اسمي خديجة. عمري 35 عاماً. زوجي اسمه رضوان، ويكبرني بخمس سنوات. لدينا ثلاثة أطفال، أكبرهم في الصف السادس، والثاني في الخامسأما طفلتي فما تزال في الصف الأول. كنت أعمل أنا وزوجي في احدى الشركات في مدينة ادلب. حكايتي بدأت، يوم الخميس في العشرين من نيسان العام 2012. كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً.
استيقظنا أنا وزوجي على صوت قرع الباب على نحوٍ عنيف ومرعب. نهضنا مذعورين واتجهنا نحو الباب بسرعة. إلا أن زوجي دفعني نحو الداخل ثم خرج وأغلق الباب.
ارتديت حجابي على عجل، ولحقتُ به، لأصدم بوجود مجموعة من عساكر قوات النظام، تدفع زوجي بعنف على سلم البيت نحو الأسفل. ثم توجهوا إلى شقة أخيه في الطابق الثالث، وأنزلوه عنوة.
وكرروا الأمر نفسه مع أخيهم الثالث الذي يسكن في الطابق الأرضي. كنت أراقبهم وأبكي. وكان كل من في الدار يصرخ، أمهم وأختهم، حتى أنا.
تحول صراخي إلى نحيب حين رأيتهم يغطون وجه زوجي وإخوته بقمصانهم. وضعوهم في سيارة مصفحة. لم أعد أتذكر لون تلك السيارة، ربما كانت خضراء أو ربما أي لون آخر.
لكنني أتذكر أنهم حين أخذوا الأخوة الثلاثة، أخذوا قلبي وعقلي معهم. أذكر تماماً أني بكيت في ذلك الصباح القاسي أكثر مما بكيت في حياتي كلها.
أسئلة كثيرة كانت تجول في عقلي: لماذا فعلوا هذا بهم؟ من الجهة التي أخذتهم؟ ما السبب؟ إلى أي مكان يقتادونهم؟ أسئلة لا أملك أجوبتها، إلا أننا بدأنا محاولاتنا لمعرفة مكانهم.
سألت عنه رفاقه ومعارفه وطلبنا مساعدتهم، فزوجي بحكم عمله، كان له معارف كثر ممن لهم مكانتهم وكلمتهم في المدينة. كانت تصلنا أخبار كثيرة.
لكن ما علق بذهني أنهم موجودون في فرع أمن الدولة في إدلب، الذي يبعد عنا مئات الأمتار فقط. لم أتوقف عن البكاء والدعاء والصلاة. وأيقنت أنَّ رحمة الله ستكون معي.
كان قد مضى على اختفائهم يومين، حين تفاجأنا بدخول زوجي إلى البيت، متثاقلاً ومتعباً، وقدماه بالكاد تحملانه.
ركضنا نحوه نحضنه ونعانقه فرحين، إلا أنه أثناء ذلك سقط بين أيدينا مغشياً عليه. لم أصدق ما رأته عيناي.
كان شاحب اللون، ومرهقاً لا يقدر على الكلام، ينظر إلينا مذهولاً، وتملأ جسده المتورم بقعٌ زرقاء.
وبعد أن حصل على قليل من النوم والأكل، اسندناه على وسادته ليروي لنا ما حدث معه: “عندما أخذونا من هنا غطوا أعيننا ووضعونا في السيارة، التي تحركت باتجاه مكان لم نعرفه، وألقوا القبض على شباب آخرين وألقوا بهم معنا. وانطلقوا بنا جميعاً إلى جهةٍ مجهولة. وحين وصلنا إلى ذلك المكان الغريب أنزلونا ووضعونا في ممر، وبدأوا بالتحقيق معنا واحداً تلوَ الآخر. حين حان دوري، باغتني الضابط المحقق بسؤاله: خرجت في مظاهرات وهتفت بإسقاط الرئيس ولاك؟ مو عاجبك الرئيس وبدك تسقطو؟”. أجبته نافياً، وأخبرته أني تظاهرت ضد الفساد فحسب.
فصرخ قائلاً: “كذاب، أنت عندك روسية وأنت إرهابي، أخوتك اعترفوا”.
أجبته : “اذا كان عندي روسية باستطاعتكم إعدامي في الساحة، ليس عندي سلاح، وأقسم على ذلك”. طال التحقيق وعندما يئس الطابط من تغييري لأقوالي قرر تعذيبي”.
سكت زوجي قليلاً وغصّ بدموعٍ لم أعهدها منه. وتابع: “جربت أنواعاً لا تصدق من التعذيب، بدءاً ببساط الريح، وهو كرسي يشبه كرسي طبيب الأسنان لكنه يقلب الإنسان رأساً على عقب. ثم التعذيب بالكهرباء والضرب واللكمات على وجهي وجسدي. حتى أن أحد أسناني قد كسر في إحدى اللكمات، هذا عدا عن الكلمات البذيئة التي كانت تتناثر من حولي. لم أعد قادراً على استيعاب وتحمل الألم، لكن مع إصراري على كلامي الأول وعنادي، قرروا تعذيبي بـ”الشَبح”.
علقوني من يديَّ إلى الأعلى، وقدماي لا تلامسان الأرض وتركوني على هذه الحال أكثر من ساعة. بعدها عادوا ليطلبوا مني تغيير أقوالي، وعندما رفضت جعلوني أبصم على ورق لا أعرف ما فيه، إذ كانت عيناي معصوبتان.
ثم سحبوني على الأرض لأني كنت عاجزاً عن المشي ورموني بين السجناء الذين أسرعوا ليفرغوا لي مكاناً، وغسلوا لي وجهي ودلكوا قدمي وبدأوا بمواساتي. بعد يومين لم نذق فيهما إلا الخبز اليابس والحلاوة، استدعاني الضابط وأخذوني إليه معصوب العينين ليقول لي: “أريدك أن تتعاون معنا وتحصل لنا على معلومات”. أجبته بأن لا معلومات لدي.
ويبدو أنَّ أمراً بالإفراج عني كان قد وصلهم فقال: “سنفرج عنك شرط التزامك ببيتك وعملك، ولا تنسى أننا قادرون على إحضارك مرة أخرى”. ثم أفرجوا عني. لم تكن المسافة بين بيتي والسجن سوى مئتي متر لكنني أحسستها آلاف الأمتار، فأنا لم أكن أقوى على المشي.
كان يروي لنا هول ما حدث له في يومين فقط، والدموع تنهمر من عينيه وأنا أشاركه البكاء. بقي مريضاً نحو أسبوع ليعود بعدها إلى عمله بعد عدة إجراءات قام بها. إذ إنّهم كانوا قد فصلوه من عمله بسبب اعتقاله.
أما شقيقاه فقد رأيا الضوء بعد 17 يوماً من السجن ليرويا لنا قصة العذاب الذي لا ينسى. قد تبدو مدة قصيرة لا تقارن بمن اعتقل شهوراً وسنوات، لكنها معاناة تركت في نفوسنا أثراً عميقاً من الحقد على أولئك الظالمين، الذين دنسوا الحياة بالاعتقال والقتل وكل أشكال الموت، ولكننا نحسب أنفسنا عند الله من الصابرين وأنّ الظلم إلى زوال.
العمل الفني للفنان الكويتي سامي محمد
What do you think?