بينما كان الطّيران يحوم فوق المنطقة، هرع النّاسُ ليأخذوا الأطفال والنساء إلى القبو. كلّ امرأةٍ تمسك طفلاً أو طفلين، الضّجيج يملأ المكان، وكلمة خوف لا تختصر المشهد الذي صدّعَ القلوب خلالَ لحظات.
البناء يتألّف من ثلاثة طوابق. تلا الانفجارَ انفجارٌ آخر، ومازال الناس يركضون للنّجاةِ بأطفالهم.
لا أحد يرى شيئًا بسبب الغبارِ الكثيف الذي غطّى المكان. تكاد الرّؤوس تنفجر من الدّويّ، وأصوات النساء. كلُّ شخصٍ ينادي على أولاده بأسمائهم لعلّه يسمع أصواتهم، فيهدأ قلبه قليلاً. بينما صراخ اﻷطفالِ يزدادُ كأنّهم ينادون أيَّ أحدٍ يعرفونه، حتّى لو كان جارهم؛ ليشعروا أنّه معهم وسيحميهم.
دخل الرّجال بعد فترة، ليبحثوا عن أولادهم ونسائهم بين الغبار القاتل، ثمّ يهربوا بهم إلى أقرب مكانٍ يبعد عن الطّيران الهمجي الذي لا يرحم. وقف خالد ينادي زوجته نوال : “نوال، ألا تسمعينني؟ ” سمعت صوته. نعم، إنّه زوجها. لكنّها لم تعرفه. وقد كانت تناديه أيضاً كي تجده وقد أخفى الترابُ ملامح وجهه، وشعرَه، وثيابه. في الوقت ذاته كانت تبحث عن حجابها.
يا لهول المنظر! كأنَّ أحدهم مزّق ثيابها، أو أنّهم بُعِثوا من القبور.
قالت له مذعورةً بلهفةٍ وخوف: ” خالد أين أنت؟ ”
نادى بأعلى صوته: “نوال أنا هنا. ألم تعرفيني ؟ اُنظري إليَّ. لا تخافي. أنا خالد. أين الأولاد؟ ”
انهارت من البكاء. بحثت عن أيّ شيءٍ تضعه على رأسها. نادت على أولادها، ثمَّ حملوهم وخرجوا بسرعةٍ و هي تقول: “أين أسماء؟ ”
أسماء ابنتهم الكبيرة البالغة من العمر ثماني سنوات. لا يسمعون صوتها في هذا الزّحام.
قال لها خالد: “لعلّها مع بيت عمّها”
خرجوا مسرعين، وهم ينادون عليها. لكنّ أسماء لم تسمعهم، والوضع لا يحتمل الانتظار.
خرجوا من البلد كالكثير من النّاس، لا يعرفون إلى أين يسيرون، باتّجاه القرى القريبة منهم، لعلّهم يجدون السّلام حتّى الصّباح، وينجون بأنفسهم.
تفرّق النّاس في كلّ الاتّجاهات. هرباً من الموت. لا يُسمَع إلّا وقْع اﻷقدامِ المسرعةِ، المتعثّرة. إلى أن وصلوا إلى قريةٍ اختبؤوا فيها. كانت القرية مشرّعةً أبوابها، فأهلها أيضاً لم يسلموا من الطيران الهمجي الذي حصد الكثير من الشهداء، والجرحى منذ أيّامٍ قليلة .
لم ترَ أعين الهاربين النّوم، لأنَّ قلوبهم وعقولهم مشغولة بمصير الأهل والجيران طيلة اللّيل.
في الصّباح، وبعد هدوءِ الطّيران. تركوا أولادهم عند أهل القرية، وعادوا ليبحثوا عن أقاربهم وجيرانهم. كما عاد خالد ونوال لربّما يجدان ابنتهم عند بيت عمّها.
عندما وصلوا إلى المكان كان النّاس مجتمعين حولَ البناء المدمّر على اﻷرض، كأنّه بسكويتٌ مصفوف فوق بعضه.
أين النّاس؟ أين اﻷهل؟ الجميع يبحثون بلهفةٍ وخوفٍ من صدمةٍ باتت متوقّعة كثيراً.
أخبروا الطّوارئ. لكن لم يحضر أحد، فالبلاد كلّها تتعرّضُ للقصف بالطّيران، وجميع المناطق بحاجة مسعفين.
أخذوا يرفعون الرّكام بأيديهم، وبالمعدّات المتواضعة التي بحوزتهم. كما كانوا يسمعون أصواتاً، أو يُخيَّل إليهم أنَّهم يسمعون أنيناً.
وجد خالد إخوته، وزوجة أخيه، وأولاد أخيه الاثنين تحت الأنقاض. لم يستطيعوا الهرب، فسرعة الانفجار غلبتهم. أخبر الجيرانُ خالداً أنَّ أخاه الثّالث أُسْعِف إلى المشفى بعد أن كُسِرَ ظهرُه.
تابع كغيره البحث. لعلّه يعرف إحدى الجثث. بحثَ طويلاً، ونادى هو وزوجته على أسماء طويلاً، لربّما تكون على قيد الحياة تحت اﻷنقاض. استمرَّ بحثهم لأكثر من ثلاثة أيّامٍ دون فائدة. كلَّ يوم يعودون إلى القرية بخيبة أملٍ.
منهم من يقول لهم وجدتها وسألتها عن اسمها، ورأيتهم يسعفونها إلى المشفى. ومنهم من قال رأيتها مع جماعة من القرى المجاورة. كانت رجلها مكسورة. ومع كلّ خبر يهرع خالد ونوال إلى المكان المذكور لكن دائماً تعود نوال خائبةً إلى أولادها، بحرقة قلبٍ كادت تفقدها عقلها.
