لم أكن أعرف أن الفاصل بين الموت والحياة لايكون دائماً لحظاتٍ قليلة، لم أكن أتخيل أنه ربما لا يأتي دفعة واحدة، بل كمحطات قطار أنتقل فيه من محطة لأخرى ويكون له في كل لحظة، طعم ووجه مختلف عن المحطة السابقة أو التي تليها، ولم أكن لأتنبّأ أن سنواتي الأربعين يمكن أن تختزلها عشر دقائق في محاولة مني للتفكير في كل حدث عشته طيلة حياتي، أو تنكر كل وجه وضحكة لأناس قد أغادرهم الآن وأنا أصارع وجه الموت المخيف وحدي في معركة لم أكن أنوي الخروج منها مهزومة.
إنها عشر دقائق وحسب، تجلى فيها الموت بألسنة من نار يحاول أن يهزمني بوحشية، بيد كنت أعتقد لسنوات أنها سندي في هذه الدنيا فكانت هي من رسمت طريقة موت أرادته لي، إنها يد زوجي ..
أنكرت فكرة إنهاء حياتي حتى اللحظة التي غمرني فيها بالبنزين وهو يصرخ: سأقتلك،
وتحولت فجأة إلى كتلة من نار لها سعير مخيف، مع انتشار رائحة الجلد الذي بدأ يذوب بسرعة ورائحة شعري الذي كان يخنقني وجعاً وقسوة وألما أكثر بكثير من رائحة النار ووجعها.
كان خلافنا يوم الحادثة على أمرٍ اعتدنا أن نختلف من أجله على مدار ١٥ سنة، كان يزعجه أنني أعمل وأن وضعي المادي بدأ يتحسن، بينما كان عاجزاً أن يتغير، أو أن يحقق نجاحاً في أي عمل .. لعل هذا السبب المباشر بينما يختفي السبب الرئيس الذي هو تنافر طبعينا، فأنا أملك همةً وحباً للعمل، وطموحاً يجبرني أن أكون مميزة في كل مجالٍ أعمل فيه، وكان هو على عكسي تماماً.
كنت مسؤولة مراقبة وتقييم بالإضافة إلى عملي في مركز الدعم نفسي للأطفال و الأمر الذي كان يزيد من غيرته تلك المقابلات التي يجرونها معي خلال عملي لذا قام بحرقي .
أدخلتني تلك الرائحة واللهب في حالة ذعر، فبدأت أركض وكأني أهرب من النار، أو أتركها خلفي وأبتعد، لكنها كانت تزأر بصوتها، وتزداد لهيباً وكأنها تسخر مني، وتزيد التصاقاً بي، وكلما ازدادت شراستها، تضاعفت رغبتي في إخمادها، لأنتصر عليها في النهاية، وأتهاوى على الأرض منهكة من معركة غير متكافئة، لكن نهايتها كانت جيدة بعض الشيء إذ إنني كنت ماأزال أسمع دقات قلبي المتسارعة والتي كانت تؤكد للحياة أنني على قيدها، لكنني كنت أعاني من صعوبة بالتنفس، هدأت أراقب مكان الحروق التي بدأت تزداد ألماً وهي تنتفخ بالسوائل، وبدأت أفكر في طريقة للخروج من سجني الذي مكثت فيه أياماً منقطعة عن كل وسائل التواصل مع أهلي، أقنعته بأن يذهب لإحضار طبيب مقيم في حارتنا، وبمجرد خروجه من المنزل، زحفت باتجاه الهاتف لأستنجد بشقيقتي لتصل إلي بعد دخول الطبيب بلحظات ووجهها يحمل كل تفاصيل الرعب وعدم تصديق ما أخبرتها به، كنت أتوقع أن حدود الألم توقفت هنا وبأني خرجت من كابوس وانتهى الأمر، ولكن كلمات الطبيب أعادتني لحالة الخوف وهو يؤكد خطورة وضعي.
وضرورة نقلي للمشفى فوراً ولأني كنت غريقة في بحر من الوجع والخوف ،رأيت الطبيب وأختي قاربا الأمان الذي سيصطحباني بعيدا عن قبر الموت المفتوح، وأمام إصراري على الطبيب أن يرافقني مع أختي، استجاب لي ووصلت للمشفى في حالة كانت تزداد تدهورا، ليرفض الأطباء استقبالي بسبب سوء حالتي وعدم توافر الإمكانيات لإنقاذي.
وتم تحويلي إلى مشفى أطمة على الحدود السورية التركية، كان صوت سيارة الإسعاف يزيد من ضياعي، وكأن عقلي توقف عن التفكير ولم أعد أستوعب ما يحدث لي ودخلت المشفى في السابع والعشرين من آب لعام ٢٠١٥ لأتحول في ساعات قليلة إلى جسد مومياء ملفوفة بالشاش الأبيض، لا يظهر مني سوي عينين مثقلتين بالألم.
وليظهر الموت ثانية بوجه آخر يرافقني كل يوم إلى غرفة العمليات، ويتركني ملقاة بين أيدي مجموعة من الأطباء، لأصحو بعد ساعات من التخدير، وأنا أردد على مسمعي ما زلت حية، وأنتظر صباح يوم آخر، أغيب فيه بين رائحة البنج ومشارط الأطباء.
