أنا أحسد سلحفاتي- النساء يكتبن عن الزلزال
لحظة تعجز الكتابة عن إنقاذك نفسياً، يصبح تدخل الدواء أمراً لا مفر منه. أعيش اليوم على حبتي مهدئ وأخرى للدوار، في محاولة لمنع أعصاب مستهلكة سلفاً من الاهتزاز الوهمي، وتوفير طاقتها لحين وقوع هزة فعلية، عداد الوقت بالدقائق بات ترفاً، الثانية وحدها سيدة الموقف، وأمام 40 ثانية لا تتسع لربط حذاء أو الانزلاق تحت الطاولة، أفكر في خيارات النجاة الممكنة.
في لبنان منحنا فرصة اختبار الموت دون أضرار، لكن الحالة الرثة للأبنية بعد تفجير المرفأ، لا تمنحك الطمأنينة، ويبقى القلق من كارثة ارتدادية مبرراً ومنطقياً، وإن حاولنا تقوية عزيمتنا، والتشبث بالأخبار التي تنفي وقوع زلزال على فالق اليمونة، أو تسونامي قادم من المتوسط. إلا أن احتمالية الوقوع وعدم القدرة على توقع توقيت وحجم الكارثة القادمة، يبقى الرعب ملازماً لمنازل اللبنانيين غير الآمنة، ومصائرهم المعلقة بعفاريت السلطة والأزمات المتتالية.
لا عزيز سوى الروح
لقد اختبرت للمرة الأولى ما اختبره ملايين السوريين طوال العقد المنصرم، وأنا ابنة مدينة سورية نجت عمداً وربما لتسويات طائفية من براميل الحقد، وإن لم تنج من خباثة نظام قمعي وضيع. وقع التجربة الأولى للهرب حافية، لا ألوي على شيء، سوى إنقاذ نفسي وحيواني الأليف، (توينكي) التي قفزت مرتعدة إلى حضني، فما كان إلا أن حملتها متجهة نحو مخرج البناء، يجعل من هذه التجربة على صعيد شخصي تجربة صعبة، تدفعني لإعادة ترتيبها في رأسي، والبحث في أخطائها، وقد نعمت بفرصة النجاة.
لحظة اقتراب الموت، تغدو كل الأشياء الثمينة التي جهدت لاقتنائها طوال حياتك بلا قيمة، وتعلو قيمة شحاطة بلاستيك وددت لو تمكنت من ارتدائها، بدلاً من الركض حافياً في ليلة باردة على درج متصدع، وحيث لا عزيز سوى الروح، عند وصولك بر الأمان تبدأ بالبحث عن أرواح تعنيك وأخرى مسؤول عنها، ليتبين أنني نسيت روحاً صامتة منذ أشهر في سباتها الشتوي.
لماذا ينسى الصامتون والعاجزون؟
لست الأولى من بين نساء كثيرات أخذن قراراً بعدم الإنجاب، ولعل الأسباب متفاوتة، إلا أنني أعزو أبرزها على صعيد شخصي إلى تواجدنا في جغرافيا المسالخ البشرية العربية، حيث يمكن لنا أن نموت تحت التعذيب، تحت أنقاض المنازل المدمرة بالقصف، برصاص قناص، بتفجير مرفأ، أو سيارة مفخخة، أو نحراً بسكاكين متطرفين، أو ببساطة من البرد أو الجوع، ولا أكثر من أسباب الموت المقيم في بلداننا، حتى يزيد كفايتها زلزال بفعل الطبيعة.
وحيث يصبح جلب حياة نقية إلى كل هذا الموت أقرب لجريمة منه إلى سلوك إنساني طبيعي، استعضت عن أبناء لن أنجبهم، بحيوانين أليفين، بمثابة أولاد لي، كلبة وسلحفاة صغيرة، أضعها في حوض مصمم منزلياً، لا يسمح لها بالحركة سوى في حدوده، محاط بواجهة زجاجية لأستطيع مراقبتها والاطمئنان عليها. حيوانان مختلفان، أحدهما صامت لا تتجاوز احتياجاته طعاماً خفيفاً من جملة خضار المنزل وبعض الماء، وهي في سباتها الشتوي لا تأكل ولا تشرب، لدرجة نسينا معها وجودها منذ أشهر، وآخر كثير الحركة والمتطلبات، وأكثر قدرة على التواجد في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا اليومية.
