“لا أعلم، أشمُّ رائحةَ الموتِ في كلّ مكانٍ. كلّ شيءٍ أصبح رماديّاً، الشّوارع، المباني، الأسواقُ، والبشر! الوضعُ لا يُطاقُ يا براءة.
إلى أينَ سنهربُ هذهِ المرّة؟ منْ سيحميْنا؟ أو بصيغةٍ أخرى: كيفَ نضمنُ لأنفسنا مِيتةً سريعةً، قطعةً واحدةً، بلا صورٍ، وإعلامٍ، وإحصاءاتٍ؟ كيف نضمنُ أن نكوْنَ ماهيتنا كبشرٍ فقط، لا أرقامَ، لا شهداءَ، ولا ضحايا، ولا جثث، ولا +18 ؟ ”
أغلقت براءة الخطَّ. بعد سماعها كلماتٍ “كالسّكاكين” على حدّ وصفها، ولعجزها عن إقناعي في ترك محافظة إدلب “عاصمة الثّورة” كما يصفونها المنكوبة، كما أراها عن قربٍ شديدٍ، والعودة إلى مدينة الطّبقة في ريف محافظة الرّقّة، حيث كنت أعيش سابقاً.
الرّابع من نيسان من العام 2019، يومٌ يُفترضُ أن يكون عاديّاً جدّاً، لكنّه تحوّل فجأةً، في الصّباح، بسبب القصف الوحشيّ للأسد، والرّوس إلى عزاءٍ ضخم. يمتدّ على كافة المساحات، والوجوه.
وسوريا الصّغرى بأكملها تذهب “لتأخذ بالخاطر” للتّعزية: بأخٍ، وابنةٍ، وجارٍ، وطفلةٍ. بكلّ من نام ليلَةَ هذا اليوم خارجَ منزلِه. عانقَ الأرضَ، وشعرَ بالرّاحة، والهدوءِ آخرَ المطاف.
قيامة؟! عن أيّ قيامةٍ تتحدّثون؟ وكيف تشبّهون، ما تشبّهون؟!
جاهدةٌ الآن. أبحثُ عن كلماتٍ جديدةٍ. لم أستخدمها سابقاً في وصف ألمِ كلّ سوري في إدلب.
كلمات لم يملّها السّوريُّ بعد. كلمات تبقيني أكتبُ، وأحترم هذه النّعمة، نعمة امتلاك قوّة الكلمة، وتسجيلها، وحفظها حتّى الغد. إنْ بقيت فوق الأرض، كلمات سيقرأها أولادكم، ويعرفون معنى أن يكون المرءُ سوريّاً.
قبل أن أنام هذه اللّيلة. سأسأل نفسي كما اعتدت كل ليلة: ماذا بعد؟ لِمَ يجب أن نعاني؟ ما معنى ألّا نخاف؟ ما معنى الوطن؟ ثمّ أجد نفسي غارقةً في بئرِ تساؤلاتٍ عميقٍ، عميقٍ جدّاً لدرجة أنّه يجعلني ألتقط أنفاسي. معتقدة أنّها اللّيلة الأخيرة لي. لأستيقظ صباحاً خائبةَ الظّنّ، يُصاحب خيبَتي القصفُ، والأخبارُ، والدّموع.
كلّ هذا القتل جعلنا قساةً. باردي الوجوه، والأيدي. مختبئين تحت الوسائد. ندعوا الله ألّا يكون من يخصّنا بين من قتلته طائراتُ، وصواريخُ الأسد، والرّوس.
وعندما نطمئنُّ، نتابع برودَنا، ونلتفت لروتيننا. ستسألونني الآن : “إذن ما الذي يتوجّبُ علينا فعله؟ أنبكي؟ أنصرخ؟ أننتحر؟” لا، لا تفعلوا شيئاً، فاللّوم مرضٌ آخر. أصابتنا الحرب به وزرعت القتل، والموت المتناثرَ حولَنا فينا.
لا تفعلوا شيئاً. حاولوا أن تكونوا غداً على قيد الوطن.
What do you think?