تختلف معاناتنا من شخصٍ لآخر، فكل منا يحمل/تحمل قصةً لا يعرف الآخرون والأخريات عنها شيئاً ما لم نعبر عنها بطريقةٍ ما، ونصفها بلغةٍ مفهومةٍ وواضحة.
غير أنّ ثقل المعاناة وكثافتها تزيد من صعوبة البوح، وهو ما تواجهه الناجيات من الاعتقال عند سرد حكاياتهن، وما استطاع العالم من معرفته من خلال بعض شهادات المعتقلات السابقات اللواتي نلن حريتهن وأخذن يشرحن للعالم ما واجهنه في أقبية النظام وأفرع المخابرات وغيرها.
وإن مرت اليوم عشر سنواتٍ على حملات الاعتقالات الواسعة ما بعد الثورة السورية، وأكثر من أربعين عاماً من الاعتقالات في ظل نظام الأسد بشكلٍ عام، وبالرغم من آلاف القصص، وآلاف المعتقلات، يبقى ما وصلنا من خلال الإعلام، وما سمعنا به من رواياتٍ على لسان أصحابها لا يتجاوز العشرات، وهي مشكلةٍ لا تعود لقصور في التغطية الإعلامية أو عدم اكتراث بقضية المعتقلات، بل لأسباب عدة من ضمنها قبول المعتقلات السابقات بالحديث عن تفاصيل اعتقالهن، وقدرتهن على تجاوز العوائق الأمنية، أو الاجتماعية أو النفسية وغيرها، إلى جانب إمكانيات الإعلاميين والإعلاميات العاملين/ات في هذا القطاع، وخبراتهم/ن في لقاء الناجيات من العنف.
نظرة مجتمعية خاطئة واتهام الضحايا:
تروي الإعلامية سلوى عبد الرحمن، عن خبرتها في تشجيع المعتقلات السابقات لتقديم شهاداتهن والتحدث عن ظروف اعتقالهن، لكن: “غالباً ما كانت المعتقلة ترفض الحديث خوفاً من الإشارة إليها كضحية للاغتصاب” تقول عبد الرحمن، وتضيف: “تلك التهمة التي ولدتها النظرة الخاطئة للمجتمع، والمفاهيم البالية التي اتخذت من قضية (شرف العائلة) حجة لتكبيل النساء ضحايا جرائم العنف الجنسي، دون أن يكون لهن ذنب بما حصل، وذلك إن حصل من الأساس”، حيث ترى بأن: “كل معتقلة هي مشروع مغتصبة، وهذه (التهمة) تصمها وترافقها من الساعات الأولى للاعتقال، وحتى بعد خروجها من سجنها الضيق إلى سجنها الأكبر في الأسرة والمجتمع” بحسب تعبيرها.
من جهة أخرى، يتحدث الإعلامي فادي شباط عن المصاعب التي واجهته في محاولاته لتسليط الضوء على قضية المعتقلات، والحديث عن أوضاعهن بعد خروجهن من المعتقل، حيث اعتبر “شبح الاغتصاب” هو الحاجز الأول الذي يدفع المعتقلة للإحجام عن التحدث للإعلام وإيصال معاناتها، ويقول: “المجتمع لن يرحمها ولن يغفر لها فكل معتقلة بنظره هي ضحية اعتداءٍ جنسي سواء تم ذلك أم لم يتم، هذا ما صعب علي الحصول على روايات بلسان صاحباتها في حين اكتفت الاخريات بالحديث عن العموميات مبتعداتٍ عن التفاصيل”.
ما الفائدة في حال تحدثت:
ولا تكون الإشكالية محصورةً بما قد تتعرض له المعتقلة السابقة/الناجية من زيادةٍ في الوصم الاجتماعي العقبة الوحيدة في محاولة حصول الإعلاميين/ات على شهادةٍ منهن، لكنّ كثيراً ما يجدن/ون أنفسهم/ن بمواجهة سؤالٍ تطرحه الناجيات: “ما الفائدة، وما الجدوى فيما لو تحدثت؟”
الناجية لمياء (اسم مستعار) والتي رفضت بشكل قاطع أن يذكر اسمها تساءلت ما الجدوى من تحدثها الى الإعلام “هل سيوفر هذا قوت يومي؟ أم هل سيؤدي كلامي الى حلٍّ فعلي يغير نظرة المجتمع تجاهي فأتمكن من إيجاد فرصة عمل مشرفة إسوة بغيري من الفتيات؟”.
“كم ستدفعين لي مقابل إجراء لقاء معي؟” هذا ما تلقته الإعلامية سحر الزعتور كردٍّ من إحدى المعتقلات أثناء رغبتها في إجراء مقابلة معها للحديث عن تجربتها أثناء الاعتقال، “هذه واحدة من مواقف كثيرة مشابهة”، تقول الزعتور، وتضيف: “إن تدهور أوضاع الكثير من الناجيات اقتصادياً، وتناقص فرص العمل لهن بسبب الوصمة، دفعهن إلى البحث عن أي مصدرٍ مالي، فكثيرات من بينهن لا يجدن أي جدوى في مثل هذه اللقاءات، لكن إن كانت هناك منفعة مالية على الأقل، قد يتشجعن بعض الشيء” وذلك بعد أن كثرت الأحاديث عن الناجيات دون نتيجة تذكر برأيهن، بحسب الزعتور.
