الصحفي جود حسن
مجسّم المحكمة وأدوار الحضور
دوماً ما شعرت بتشابه بين قاعة المحكمة وخشبة المسرح، لكني لم أجرؤ على البوح بذلك مطلقاً، فإدراكي للفارق بين الحكاية المسرحية والأحداث الواقعية يغمرني بالذنب لهذه المقارنة بين المكانين.
على المنصة، وفي صدر القاعة أربعة قضاة نساء وقاضٍ مساعد، يشرفون على قاعة يتوزع عليها فرق الادّعاء، المحامون، الشهود، الصحافيون، والناشطون.
كان كوفيد-19 حاضراً أيضاً، فاتّخذ القيّمون على المحاكمة قراراً بتحديد عدد الحضور بما لا يزيد عن 29. على يمين القاعة، وخلف الحاجز الزجاجي، يجلس المتهمان، لكل منهما مترجمه الخاص وفريق محامي الدفاع عنه. أما القسم الأيسر من القاعة فهو مخصص لممثلي النيابة العامة. وباستثناء الجسم القضائي والقانوني، فإن بقيّة الحضور يشغلون 10 مقاعد فقط، من بينهم صحافيون يغطون الحدث لوسائل إعلام مختلفة.
يبيّن المحامي (باتريك كروكر) المستشار القانوني في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أهمية الحدث باعتباره المحاكمة الأولى التي يجريها جهاز دولة قضائي، لأحد النافذين السابقين في النظام السوري، وتشمل جرائم مثل القتل خارج القانون، والتعذيب، والعنف الجنسي في المعتقلات السورية. ويذكر المحامي أن المحكمة قد عينت اثنين من محامي الدفاع لكل منهم. ويضيف أنها المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الكمّ من الأدلة ويتم التعامل معها بدرجة عالية من الدقة القضائية. وقد طلبت المحكمة من الخبراء والباحثين المختصين كتابة دراسات عن الوضع السياسي والأمني في سوريا، وعن طبيعة العلاقة بين السلطة والمواطنين، وهناك بعض الدراسات التي تعود إلى التاريخ السوري حتى عام 1960. بينما تشير مساعدة كروكر، الحقوقية السورية (جمانة سيف)، إلى سعي هيئة الادعاء لإدراج جرائم العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي الغائبة حتى الآن على لائحة الاتهام: “من المؤسف ألا تثبت في أول محاكمة من هذا النوع جرائم العنف الجنسي”.
خطاب المتهم
“بس أنا انشقيت، ومو بس هيك صرت فاعل وناشط بالمعارضة ودعم المظاهرات السلمية، وساعدت كثيرين ليخرجوا من المعتقلات”.
يتناوب خطاب المتهم بين مستويين يبدو أنه حددهما بدقة، المستوى الأول هو ما يحاول أن يقدمه من معلومات يعرفها عن بنية النظام المخابراتي. وهنا يقوم بدور المتعاون، بل والمفيد للسلطات الألمانية، وهو يقدم هذا المستوى للحصول على المستوى الثاني، وهي محاولته خلق حكاية متماسكة تبعده ذاتيّاً كلما اقتربت الشهادات من دوره، فما كان منه إلا أن يشكك أكثر بمقولاتها.
“كنت مجرد موظف بنظام أكبر مني، مثل الأيد يلي بس بتنفذ الأوامر، النظام الإداري المخابراتي بيبلع الكل. الحرس الجمهوري هو المسؤول عن يلي صار. وأكتر من مرة، خصوصاً وقت مظاهرات الحولة، اعترضت على أفعالهم، حتى أخليت سبيل بعض المعتقلين دون مذكرة. ومن وقتها بدأوا يهددوني بوضوح، وجردوني من كل الصلاحيات. صرت مجرد كاتب للملخصات والمذكرات عن الاستجوابات يلي بيعملها المحققين. كنت أكتب محضر واحد عن كل التحقيقات، وأوصيت بإخلاء سبيل المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا”.
وعن خطاب المتهم والنظام البيروقراطي ومكننة التعذيب، يقول الكاتب السوري عمار المأمون: “هناك مهارات تأليف لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل وثيقة تملك معنيين، لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـفرع”، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي توقف القلب والتنفس”.
