحَ صوتنا “أيها العالم هل تسمعنا؟!”.
انتهك النظام السوري كل القوانين والتشريعات وأهان الكرامة الإنسانية. أحرق البشر والحجر.
تجاهل القوانين الدولية وأنكر جرائمه التي ارتكبها على مرأى العالم.
لم يكن الكيماوي سلاحه فحسب، يل خنقنا جميعاً بكل الأسلحة والوسائل، ما زلنا نتنفس الكيماوي.
وآلمنا أكثر أنّه المنتصر في ساحات الإعلام، والعالم يعلن عجزه واستسلامه.
What do you think?