تسعون ثانية …فقط
غازي عينتاب الإثنين 6/شباط/ 2023
كان من الممكن أن تكون الساعة الرابعة وست عشرة دقيقة من فجر ذاك اليوم توقيتاً عاديّاً، مثل أيّ فجر سابق لكنّها ليست كذلك أبداً، وقد حُفرت في ذاكرة آلاف البشر في الشمال السوري وفي جنوب تركيا.
بداية تلك الليلة لا تختلف عن الليالي السابقة المملّة في غازي عينتاب لامرأة مثلي لاجئة بسبب التهجير القسري، تحمل في ذاكرتها حلم الثورة ومن بعدها كوابيس الحرب والتشرّد والخسارات.
كانت ليلة باردة، وقفت طويلاً أمام نافذة منزلي في الطابق الثالث، أراقب الثلج الذي يمنح الأرض حملاً ثقيلاً أبيضَ.
قلت لنفسي: غداً سأخرج مع ابن أختي الصغير لنلعب بالثلج فهذا الطفل ذو الأربع سنوات وحده القادر على منح قلبي الفرح حين أراه سعيداً يلعب ويضحك وهو لا يعرف شيئاً عن مدينته البعيدة التي هُجّر منها وهو في شهره الثامن.
تجاوزت الساعة الثانية ليلاً فقررت أن أنام وأحلم بأن يكون الغد أفضل.
لم أدر كم مرّ من الوقت حتى تمكنت من النوم، لكنّ شعوري باهتزاز الأرض تحتي بصورة خفيفة أيقظني، ثمَّ بدأت الهزّات تزداد قوّة، وقفت مسرعة وفتحت نافذتي لعلّي أدرك ما يحدث، كان البرد شديداً والسماء تصطبغ بلون أحمر مخيف، وأصوات غريبة تنتشر في المكان أحسست بدوار وأنا أرى الأبنية من حولي تهتز.
تمنّيت أن تهدأ الأرض ولا تستيقظ ابنتا أختي من نومهما كيلا تشعرا بالخوف، فما زالتا حتّى اليوم تعانيان من كوابيس الطيران والموت.
لكنّ الهزّات أصبحت عنيفة جدّاً ورأيتهما تدخلان غرفتي وهما تصرخان “خالتي ما هذا”؟
كان ضوء غرفتي مطفأ، والظلام في المنزل مخيف، فأغلقت النافذة وقد بدأت الصورة تتجلّى لديّ إنّه زلزال قويّ، والصراخ يرتفع في البناء المكوّن من خمسة طوابق والسكّان يتراكضون على الدرج فتختلط المفردات التركيّة والعربيّة، وكلمة يا الله تتكرّر من الجميع.
أشعلت الضوء، كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة والربع فجراً والزلزال يتحوّل إلى شبح يطلق أصواتاً مرعبة وغير مفهومة من باطن الأرض، وكل ما في المنزل يهتزّ ويتساقط وكأنَّه ينذر بكارثة حتميّة.
لم أعرف ما أفعل وصراخ البنات قد ارتفع، حاولت كتمان خوفي وطلبت منهما أن تجلسا على الأرض وتهدآ قليلاً، وأن ندعو معاً أن تتوقّف الأرض التي تغدر بنا الآن.
بدأ الزلزال يهدأ قليلاً، ولكنَّ نبضات قلبي كانت ترتفع وأنا أرى وجهَيْ ابنتَيْ أختي وقد تجمّد الدم فيهما وعيونهما مثبتة في وجهي وهما تتوسَّلان لي قائلتين: “فلنذهب إلى منزل خالتي.”
قلت محاولة طمأنتهما “لقد توقف، لا تخافا..”
ولكن أرعبتني فكرة الموت حين قالت ابنة أختي الكبرى: “لنذهب إلى خالتي فإذا متنا، نموت سوية.”
في تلك اللحظات تفقد إحساسك ومشاعرك وتصبح عاجزاً عن التفكير، لكن فكرة الموت وتّرت أعصابي، هل حقّاً من الممكن أن نموت في غربتنا بسبب الزلزال ونحن الناجيات من الموت في وطننا؟!
طلبت منهما ارتداء أيّ شيء بسرعة كي ننزل وترامى إلى مسمعي صوت أحد الأتراك وهو يصرخ “كوش..كوش” وتعني اركض.
