تلك الطالبة السورية! 

يعاني اللاجئون/ات السوريون/ات من التمييز العرقي والعنصرية كل يوم في تركيا، محاولين/ات النجاة في مجتمع يرفضهم ويحاول لفظهم باستمرار.  وبمواجهة العديد من التحديات التي لا تقتصر على كلمات قاسية أو نظرات مستهجنة، بل تتجسد في جروح نفسية عميقة تترك ندوبها على الأرواح. ينعكس البؤس الداخلي على الملامح التي أبدلها الخوف والقلق وترك بصمته الأبدية عليها. عند كل اعتداء يتعرّض له أي لاجئ/ة، يقلق البقية ويضعون/ن أيديهم/ن على وجوههم/ن خوفًا من الصفعة المقبلة، فكل حادثة تتحوَّل في الذاكرة والنفوس إلى وصمة مهينة لا تُمحى. يهربون/ن من واقعهم المرير إلى النوم، فيكون الحلم هو استعادة الكرامة والإنسانية وتمزيق شبح العنصرية الذي أنهك أرواحهم/ن. يستيقظن/ون ليجدوا/ن مخالبه على أعناقهم/ن، يتبسَّم ابتسامة خبث في وجوههم/ن، فينتفضون/ن مذعورين/ات للعودة إلى دراستهم/ن أو عملهم/ن، وقبل خروجهم/ن من منازلهم/ن يقفز الشبح ويعتلي ظهورهم/ن، وكأنه يقول: لا داعي لاستقامة ظهرك ولا شموخك، أينما تكون أكون.

في العام الدراسي (2017-2018) قُبلت في جامعة كهرمان مرعش سوتشو إمام في مدينة كهرمان مرعش، وانتقلت للإقامة في منزلٍ مع طالبات سوريات أخريات بعيدًا عن مدينة هاتاي التي تقيم فيها عائلتي. كنت الأجنبية الوحيدة عمليًا في دفعتي، بالإضافة لطالبة سورية أخرى كانت نادرًا ما تأتي إلى الجامعة لظروف شخصية. لا أنسى أول محاضرة لي كانت لدى البروفيسورأ.ن الحاصل على الدكتوراه في تخصصي. كنت أعمل على التركيز بكل ما أوتيت من قوة، ولم أُزِح عيني عنه ولو للحظات لمحاولة فهم كل كلمة يقولها بحكم أنها ليست لغتي الأم وتحتاج إلى جهد مضاعف، وهذا ما لفت نظره. في نهاية المحاضرة، نظر لي وقال: “أنتِ سورية؟” أجبت بنعم، فقال: “هل فهمتِ شيئًا؟” أجبت بنعم، ولكن ليس كل شيء. ضحك وأضحك الطلاب، فضحكت معهم، رغم يقيني بعدم وجود سبب منطقي للضحك!

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

كان هذا البروفيسور عميدًا لكليتنا في أعوامٍ سابقة، وذات يومٍ كان يشرح لطلاب صفي بأن السوريين/ات يستطيعون تغيير تخصصهم/ن في الجامعة بعد القبول والدوام، وينظر لي فينظر الطلبة نظرة استغراب وتجهُّم. وفي وقتٍ لاحق، قال إن هناك بحيرة في المدينة جفّت مياهها وأصبحت ملوثة، فأصبحت وجهة للسوريين/ات ليصطادوا الأسماك منها. ومرة أخرى، وإن دولتهم استقطتب جميع الفئات من السوريين/ات دون النظر بماضيهم/ن، وربما هم/ن مجرمين/ات أو إرهابيين/ات، وأوحى للطلبة أنه ربما هم من يقومون/ن  بحرق الغابات في تركيا ويدمرون جمالها. وبعد كل هذا الحديث نظر لي بابتسامة “لكن لا، أنتِ جيدة، لستِ مثلهم: ابتسم ابتسامة بلا روح.

بالتأكيد لست الجيدة الوحيدة بين ملايين السوريين/ات، لم أفهم هذه النظرة العنصرية تجاه السوريين/ات ولصق التهم والسلوكيات السلبية بهم، كان يحزنني أنه على مستوى عالٍ من العلم ويُعمِّم على شعب بأكمله بأنه فاسد وسيئ.

