لم يخطر ببالها في يوم من الأيام أنه قد يموت أو أن يمر يوم واحد دون سماع صوته، أو دون رؤيته، فهو لا يزال شابا ً في ربيع عمره، ولكن المرض قد أنهك قواه. جاء خبر الموت على شكل صاعقة قوية جداً، لم تستطع تلك الفتاة استيعابها، هي الآن غير قادرة حتى على الفهم أو التفكير أو التصديق. وقفت جامدة لا ترى أمامها سوى صوره وذكرياته، صوته وضحكاته. هل يعقل هذا؟ تحدث نفسها قائلة: “كان دائماً يقول لي عمرك أطول من عمري…” فأجيبه يكفي خرافات فأنا لا أحب هذا الكلام.
حاولت التوقف عن التفكير والعودة لفهم ما يدور حولها، تنظر إلى أبيها وقد انهار بالبكاء! هذه المرة الأولى التي تراه فيها يبكي (لا يمكن لومه فقد خطف الموت ابنه الأكبر) ثم تنظر إلى أمها التي لم تعد تقوى على الوقوف أو الكلام، ثم تعود لتحدث نفسها: “هل هذا حلم.. لا أعلم شيء ولكن أتمنى أن أستيقظ من هذا الكابوس المزعج…” هو لم يكن حلماً ولا كابوساً، كان واقعاً لم تستطع تقبله.
ألقت نظرة أخرى بتعجب من أين أتى كل هؤلاء الناس، لم تشعر بهم ولا تعلم من هم بالرغم من أنهم مألوفون جداً بالنسبة لها.
وبعد ثلاثة أيام مضت لم تخزن في ذاكرتها خلال هذه الأيام سوى بضع كلمات (انتبهي لأهلك فهم كبار في السن ومرضى) والسؤال يراودها كل لحظة كيف يمكن لميت أن يحمل ميتاً، كيف تستطيع أن تواسيهم أحزانهم وهي متعبة، منهكة ومحطمة من الداخل، لقد رحل مصدر أملها ودفنت مع الجثمان قلبها، ولكن ماذا عساها أن تفعل.
لا حل لديها سوى أن تصمد لتخفف هول المصيبة عن عائلتها قليلاً، تنظر إليهم فتراهم يتنفسون بصعوبة من شدة الألم، غير قادرين على الكلام، فتجلس لتشغلهم بأي شيء علهم يتوقفون عن التفكير والتذكر قليلاً.
بدأت ملامحها بالشحوب وبدأت تنهار قواها فتعود لتذكر نفسها كوني قوية لليوم فقط، ولنضحك اليوم ونبكي غداً وتعيد هذه الكلمات يومياً وباستمرار.
أنهم بحاجتها ينبغي عليها أن تكون عوناً وسنداً، ألا تنهار أمامهم، ينبغي أن تبقى صامدة وتقاوم، هي تشعر بقلبها يتمزق فتحاول خياطته وإصلاحه. عندما يبوحون لها أنها مصدر قوتهم تشعر بذنب كبير فهي تعلم أنها ضعيفة جداً، وكيف لإنسان لا يملك قوة ً أن يعطي القوة لغيره؟
تلك الفتاة كان لديها حلم بأن يأتي شخص غريب لا تعرفه لترمي عليه جبل الحزن الذي تحمله فيأخذه ويذهب بعيداً، بعيداً جداً إلى مكان لا يمكن العودة منه أبداً، وكلما تذكرت كلماته “كوني قوية.. إياكي أن تضعفي” تمنح لنفسها قوة في الحياة فتقول: “أنا أستطيع تحمل المزيد يجب أن أكون على قدر المسؤولية”. وبالرغم من ضعفها وانكسارها بدت قوية، استطاعت بصعوبة بالغة أن تحقق أمنيتها الوحيدة بأن تعيد البسمة لوجه عائلتها، استطاعت أن تعيد للحياة بهجتها بالرغم من الفراغ الكبير الذي تركه أخوها بعد رحيله، فلقد تحول من مصدر أمل إلى مصدر ألم ولكن ليس بمقدورها سوى أن تقول قدر الله وما شاء فعل.
What do you think?