ما الفارق بين النظام البيروقراطي الورقي أو الشفاهي الذي كان يخدم فيه رسلان، وبين نظام المحكمة الألمانية الذي يجري أمامنا مبنياً على سلطة الأوراق والوثائق والهرمية الإدارية؟
برأيي عمار المأمون، المتهم رسلان يملك الخبرة. في الماضي السوري كان بهلوان الأوراق الإدارية، وهذه المهارة تمنحه القوة أيضاً في التعامل مع المحكمة الألمانية. يتحدث بإسهاب عن بنية النظام السوري الهرمية الإدارية، لكن ما أن تصل الشهادات إليه يجعل من الاتهامات الموجهة إليه عاطفية أو غير متماسكة. هو يملك خبرة الدقة، يكثر في كلامه توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث الحقيقية حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته.
إذاً، هي خبرة التعامل التلاعب بالوثائق والأدلة، لكني ما زلت أشعر بكل ذلك، ما زلت أشعر برأسي يرتطم أرضاً، عاجز عن الحركة، حيز عصابة عيني لا تبدي إلا ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. أذكر وقوفي الطويل، الخارج عن الزمن في درجة الحرارة الباردة. سمعت قدمين تقتربان نحوي وصوتاً يصيح: “وجك ع الحيط”، رفعني من شعري، ومن ثم أمسكت بي يدان من الكتف وراحتا تقذفاني إلى الحائط، سمعت طقطقة عظام أنفي، كانت حقيقية أكثر من أية وثيقة أمتلكها الآن.
الشهادة التي تغير التاريخ
مع كل شاهد أو شاهدة جديدة، كنت أتساءل إن أصبحت أكثر قدرة على سرد حكايتي: “في ذلك اليوم، فُتح باب الزنزانة، وتم جرّي مغمض العينين مكبّل اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً، قالولي “هاي مو بلدك، بتحبّ نرجع نزتّك على الحدود”. كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثر سواداً، ارتطمتُ خلاله بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.
لكن لا بدّ من شهادة تحرك الراكد الفاسد وتكشف المسكوت عنه. فالشهادات المنهكة، والمتعبة، والمدمرة، قد تغير التاريخ. ماذا لو صمت جميع الشهود وفضلوا عدم عيش تجربة الاستعادة والاستحضار لتجارب قاسية من ماضيهم؟ لابد من شهادة أن تشق مساراً جديداً، كما حدث هذا العام في الرابع من حزيران الفائت حين أدلى المحامي (أنور البني) بالشهادة الأولى. استمرت شهادته قرابة الست ساعات، روى فيها عن سنوات اعتقاله الخمسة حتى خروجه في العام 2011، وهجرته إلى أوروبا. لم تمض ثلاثة أشهر على الشهادة الأولى، حتى ظهرت في 16 أيلول شهادة أخرى، هذه المرة للمحامي ومدير المركز السوري للاعلام وحرية التعبير، مازن درويش، الذي قدم شهادته عن سنوات اعتقاله الأربعة بين أعوام 2011-2015. ومن ثم تتالت الشهادات حول الجرائم المسكوت عنها.
لا تملك شهادتي أهمية قانونية في محاكمات كوبلنز الحالية مع مدير أمن فرع منطقة الخطيب. لكنّني، وبتاريخ اليوم، أقدم نصي هذا، ليس كشهادة لإقناع الآخرين أو كدليل للقضاء، بل كمحاولة لأسرد لنفسي ما حدث معها في المنفردة في فرع المخابرات الجوية العسكرية، فأكون شاهداً أمامي، من هنا، في مواجهة مع الذات الهاربة من التذكر.
المقالة الأصلية على موقع درج هنا
شارك هذا الموضوع:
- اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)
- اضغط لتشارك على LinkedIn (فتح في نافذة جديدة)
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة)
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة)
- النقر لإرسال رابط عبر البريد الإلكتروني إلى صديق (فتح في نافذة جديدة)
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة)
What do you think?