لم يكن هذا البروفيسور الوحيد الذي أبدى كراهيته للسوريين/ات، فكان أيضا أحد المحاضرين بنا واضحاً بخطابه العنصرية تجاهنا من خلال أحاديثه وتعاطيه مع جميع الطلبة في الفروع والدفعات الأخرى. طالما نظر لي  بطريقة غير مريحة، فكلما تحدث عن احترام البلد يرمقني بتلك النظرة، كنت أشعر أنني  محطّ اتهام دائمًا دون أن أعلم السبب. احتفظت بهذه المشاعر السلبية لنفسي ولم أرد. ما معنى وصول إنسان من العلم إلى هذا المستوى وشعورك بأنك تفقه أكثر منه، وتعي بالنتائج الكارثية لأفكاره التي ستؤثر على بلده وأمانه قبل اللاجئ السوري؟ كنت أرى بأنّ للمكان قدسيّته وحرمته، لا يستحق منه أن يُعمِّم أو يتكلم بلغة الجاهلين!

بالعودة لثاني محاضرة لي في الجامعة، اجتمع حولي طلاب صفي للمرة الأولى. انهالت عليّ الأسئلة: هل دخلتِ إلى الجامعة بلا امتحانات؟ هل تأخذين من الدولة راتبًا؟ هل المنحة الطلابية خاصتك مدفوعة أم قرض من الدولة؟ هل تعيشين في منزل أم في مخيم؟ هل لديكِ حبيب؟  

شرحت لهم عدد الامتحانات التي اجتزتها وعدد السنين التي أضعتها وأنا أعمل على تحصيل مقعدٍ دراسي، وأنّي لا أقبض راتبًا، وأنه لا منحة لديّ على الإطلاق كوني أجنبية، والكثير من الأسئلة والإجابات. هزّ الجميع برأسه متفهماً وانفضّوا من حولي وإلى الأبد، فكان هو التجمع الأول والأخير حولي حتى تخرجي من الجامعة.

كنت أقضي معظم الوقت وحدي في الدروس، أشعر بأنّ اليوم بعامٍ كامل، ثقيل على قلبي. أشعر وكأنني لستُ موجودة أو لا أُرى بالعين المجردة. لطالما رغبت بتوثيق اللحظات السعيدة والتعيسة في كل مراحل حياتي، واليوم عندما أشاهد الذكريات التي وثقتها لنفسي خلال دراستي تعودني الذكريات والصراع الذي كنت أعيشه كل يوم عند استيقاظي للذهاب للجامعة وأنا مثقلة بالهموم وانعدام الشغف والرغبة، أعلم بوجوب استمراريتي وفي ذات الوقت لا طاقة لي لأكرر تجارب الأمس وأسمع نفس الأحاديث أو أن أترك وحيدة وسط كل هذه الصعوبات. كنت أحتاج إلى ما يهوِّن علي ويمدني بطاقة مضاعفة لمواجهة شقاء وحدتي، وكأنني كنت أذهب للحفر في الصخر أو للذهاب إلى الطرف الآخر من العالم ماشيةً حافية القدمين.

اقرأ/ي أيضاً: العنصرية.. كابوس السوريات في تركيا

في شهر شباط من عام 2020، كنت حينها في السنة الثالثة، سقط 36 ضحية من عناصر الجيش التركي باستهداف روسي لهم في سوريا. فاشتعلت الأجواء في تركيا وانطلقت حملات هجوم على سيارات ومحال تجارية للاجئين، وحملات اعتداء بالضرب على من يصادفونه في طريقهم، بالإضافة إلى مظاهرات وحملات إلكترونية تطالب بترحيل السوريين، وتصدَّر المشهد مطالبات شعبية بحرق إدلب، تحت وسم (فلتُحرَق ادلب).

