تواجه العديد من النساء الناجيات من الاعتقال لدى النظام السوري صعوباتٍ عدة في التأقلم مع الحياة والمحيط بعد خروجهن من السجون، إذ يعتبر السجن بالنسبة إليهن مرحلة فاصلة بين الماضي والحاضر، وقد تصل تبعتها إلى المستقبل حيث يمارس عليهن العنف والتنمر، أو يتم التخلي عنهن من قبل المجتمع والأهل والأقارب وحتى الأصدقاء، وهذه الأساليب لا تسمح لهن باستعادة حياتهن السابقة أو إكمالها من جديد بسبب رفض المجتمع لهن.
فاطمة الغربي (اسم مستعار) 30 عاماً، تعرضت للاعتقال في شهر نيسان من عام 2013، أثناء عبورها أحد الحواجز العسكرية على طريق دمشق خلال زيارة أمها وأخوتها، وكانت تهمتها التنسيق للمظاهرات وتحريض الطلاب في المدرسة التي تعمل بها على التظاهر.
تتسارع دقات قلب فاطمة كلما تذكرت تلك اللحظة، بحسب وصفها، حين تم اقتيادها من قبل عناصر الحاجز إلى الفرع وهي تتوسل إليهم، وتخبرهم بأن أطفالها ينتظرنها وأن كل التهم الموجهة إليها باطلة، لكن دون جدوى…
تنقلت فاطمة بين عدة أفرع أمنية، أولها فرع الأمن العسكري 215 في كفرسوسة، ومن ثم الجوية، وآخر محطة كانت لها في سجن عدرا المركزي، حيث تم الإفراج عنها في شهر كانون الثاني من عام 2016، قضت فيها أياماً مليئة بالذل والإهانة والتعذيب الجسدي والنفسي، غير أن ردة فعل زوجها بعد خروجها من السجن كانت أشد إيلاماً من سياط الجلادين.
لحظات ما بعد الاعتقال
تنهمر دموعها وهي تتذكر لحظة استقبال زوجها لها، عندما أغلق الباب بوجهها مردداً يمين الطلاق عليها، تلك اللحظات كانت كفيلة بفقدانها للوعي، كما تقول الغربي، مضيفةً: “في فترة اعتقالي كان قلبي ينزف من الداخل حزناً على عائلتي ونار الشوق لأطفالي جعلتني أنسى النوم لأيام قبل خروجي من المعتقل، وفي عتمة المنفردات الباردة كانت صور عائلتي أجمل طيف يزور خيالي”.
وفُوجئتْ فاطمة من طلاقها وحرمانها من احتضانها أطفالها بعد غيابٍ دام سنوات، حيث اتهمها زوجها بجلب العار والسمعة السيئة إليه، لتزيد نظرة المجتمع وأحاديث المقربين والمحيط من التأثير على زوجها، فكانوا يتحدثون عما تتعرض له المعتقلات في السجون بطريقةً واصمة، مما دفعه لطلاقها والتخلي عنها.
رغم كل ما تعرضت له فاطمة من زوجها بالإضافة لفصلها من عملها في التدريس، إلا أن الصدمة الكبرى، كانت عند سماع صوت والدتها التي أخبرتها بأن أخوتها قد تخلوا عنها منذ لحظة اعتقالها، مواسين بعضهم البعض بعبارة “فاطمة ماتت لا عاد تجيبوا سيرتها”، متسترين بحجة العادات والتقاليد والشرف المرتبط بالمرأة.
كانت المرحلة التي تلت إطلاق سراحها هي الأصعب في حياتها لما عانته من رفض ولوم مجتمعي وفقدان لمكانها في العمل وتساؤلات من حولها التي تجلد الروح قبل الجسد، فكان سؤال الجميع أو الجزء الأكبر كما تقول “هل تم اغتصابك؟” لأنها الفكرة الأكثر رواجا عن الاعتقال والمرأة على وجه الخصوص.
العائدات لسن ناجياتٍ بالضرورة
تواجه الناجيات كما أشرنا سابقاً صعوبات كثيرة بالاندماج بالمجتمع مرةً أخرى، والتأقلم مع حياة ما بعد الاعتقال، حيث يتم حرمانهن من معظم حقوقهن، ويجدن أنفسهن أمام ظروفٍ وتحدياتٍ جديدة.