كنت أرتدي بيجاما فوضعت غطاء على رأسي ويداي ترتجفان من الخوف، ونزلت دون حذاء وأنا أصارع كابوساً مخيفاً بعد أن تكرّر الزلزال من جديد.
وصلنا بصعوبة إلى ساحة البناء الخارجية، إذ مازال الناس يتراكضون على الدرج وفي الممرات فكنّا جميعاً نعيش أحداث فيلم مرعب ونتسابق للنجاة.
عشرات العائلات تقف في الشوارع بوجوه صفراء مذهولة، أطفال ترتجف من البرد، وبكاء هستيريّ ينتقل بالعدوى بين الحشود، وأدعية ترتفع إلى السماء أن تثبت الأرض تحت الأقدام.
بدأت الهزّات تزداد قوّة، وأنا أسمع صوت أختي عبر الهاتف مرتجفاً “غادة غادروا المنزل ولا تقفوا بجوار الحائط، وتعالوا إلى شارعنا.”
خرجنا من الحارة وبعضنا يتشبّث ببعض، واتّجهنا إلى الشارع الثاني حيث البناية التي تقيم فيها أختي.
كانت العديد من العائلات تركب سيّاراتها وتغادر، لكن إلى أين لا أعلم، فعينتاب كلّها تهتزّ الآن بقوّة للمرّة الثانية، وكأنّ مارداً مسجوناً يريد أن يمزّق الأرض ويخرج، وأصوات العويل في بطن الأرض مسموعة أكثر من عويل النّاس خارجها!
الشوارع مرعبة ومزدحمة بالناس، وصلنا إلى الشارع الثاني بصعوبة وأنا أنظر إلى الأبنية المحيطة بنا وهي تهتزّ بقوة، بدأت أبكي بكلّ ما في داخلي من قهر، وخوف وغربة وعجز وأنا أتخيّل يوم الحساب..
وصلنا الساحة الواسعة حيث الصراخ والذهول والبكاء، فبدأت أبحث بين الوجوه الشاحبة عن عائلة أختي وقد بدأت الأمطار تتساقط وأرجلنا تغوص في الثلج الذي يغطي الأرض.
أخيراً عثرت عليهم والخوف يسكن وجوههم، وكان زوج أختي يحتضن طفله الصغير بشدّة إلى صدره وهو يغطّيه من البرد والمطر ببطانيّة، شعرت بوجع لا يمكن للكلمات أن تصفه فعيون الأطفال من حولي تقطر خوفاً وهم متسمّرين وعاجزين عن فهم ما يجري، وعلى مقربة منّا امرأة تصرخ وتبكي وهي تنادي أطفالها فقد انتبهت أنّها غادرت المنزل وقد نسيتهم داخله من شدّة خوفها.
كل الصور المحيطة بي آلمتني، كبار السنّ والأطفال والأمّهات والآباء من سوريّين وأتراك، سبّبوا صدعاً في قلبي ونزفاً في عيني.
ثم استوقفني منظر امرأة سورية كانت تجلس على كرسيّها المتحرّك، والمطر ينهمر فوقها، وهي تحدّق في الأرض وكأنّها خارج الزمان والمكان، إنّها إحدى ضحايا الزلزال الأسدي الذي نعيشه نحن منذ سنوات.
كانت لامبالاتها بكل ما يحدث حولها واضحة، وكأنّ الحياة لم تعد تعنيها بشيء.
تلفّت حولي بحثاً عن مكان نحمي به أنفسنا من المطر، على بعد أمتار قليلة كانت هنالك مغسلة للسجاد، فطلبت من البنات وأختي أن نذهب لنقف تحت السقف الحديدي، وقد رأيت مجموعة من الشبّان قد وضعوا في تنكة القليل من الحطب وأشعلوه فاقتربنا منهم علّنا نحصل على القليل من الدفء بعد أن اشتد البرد والارتجاف.
بدأ العديد من النّاس ممّن يملكون سيّارات أو باصات للنقل الداخلي يطلبون من النّساء والأطفال الدخول إليها ريثما تتوقف الأمطار وتهدأ الأرض.
اقترب رجل تركي منّا وطلب من زوج أختي أن يدخل إلى السيارة من أجل الطفل الصغير، تمنّيت لو أن إنسانيّتنا تظهر دائماً دون الحاجة إلى كارثة مرعبة كي ندرك أنّنا جميعاً بشر ونستحقّ الحياة، وممكن أن نتعايش.