أين هي؟ مع من ذهبت؟ من وجدها في هذا الظلام؟ أين أخذوها؟
وضعوا خبرًا عنها وعن مواصفاتها في كلّ مكان. كان يأتيهم في اليوم الواحد أكثر من اتّصال.
مرَّ ٢٣ يوماً على غياب أسماء. مضى خلالها الوقتُ ثقيلاً و طويلاً في حياةِ نوال وخالد.
وفي يومٍ اشتدّ ألم الأضراس على نوال. أخذها خالد إلى أقربِ مستوصفٍ. ليعطوها دواءً يُخفّفُ من ألمها قليلاً.
عادت إلى البيت الذي أوت إليه هي وزوجها وأولادها.
في الصّباح. ذهب خالد دون أن تشعر به نوال، فقد أنهكها السّهر و اﻷلم. خالد تقصَّد أن لا يأخذها معه للبحث عن ابنتهم شفقةً عليها. حتى لا تُصدَم من جديد.
وجد الطّوارئ قد حضرت أخيراً. رفعوا الرّكام، ووجدوا الجثث من جديد، حتى وصلوا إلى بيت الدّرج المحطّمِ.
هذا المكان الذي لم يبحث فيه. رفع الحجارة والتراب الكثير مع رجالِ الطّوارئ، فوجد ابنته أسماء. عرفها من ثيابها، ولكن ليس لها ملامح تُعرَف، فهي ميتة تحت الدّرج، وتحت كلّ هذا الكمّ من الرّكام.
تخيّلَ خالدٌ ما حدث لأسماء التي كانت لحقت بأمّها وإخوتها مع النّاس المتزاحمة إلى القبو.
وصلوا هم لداخل القبو، أمّا هي سبقها الانفجار، وسقط بيت الدّرج عليها. أدركها الموت قبل أن تلحق بأمّها وإخوتها.
حاول انتشالها بصعوبةٍ. أهذه هي أسماء؟ نعم. هي، ولكنّها ميتة.
يا الله! كانت ضحكتها تملأ البيت، وصوتها يرنّ في أذنيه: “أبي، أبي كتبت جيّداً في الامتحان”
فرحتها تملأُ البيت، وضحكتها المميزة لها وقعٌ في قلبِ أمّها وأبيها، وكلّ من يراها، فهي جذّابة، محبّبة للقلب.
ماذا سيقول لأمّها عندما سيعود. هل سيقول لها أنّه وجدها جثّةً مثل أخيه وزوجته، وأولاده؟
حتى أخوه الذي كسر ظهره لا يعلم أهو على قيد الحياة أم مات.
ما أقسى الحرب وأمرّها! عاد إلى زوجته بعد أن دفنَ ابنته، وقد جفّت دموعه.
دخل إلى البيت. هرعت إليه نوال: “هل وجدتها؟ ، أخبروني الآن أنّهم رأوها مع جماعةٍ يحملونها ليسعفوها في القرية المجاورة، كانت تعاني من جروحٍ بسيطة ”
أجابها بصوتٍ خافتٍ بالكاد يُسمع: “لا تصدّقي أحدًا. كلّهم كاذبون”
قاطعته بلهفةٍ مريرة: “دعنا نذهب، ربّما تكون هناك”
أمسك بيدها وأجلسها: “اهدئي. أمر الله وقع. وجدتها تحت الدّرج ميتةً. لا تصدّقي كلّ هذه الاكاذيب! ”
صمتت بحرقة. هي لا تريد أن تصدّق. تريد أن تبقى على أملِ أن ترى ابنتها في لحظة ما، ثمّ انفجرت باكيةً، وصرخت: ” أبمشاعرنا يعبثون؟ لماذا يكذبون علينا؟ كيف استطاعوا؟ أليس لديهم أطفال؟ ألهذا الحدّ أصبح العالم بشعاً وقاسياً؟ جعلونا نبحث في كلّ مكانٍ تقريباً دون أمل، وهي موجودة تحت الدّرج!
يالهم من قساة القلب! آه يا أسماء يا حبيبتي. إنّه أمرُ الله.
_”لسنا نحن المقهورين فقط. الكثيرون فقدوا أولادهم ، اطلبي لها الرّحمة” نحن نعلم أين هي الآن. لن ننساها أبداً. أعاننا الله على فراقها وفراق كلّ الأحبّة الذين فقدناهم.
بكى عليها إخوتها الصّغار كثيراً. ما أقسى الموت! وما أصعب الفراق! مازالت صورة أسماء تتوسط الحائط في كل غرفة من البيت، بعد أن استقرّوا مبدئيّاً في قريةٍ بعيدة. علمت نوال أنَّ إخوتها وزوجاتهم هم أيضاً رحلوا تلك اللّيلة. وبعد حين أصبحوا يتواصلون مع بعضهم ويقصّون لبعضهم عن تلك الليلة المشؤومة. وكيف كان كلٌّ منهم يهرع إلى الجبال ولا يدري أنَّ أخته، أو أخاه يسكن بالقرب منه.
هذه اللّيلة كالكثير من اللّيالي التي مرّت على “أريحا” الحبيبة.
فكم من القلوب، وكم من العيون بكت على أحبّة فُقِدوا، وعلى وطنٍ هُجّروا منه، إلى مصيرٍ لم يخططوا له، ولا يعلمون إلى أين يأخذهم القدر.
What do you think?