طوت “ناديا الشيخ 28” ثلاثة سنوات من عمرها في الاعتقال، لتخرج ضمن صفقة تبادل بين النظام السوري، والفصائل المعارضة في 2015.
تغير لقب ناديا ابنة الميدان، والتي تم اعتقالها تعسفياً أثناء التظاهر بداية الثورة عام 2011، فبعدما كانت معروفةً بالسيدة المتعلمة، وحاملة الماجستير في اللغة العربية، صارت تعرف بأنها “خريجة حبوس” بحسب مجتمعها. لتواجه أشكالاً مختلفة من العنف المجتمعي، فكثيراً ما كانت تسمع الأقاويل والحكايات والتساؤلات حول ما جرى معها داخل السجن، بالأخص وأن ناديا ليست بمتزوجة، ما زاد من حدة الوصمة، لما شعرته من تعميمٍ لفكرة الاغتصاب وكأنها أمر لا مفر منه أثناء الاعتقال، بالرغم أنها لم تتعرض لذلك.
كل ما سبق شكل صدمةً لناديا تجاه المجتمع الذي أتت منه، والذي يعلم حق اليقين سبب دخولها السجن، إلا أنها ما زالت فخورةً بأنها من الأوائل اللواتي/الذين خرجوا للمناداة بالحرية والكرامة، وبذلت ثلاث سنواتٍ من عمرها في سبيل قضيتها، مستمرةً بمقاومة النظرة النمطية للمرأة الناجية والواقع الذي تعيشه.
لم تتوقف ناديا، متحديةً الألسن والنظرات، لتعود لميدان العمل في التدريس، والاندماج ضمن المجتمع مرةً أخرى، لتتعرض للكثير من التمييز حتى من زميلتها في المدرسة، كونها معتقلة سابقة، وتم إبعادها عن العمل الإداري بالرغم من أنها تحمل شهادةً علمية تخولها بشغل مناصب عليا. وتتذكر ناديا عندما سمعت إحدى المعلمات وهي تعبر عن خشيته من أن تنعكس حالة ناديا النفسية السيئة على الطلاب وبالأخص الصغار من بينهم، معتبرةً أنها تشكل خطراً على المدرسة والطلاب.
بدأت ناديا بالانعزال اجتماعياً ونفسياً، لتعيش أياماً وصفتها بأنها كانت أشد مما قضته في الاعتقال، وتقول: “لا تكون النجاة في إخلاء السبيل من السجن، حيث تواجه الناجية معاناة نفسية واجتماعية ومادية بعد خروجها من السجن”.
في هذا السياق، تشرح عاملة الدعم النفسي ربا جحا من خلال تعاملها مع الناجيات: “تفقد الناجية شبكة لأمان الاجتماعية من خلال الأسئلة الموجهة إليها حول الجرائم والانتهاكات التي تعرضت إليها خلال اعتقالها، وأكثرها يتمحور حول العنف الجنسي وحوادث الاغتصاب، فتحدث هذه الذكريات رضوضاً نفسية وإعادة اختبار الصدمة التي تنعكس بشكل سيء على نفسيتها”.
وتتشابه حالة ناديا بحالة زهراء محمد (33 عاماً)، والتي خرجت من الاعتقال في عام 2018، ليتم تهجيرها نحو الشمال السوري في العام عينه. حيث تركز عملها أثناء الثورة في التمريض، والذي تسبب باعتقالها على أحد الحواجز الأمنية بتهمة (علاج الإرهابيين وتهريب الدواء لهم) في الغوطة الشرقية.
أمضت زهراء ما يقارب العامين ونصف العام متنقلةً بين عدد من الأفرع الأمنية، تعرضت خلالها لمختلف أنواع العنف والتعذيب الجسدي والنفسي، من شبحٍ وضرب وصعق بالكهرباء، أو توجيه الألفاظ البذيئة والشتائم الجنسية بهدف الإهانة، حيث لا تنسى زهراء لحظة تفتيشها بطريقةٍ مذلة بعد إجبارها على خلع كامل ملابسها.
تعاملت زهراء مع هذه الذكريات المؤلمة وعادت إلى عائلتها من جديد، حيث كان لموقف زوجها المساند لها، ووقوفه إلى جانبها، دوراً كبيراً في استعادة عافيتها النفسية، حسب تعبيرها، بالرغم من كثرة الأقاويل من الأقارب والمحيط حول ما حدث معها في السجن.
ومع وصولها إلى قرية معرة شمارين، تقدمت للعمل في أحد المشافي، وحصلت على الوظيفة بسبب خبرتها الجيدة، ولكن وبعد يومين فقط من العمل، فوجئت بفصلها من قبل الإدارة لكونها معتقلة سابقة، ما شكل صدمةً كبيرة عليها، أو ما وصفته بـ: “خيبة كبيرة لم أشعر بها من قبل”، لتتكرر حالات الرفض من قبل جهات عدة، كورشات الخياطة، والمدارس والمراكز الصحية، ليأتي هذا الرفض بناءً على معرفتهم بأنها معتقلة سابقة. فاختارت العزلة والابتعاد عن المجتمع والمحيط ودخلت بحالة نفسية صعبة بحسب قولها.
من جهتها تعقب ربا جحا عن أثر الوصمة: “كان للوصمة كبير الأثر على الناجيات، لتلحق بهن في حياتهن الشخصية، مؤديةً للطلاق، أو الانتحار أو حتى القتل، إلى جانب أثرها على حياتهن الاجتماعية والمهنية، أو متابعة تعليمهن، ما يكشف عن عنفٍ مجتمعيٍ تتم ممارسته ضدهن بعد نجاتهن من الاعتقال”.
في النهاية، وفي الوقت الذي تبحث فيه الناجيات من الاعتقال عن طرق للعودة إلى الحياة الطبيعية، والاندماج في المجتمع، تقف الوصمة حائلاً بينهن وبين التعافي، والذي تشكل الحالة الاقتصادية والعودة إلى سوق العمل واحدةً من أعمدة هذه العملية، ليتم حرمانهن من أبسط حقوقهن بالاستمرار والعيش الكريم.
What do you think?