بدأ الفجر يبزغ والناس يحاولون إشعال أي شيء من أجل الحصول على القليل من الدفء بعد أن توقّف المطر وقد انتشروا كمجموعات في الساحة.
كنت بدون حذاء وقد شعرت أن قدميّ تحوّلتا لقطعتي جليد، لم أعد أشعر بهما والبرد يلتهمهما، ولا أستطيع التوقف عن الارتجاف، بدأت أتخيّل دفء السرير وخطّتي التّي وضعتها قبل النوم للّعب بالثلج، ها هو الصباح قد أقبل والنّاس كلّهم منتشرون على الثلج يبحثون عن وسيلة للتدفئة.
وباب البناء الذي تقيم فيه أختي أراه وكأنّه فوّهة جب مرعب، لا يريد أحد الدخول إليه بعد أن شاهدوا التصدّعات التي أصابت البناء، وكأنّ سكّيناً ضخماً قد شقّ الحائط من أسفله وحتى الطابق الأخير.
لم أعد أقوى على تحمّل البرد فقرّرت الدخول إلى منزل أختي للحصول على حذاء وأغطية تساعدنا على التحمّل، هي فكرة مجنونة لكن لابدّ منها.
دخلت مسرعة مع زوج أختي وكأنّني أدخل إلى بطن غول مفترس.
كنّا نركض على الدرج، وأنا أتوسل الله أن تصمت الأرض قليلاً فقط ريثما نغادر البناء
أحضرنا غطاء، ولبست حذاء، ثم عدنا بسرعة للأسفل، كان الناس يتحدّثون في هواتفهم ليطمئنّوا على أهلهم وقد سمعت أحدهم يقول “الزلزال ضرب تركيّا والشمال السوري، وهنالك الكثير من الأبنية المدمّرة وآلاف النّاس تحت الأنقاض.”. لم أكن قادرة على تخيّل هول المشهد وأنا أفكّر بأهلي وأقاربي الموزّعين في الشمال السوري بعد تهجيرنا، وبدأت أتواصل مع أفراد عائلتي، كانت الأصوات مرتجفة والبكاء يسيطر على الجميع، وقد علمت أن ابنة عمي وعائلتها كلّهم تحت الأنقاض في جنديرس حيث تدمّرت أغلب الأبنية.
هدأت الأرض قليلاً مع استمرار الهزّات الارتدادية التي تزيد من تخوّف حدوث زلزال آخر، ممّا يدفع الناس للدخول لمنازلهم بسرعة وإحضار أغطية والعودة للشارع، ولا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد تلك اللحظات المرعبة.
بدأ ضوء النهار يُظهر تعب الوجوه، وإرهاق الجميع، ونوم الأطفال في حضن أمّهاتهم أو على أرضيّة السيّارات.
مرّت الساعات بطيئة ونحن في الشارع، وقد بدأت أخبار الموت تتوالى على مسامعنا، لقد توفيت ابنة عمي مع زوجها وابنها البكر وابنته ولم تنج سوى زوجته التي حفرت الأنقاض بيديها لتتمكّن من إنقاذ نفسها وابنتها وابنها بينما خسرت بقية عائلتها وما زالت أخت زوجها وابنتها تحت الأنقاض وقد كانت تسمع صراخ أخت زوجها ممّا يعني أنها لازالت على قيد الحياة.
وبعد مرور أربعة عشر يوماً توفي ابن خالتي في أنطاكية حيث كان يقيم في فندق أوزهان.
اليوم بعد مرور أكثر من شهر على تلك الليلة ما زال النّاس يعيشون خوف الاهتزازات الارتدادية، ولكن أصبح الخوف أكبر بعد رؤية الدمار الذي خلّفه الزلزال، وبعد موت أكثر من خمسين ألف في تركيا وسورية.
لم يعد الخوف من المجهول هو المتحكّم في حياة الناس، بل هو الخوف من القصص التي سمعناها من الناجين من تحت الأنقاض، ونحن نتخيّل مع كل هزةّ أنّنا قد نلقى المصير نفسه. وما زلت حتى اللحظة لا أصدّق أنّ ما عشناه تلك الليلة هو تسعين ثانية فقط.
What do you think?