تقول فاطمة: “أغلب النساء المتزوجات في المعتقل كن يخفن من الخروج من المعتقل وردة فعل الزوج أو الأهل، لأن المجتمع لا يرحم في كلامه وتعامله، والجميع يحمل المرأة مسؤولية الاعتقال، وكأنها ارتكبت فاحشة أو رذيلة، على عكس الرجال فالجميع يحتفل بخروجهم من المعتقل بإطلاق الزغاريد ورشقات الرصاص المعبر عن الفرح، متجاهلين دور المرأة وبأنها رمز للكفاح الثوري والبطولة الإنساني وبأنها كانت جنباً الى جنب في مسيرة التضحية لنيل الحرية والكرامة.”
حال فاطمة من حال صديقاتها اللواتي أفرج عنهن، فبعضهن بحسب ما أخبرتنا المغربي، من حاولت الانتحار بسبب رفض عائلتها لها، وأخرى من لم يسمح لها والدها الذي مازال في مناطق سيطرة النظام بالاستقرار معه، وذلك بدافع الخوف من فقدان عمله ومكانته في الحي الذي يقطن فيه، وأخرى أجبرتها عائلتها على الزواج برجل كبير في السن أو لديه إعاقة عقلية أو جسدية بحجة السترة أما الأخريات اللواتي بقين مع أزواجهن إلا أنهن مجبرات على معاناة أنواع مختلفة من العنف الممارس عليهن من قبل الزوج بهجره لهن والخجل من إخبار الناس باعتقالهن، ومع ذلك توصف حالتهن أنهن أكثر حظوظاً من غيرهن لذا يكن مجبرات على الصمت والقبول بالأمر الواقع.
انتصار صغير
عانت فاطمة بعد الاعتقال الكثير من الضغوطات والاضطرابات النفسية التي جعلتها تفكر بالانتحار مرارا، إلا أن حصولها على حق رؤية أطفالها بعد مساعدة المحاكم الشرعية في المناطق المحررة لها، جعلها تتراجع عن القيام بذلك رغم أنها كانت قد وصلت إلى لحظات تمنت فيها العودة لظلم السجانين في المعتقلات، بسب ما عانته من مجتمعها ومحيطها.
فاطمة اليوم تصارع مجتمعها بمزيد من الإصرار والقوة لتنمي نفسها، وذلك عن طريق تطوعها ببعض الأعمال التطوعية وبذلك تحاول أن تتغلب على نظرة المجتمع العنيفة لها وتقوي نفسها.
رغم أن فاطمة بدأت وبصعوبة تستعيد بشكلٍ من الأشكال حياتها، إلا أن مآسٍ عدة ما زالت طي الكتمان، تلقي بظلالها على واقع المرأة التي تعاني من العنف بأشكال ومسميات مختلفة ولأسباب وأعراف مجتمعات تقضي بحماية السمعة وأسرار البيوت الخاصة.
وبحسب منظمات حقوق الإنسان، فإن أكثر من عشرة آلاف امرأة اعتُقلت منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، إلا أن إطلاق سراح الآلاف منهن لم يضع حداً لمعاناتهن. حيث ما تزال الحرب تلقي بثقلها على الحياة بشكل عام على جميع النساء، إلا أن المعتقلات تزداد صعوبة ومعاناة حياتهن فالكثيرات من هن يعانين من رضوض نفسية، أو من فقدان موارد الرزق، أو خسارة أقارب لهن، وفوق كل ذلك يجدن أنفسهن منبوذات من المجتمع لدى إطلاق سراحهن.
وقد أبلغت منظمة العفو الدولية عن عدة حالات تنكرت فيها عائلات من بناتها المفرج عنهن وحالات قليلة وردت تقارير عن نساء قتلهن أقاربهن لغسل “العار”.
تأتي هذه المقالة في إطار التعاون مع منظمة تقاطعات ضمن حملة “المعرفة لكسر الوصمة”
What do you think?