الردود السلبية أحد الأسباب:
بعض المعتقلات سردن قصصهن للإعلام رغبةً منهن بالتعريف بقضيتهن وبهدف محاسبة الجاني على فعلته، لكن المجتمع الذي ظلمهن في البداية استمر في أسلوبه العنيف بإيكال التهم، وقد تمثل ذلك في كم الردود والتعليقات الواردة على التقارير التي تنشر في المواقع المختلفة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تحمل في الكثير من الأحيان أشكالاً من تجريم الضحايا، وبعض عبارات الكراهية، وغيرها من أشكال الخطاب العنيف.
هذه الردود دفعت كثيرات من المعتقلات وحتى من الإعلاميات للتردد في عرض قضية معتقلة كي لا تنهال تلك التهم من إثارة مسائل تطعن في الضحية/الناجية، وتتناول (الشرف)، او تتهمها بالعمالة، كما تبين لنا الإعلامية ايلين الفارس:” كثيرة هي التقارير التي نالها سيل من التعليقات السلبية جعلني أحجم في مرات عدة عن تكرار تجربة تقرير يتحدث عن معاناة معتقلة سابقة”.
خوف الظهور وتذكير العالم بنفسها مشكلة تواجه المعتقلات:
يعتبر التقرير المصور جزءاً مهماً أثناء عرض قضية إنسانية، فللصورة أثر كبير، لكنها أيضاً سلاح ذو حدين؛ فهي عائق يقف أمام إجراء مقابلة، خاصة مع معتقلة ترفض ذكر اسمها الصريح أو أن يظهر وجهها في مقطع ما.
سناء العلي إعلامية لديها العديد من التقارير المصورة تقول:” أصعب ما نواجه هو رفض المعتقلة للظهور وطلبها نشر قصتها تحت اسم مستعار، وذلك لسبب خوفها من تذكير الناس بها مرة أخرى”.
الإعلامية راميا الأخرس تشارك العلي الرأي حول هذا الموضوع وتضيف أن بعض المعتقلات طلبن منها تغيير طبقة الصوت حتى لا يتعرف عليهن أولادهن أو أحد أفراد الأسرة.
فادي شباط بدوره يرى أن الإعلام يتحمل جزء من المسؤولية عبر تركيز الحديث حول جانب واحد من الاعتقال بحق النساء وهو جانب العنف الجنسي، مما أدى الى تحجيم قضية الاعتقال بمعاناة واحدة فصور كل معتقلة على أنها مغتصبة سلفا، وهو ما ساهم بعملية وصم المغتصبة وغير المغتصبة على حدٍّ سواء.
الحقوقيات يشاركن الإعلاميات في صعوبات المهنة:
لم يقتصر عناء الحصول على معلومات دقيقة وتوثيق صحيح لقضايا المعتقلات على مجال الإعلام فقط، فحتى من تعملن في مجال الحقوق والتوثيق تجدن صعوبة في الحصول على إفادات من معتقلات سابقات.
هدى سرجاوي الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمرأة تجد صعوبة عندما تريد كتابة إفادات من ناجيات عما عانينهن خلال الاعتقال وبرأيها ما يدفعهن للتردد” خوفهن من نظرة المجتمع لهن وعدم إنصافهن من قبله بل واتهامهن وتحميلهن المسؤولية عما أجبرن على تجرعه” كذلك بدفع البعض خوفهن على ذويهن الذين ما زالوا يقبعون في أماكن سيطرة النظام والخوف من الانتقام منهم، “فيرفضن الظهور العلني او حتى ذكر اسمائهن الصريحة” بحسب رأي السرجاوي.
في النهاية، وإن كان عرض الشهادات والقصص ركيزةً أساسية للحشد والمناصرة لقضية المعتقلات في سوريا، ولأوضاعهن أيضاً ما بعد الاعتقال، لكن عدم التقدم بخطواتٍ حقيقية بعد الحصول على هذه الشهادات، وعدم الانتقال من خانة البوح لخانةِ الفعل أو التأثير بالرغم من صعوبته، قد يكون سبباً في زيادة المسافة بين الناجيات والإعلام، من جهةٍ أخرى يشكل افتقار الكثير من العاملين/ات في القطاع الإعلامي لطرق إجراء اللقاءات مع الناجيات من العنف، وأسلوب عرض القصص في وسائل الإعلام، حاجزاً آخر في وجه الوصول إلى الحكاية، لهذا يقع العبء الحقيقي على عاتقنا من صحفيين وصحفيات وناشطين وناشطات وإعلاميين وإعلاميات لتحقيق ظروف أفضل لتقديم شهادات الناجيات، فلا يمكن إلقاء اللوم على الناجية، وتحويل تقديم الشهادات إلى عبءٍ جديد على كاهلها عوضاً عن مناصرتها ومساندة قضيتها ودعمها.
What do you think?