فجر الكارثة وفي لحظات الهلع الأولى، فرضت توينكي نفسها بقفزها إلى حضني، وعوائها المستمر، ولا شك أن إنقاذها يوازي أهمية إنقاذ أنفسنا، لكن سلحفاتي التي لم تتحرك ولم تهلع بصوت مرتفع تركت لتواجه مصيراً مميتاً لو حدث أي شيء للمنزل، وهي مسجونة في حوض اخترته أنا لها. وكان يمكن لها النجاة لو تركت تعيش حياتها الطبيعية في البراري. والمساحات المفتوحة، لا داخل صندوق مصفح على ارتفاع طابق سادس، لم تكن لتفكر بالحياة فيه بغريزتها.
ولعلي بطرحي هذا أحمل كائناً بطبيعة صامتة مسؤولية عدم تذكيري بوجوده، وألقي بذنب عدم إنقاذه الذي يجب أن أتحمله وحدي عليه، أليست الأنانية والتهرب من المسؤولية خصال بشرية؟ هي كذلك، وإن كان لهذه التجربة القاسية أي مغزى، لعله سيكون بوضعي أمام حقيقة أنني فشلت في اختبار إنساني قبل أن يكون أمومياً، وللإجابة عن سؤال لماذا يُنسى الصامتون والعاجزون، أجد من تجربتي أن الجواب ببساطة لأننا تركناهم.
سيقول البعض أن لو هذه السلحفاة كانت إنساناً لما تمكن أحد من نسيانها، إلا أن شهادات مؤلمة تابعتها، لرجل ضرير ترك وحيداً وقد استطاع ابنه وزوجته وأولادهما الهرب من المبنى، وأخرى لشاب من ذوي الإعاقة الحركية، ترك لمصيره لعدم القدرة على حمله على السلالم أثناء الهرب، وآخرون قضوا تحت الأنقاض في شمال سوريا لعدم قدرتهم على الصراخ، كي يسمحوا لرجال الإنقاذ بمعرفة أنهم أحياء، دون معدات تقنية بأشعة تحت الحمراء، تلتقط أنفاسهم المنازعة تحت الركام، كل هذا يشي بضآلة إمكاناتنا كبشر أمام الكوارث الكبرى، وأننا لازلنا نعمل بقانون البقاء للأقوى حيث تكتب النجاة لمن يفرض نفسه ولمن يصرخ ولمن يقدر على الحركة، دون أن نمنح من هم أشد ضعفاً منا فرصة مكافئة للنجاة.
أنا أحسد سلحفاتي
أمام أي كارثة، تُفقد العديد من الُمسلمات يقينها في دواخلنا، وقد كنا نشكر الأقدار على أننا بقينا في منازلنا ولم نهجر قسرياً منها، وآخرون يشكرون نعمة نجاة منازلهم من بطش البراميل العمياء والقذائف، والبعض يحمد الله بعد نزوحه داخلياً على قدرته ستر عائلته في منزل بدلاً من مخيم، وسكان المخيمات يصبرون على بلائهم بأنهم وأحباؤهم أحياء، وآخرون يرون أن من لجأ خارج البلاد قد نجى، وأمام كوارث الشتات واللجوء يحسد البعض من بقي داخل سورية على مصائبها، واليوم بعد أن سقطت منازلنا الآمنة فوق رؤوسنا، وبات ما لم يسقط منها مهدداً بالسقوط، أين يجد السوري أمانه؟
لم تعد جدراننا آمنة أينما حللنا، فهل نفترش العراء في بلاد ليست ملكنا، وهل من مساكن تقي السوري ويلات الحرب والذل والتهجير والعنصرية وأخطار الطبيعة الصارمة؟
في انتظار توقف الاهتزاز أسفل المبنى الذي أسكنه، وبعد إدراكي نسيان سلحفاتي في الأعلى، بحثت عما يخفف إحساسي بالذنب، أشياء لا تبدو واقعية، إلا أنها منحتني إحساساً بالأمان. لسلحفاتي قوقعة صلبة تختبئ داخلها عند الخطر، تقيها البرد والحر والحاجة، بيت متنقل تحمله معها أينما ذهبت، وله إمكانية النجاة من كوارث الطبيعة بطريقة أفضل من العمران البشري. أنا أحسد سلحفاتي فعلاً، ولعلي الآن سأعيدها إلى حيث تنتمي، أبحث لنفسي عن قوقعة تشبه منزلها، أخبئ فيها سوريتي المنكوبة، وألجأ لها عند الكوارث.
ليست كل التجارب تستحق الروي، لكنني أسأل نفسي منذ اللحظات الأولى للكارثة كيف لـ 40 ثانية لا تتسع لارتداء حذاء، أو الوصول إلى مخرج، أو حتى القفز أسفل طاولة، أن تكون كافية لدمار بهذا الحجم غير المتوقع؟
لماذا يُنسى الصامتون؟ ويترك العاجزون عن الهرب لمصيرهم؟
What do you think?