كان الشهر الأول مملاً وموجعا، لكن سعادة الأطباء في استجابتي للعلاج، وروحي المعنوية العالية وإصراري على الحياة كانت تقربني من الشفاء، أو هذا ما كنت أعتقده، ولكن كل ذلك تلاشى حين بدأت أفقد الرغبة بقدوم الصباح وتلك الجولة ما بين الطابق الثاني والأول حيث تقع غرفة العمليات، وبدأت أفقد القدرة على المشي أو حتى الكلام، وبعد مرور شهرين كنت قد تحولت لجثة صامتة، أجبرت الأطباء على العجز أمامي واتخاذ قرار تحويلي إلى تركيا، وأنا بين الموت والحياة بعد توقف الكلى عن العمل، وللمرة الثانية تحملني سيارة الإسعاف إلى مصير مجهول، لأدخل المشافي التركية في إسكندرون في تشرين الأول وأتجرع صنفاً آخر من الموت بين أيادي أطباء يجرون عملياتهم لي بدون تخدير، وبدأت أتوسل إليهم في إنهاء حياتي بطريقة رحيمة، فقرروا تحويلي إلى مشفى آخر في أضنه، وطيلة الطريق الذي سلكته وحدي مع أناس لا يعرفون اللغة العربية، كنت أردد لنفسي ليت الموت يسرقني الآن قبل وصولي للمشفى، كان الألم قد تجاوز كل حدود القدرة على الاحتمال، وأنا أشعر بجسدي وكأنه مرمى لأهداف يسجلها الموت وقد خسرت إمكانية الفوز في هذه المباراة. وصلت للمشفى مرهقة من الحياة، وتم إدخالي فورأ إلى غرفة العناية المشددة، لأجد نفسي محاطة بعدد من الخراطيم والأجهزة الطبية التي كان صوتها يثير ضجري، وكأنه وسيلة تعنيب أخرى، وأصبح الأطباء في سباق مع الموت وكأنهم يسحبونني من فوهته، وقد استسلمت له تماما، كنت قد كرهت السرير الأبيض، ورائحة المشفى، وغرفة العمليات التي لم أنجُ منها طيلة شهور سوى أيام قليلة، وحتى منظر السقف الذي لم أعد أرى سواه بعد عجزي التام عن الحركة، أصبح يثير قرفي بلونه الأبيض فقررت أن أتسلى قليلاً، وأتجاهل موتي اليومي، فتخيله ورقة بيضاء وأنا أمتلك عدداً لا حصر له من الألوان، وبدأت أرسم أشكالا وصوراً ووجوهاً وأخط عليه كلمات وعبارات تشبهني في حياة ما سابقة، فرأيته جميلاً وتنكرت رائحة الحبر والأوراق، وصوت العود الذي أحبه، تسارعت دقات قلبي، وكأنها تخبرني أنه مازالت هنالك فرصة للحلم والانتصار على الموت، ورأيت وجهي على السقف مستبشرا، وكأنه يبتسم لي، وحين رآني الطبيب أبتسم اقترب مني، ولم أفهم أية كلمة مما قاله، سوى تلك الابتسامة على وجهه، وبدأت أهزأ بالموت الذي ضيع على نفسه فرصة سرقتي، وقد وهبتها له أكثر من مرة، لأغادر المشفى بعد شهرين على كرسي بعجلات وسط دهشة الأطباء واعترافهم أن عودتي للحياة هي معجزة. كان كل ما أحلم به أن أرى عائلتي، وأتنفس هواء مدينتي التي غادرتها طيلة خمسة أشهر، ولأبدأ من جديد في صراع آخر، وعلاج فيزيائي، لا يدرك معنى هذه الكلمة ووجعها إلا من عايش هذا النوع من العلاج، وبعد شهور من المعاناة، وإصرار مني على المشي واستعادة القدرة على تحريك يدي لأمسك بكتاب أو آلة العود التي أعشقها، أصبحت كل لحظة ألم هي اقتراب من تحقيق الحلم والعودة الكاملة للحياة، وبعد مرور عام كامل من معايشة الموت بكل تفاصيله وقسوته، بدأت أخطو أولى خطواتي كطفل صفير يتعلم المشي، لأعود ثانية وقد تقمصت روحاً أخرى لا تشبهني..
عدت إلى سوريا في 2016 ، وأنا مازلت في حالةٍ نفسيةٍ وصحيةٍ سيئة، كل ما استطعت أن أفعله في ذلك الوقت أنني
حصلت على الطلاق من المحكمة الشرعية في سراقب، كل ما يغيظني أنه لم يحاسب على جريمته، ولم يعاقب على مافعله بي فالمحكمة اكتفت بأن طلبت منه أن يحلف يميناً عالمصحف أنه لم يفعل بي ذلك، فحلف لذلك تم إخلاء سبيله.
في بداية 2017 شفيت تماماً وعدت إلى عملي ..
وأنا الآن بعد مرور ثلاث سنوات على تلك الحادثة، مازلت أتنكر تفاصيلها رغم وجعها، وأعاهد نفسي أن أستمتع بالحياة بأبسط مكوناتها من فنجان قهوة، أو قراءة رواية، أو ممارسة عملي، لا يعنيني أني أصبحت مطلقة في مجتمع أرهقني بالاحتفاظ بزواج فاشل طيلة خمسة عشر عامأ خوفا من هده الصفة، ولأثبت لنفسي وللمجتمع الآن أني إنسانة تستحق الحياة وتملك إرادة كبيرة كي تحصل عليها.
العمل الفني للفنان السوري ديلاور عمر
What do you think?