الكاتبة: منى بكور
اللوحة للفنانة عزة أبو ربعية
thread and tulle on canvas (2019)
تتلاشى الروائحُ من ذاكرتي، لم نعد نألفُ بعضنا البعض. فلا الشوارع تعرفني ولا اللافتات، أنا الغريبة الوحيدة وسط كل شيء. هذا ما أعيشه، اختلالٌ في الهويةِ والوطنيةِ وغربة ذكريات.
بالأمس, كنتُ أمشي مع زوجي في شارعٍ قديمٍ حيث أعيش حالياً في دوقية (لوكسمبورغ). استرجعتني الذكريات وقلت له : “هذا الشارع يشبه منطقة (غازي مختار باشا) في تركيا”، قلتُ قولي هذا وشعرتُ بالغبطة، ومن ثم علقت الكلمات في حنجرتي. أين سوريا من كل هذا، أين أنا وأين أرشيفي السوري؟ وكيف سأبرر خيانتي هذه؟
هل من الطبيعي أن نعيش في دوامة الذنب على مدار سنوات؟ كيف نتعايش ونتأقلم وكيف نُحيي تاريخنا الخاص ونسترجعُ المكان المتواضع الذي ننحدرُ منه, المكان الذي يتميز بصفاته الخاصة من عادات وثقافات واعتبارات. كيف نعودُ إلى هناك ولا نعود؟
إن القضية أكبر من مجرد ذكريات سعيدة وحزينة، هي تلك الأجزاء والتفاصيل المتراكمة التي صنعت هويتنا، هي السبب فيما نحن عليه اليوم. إنها كالغرزة التي في يدي، تذكرني كلما نظرتُ إليها بأيامي كطالبة جامعية، عندما تعرضتُ على طريق السفر إلى محافظة (الرقة) لحادثِ سيرٍ ترك لي هذه الندبة.
كل رائحةٍ وأغنية وكل ندبة هي جزءٌ ساهم في صنع الهوية الحقيقية الخاصة بنا.
هروبنا المتكرر إلى ذاكرة معينة وحنيننا الدائم لها، هو الشعور الوحيد الذي يلامسنا ونراه بحرية, مع غياب الانتقاداتٍ والمبرراتٍ، كلذة رائحة قهوة سورية بعد حرمان، نتلذذُ بشمها مطولاً قبل أن نتذوقها أمام الغرباء بكل هدوء واتزان. ليتهم يعلمون أنها ليست مجرد قهوة، ليتهم يفهمون أنها تاريخٌ خاص بنا. ولكن مع مرور الأيام, بدأ هذا التاريخ يتلاشى قسراً في جوفنا.
تزاحمت الذكريات في رأسي وتهتُ في ما بينها، لم أعد أرى طريق العودة لزمنٍ حنونٍ آمن وعائلي. وعندما استسرق النظر في تاريخي, أبحث عن نفسي عبثاً, فلقد فقدت رائحتي.
لأي نافذةٍ سأحن، ولأي وسادةٍ وبابٍ ومنزلٍ وشارعِ. كثرت منازلي وتعددت عناويني، وتشبّع أنفي بالروائح. أين عنواني الأساسي؟ كيف أحافظ على جغرافيتي؟
كالسارقة أتلصصُ النظرات على الغرباء من حولي، وفي النهاية أجد نفسي الغريبة الوحيدة بينهم, أنا الغريبة التي تتصنّعُ الابتسامات.
أحسدهم على منزلٍ مهترئ على حافة طريق، ولدوا وكبروا فيه ويتمتعون بحرية البقاء والرحيل عنه.
لمَ علينا الهرب دوماً؟ نحنُ شعبٌ لا نحب الترحال ولكننا نعيش كل يوم لوناً جديد.
أريد أن أحتفظ بكلماتي، بمصطلحاتي، وبأمثالي الشعبية. ولكنني أجدُ نفسي ومن دون وعي أرددُ لغاتهم، أطلبُ كل شيء بلغاتٍ غليظة وأتحاشى عربيتي. لا أتحدثُ في المواصلاتِ العامة وأُدع دائماً هاتفي يصمت حتى أجلٍ آخر.
ولكن في كل صباح, أدرسُ هذه اللغاتِ بجد، فلا أريد نظرةً دونيةً أخرى عن السوريين وعن اللاجئين.
كل تفصيل يرونه ضئيل يؤلم قلبي المثقّلُ بالوحدة، ربما يكون الأمرُ انفصالاً عن الواقع، ربما آثاراً نفسية تباغتنا بعد الحرب، وربما هو مجردُ ما ندعوه بالغربة، غربةٌ شخصية.
What do you think?