 

شارك في الحملة كثير من طلاب جامعتي ودفعتي على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وحدثت أعمال شغب كبيرة في كهرمان مرعش، واعتداءات على اللاجئين السوريين بالضرب أو الاعتداء على ممتلكاتهم الشخصية. تم الاعتداء بالضرب حينها على امرأة في المدينة، ما زاد خوفي وخوف صديقات السكن، فاعتكفنا في المنازل وخشينا حتى التحدث بالعربية فيسمعنا الجيران وينقضّوا علينا رغم معرفتهم المسبقة بهويتنا، ولكن الغضب العارم الذي يعصف بالمدينة جعلنا نتخيَّل أكثر الحوارات سوءاً. كان مكان سكننا على شارعٍ رئيسي في مركز المدينة، فأي تجمهر شعبي أو تظاهرات كانت تمر من أمامنا حينها، ما زاد خوفنا وسوء حالتنا النفسية وانعدام شعورنا بالأمان. ما جعلنا نُصرُّ على الاعتكاف أكثر ولأيامٍ أطول.

أنا شخصيًا لم أخرج حتى للضرورة المُلحة، ولم أذهب للجامعة لعشرة أيام. ليست المقاطع المصورة للاعتداءات على الأشخاص أو على الممتلكات ما أرعبني، ولا الأصوات الصاخبة الغاضبة التي سمعتها في المظاهرات الشعبية في حيّنا وحدها ما جعلني أخشى الخروج وأتقوقع على نفسي تلك المرحلة. تعليقات بعض طلاب دفعتي وتعاطيهم مع الأحداث بطريقة مُحزِنة سلبت رغبتي في العودة للمقاعد الدراسية. لم أستطع تخيل مطالبهم بترحيلنا وحرق مسقط رأسي نتيجة ذنبٍ لم نقترفه. ولكن بعد غيابي الطويل غير المُبرَّر ما كان أمامي خيار سوى العودة، وبعدها بأيامٍ قليلة أُعلن تعليق الدوام الجامعي بسبب جائحة كورونا، وكان هذا الخبر رغم تعاسة مسبباته إلا أنه أجمل خبرٍ سمعته حينها. غادرت المدينة ولم أعد إليها سوى لاستلام شهادة تخرّجي.

ما كنتُ أعيشه في جامعتي  لم يكن سوى جزءٍ من منظومة أكبر تستهدف وجودنا وهويتنا كلاجئين. لم يكن مجرد عداء فردي بل كانت حالة عامة من التمييز العنصري طالت المجتمع بأسره، ليصبح السوريون كبش الفداء لجميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها تركيا. شعور العزلة والتهميش لم يقتصر على جامعتي أو مدينتي، بل كان واقعًا يعيشه معظم اللاجئين السوريين في تركيا.

كل تلك المشاعر السلبية التي تراكمت على مر السنين أرهقتني وأفقدتني جزءًا كبيرًا من حماستي وشغفي ورغبتي في الاستمرار. غيّرتني وتركت لديَّ جانبًا حزينًا يتملكني في كثير من الأوقات التي لا تحتمل الحزن حتى. رغم كل المحاولات للاندماج والنجاح في المجتمع الجديد، كنا نُواجه دائمًا جدارًا من الرفض والتمييز، ترك فينا جدارًا بيننا وبين أنفسنا.

هي حربٌ، بدأها تجّار الأزمات بشائعات، وصنعوا حكاية مضمونها الكذب يتناقلها الجميع ويُحدِّث بأخبارها، أودت إلى عنصريةٍ قبيحة، كلَّما مشت على الأرض تكبر أكثر حتى شكّلت شبحًا يُطارد اللاجئين السوريين ولا يراه أحدٌ سواهم، يقبع بكل ثقله على رؤوسهم يحملونه أينما حلّوا وارتحلوا، كأنّه يقول لهم: “أنا قدركم، ولي بقيّة، كلّ البقيّة”.

 

 

 

لاجئة أم نازحة أم ضيفة غير مرحب بها؟

هذه هي سنتي الثالثة هنا في بيروت، العاصمة الصغيرة التي يقصدها أغلب سكان العالم للسياحة والترفيه. ولكنني كالكثير من السوريات والسوريين لم أقصد بيروت بهدف السياحة، بل هربًا من الويلات في سوريا بعد أن استحالت كل سبل النجاة هناك.

تضمّ بيروت خليطًا كبيرًا من الجنسيات العربية والأجنبية، لكنّ الحديث عن وجود السوريات/ين فيها هو ما يشغل بال وسائل الإعلام ورجال السياسة.

خلال الأشهر الأولى من إقامتي هنا، لم تكد تخلو مكالمة لي مع أهلي أو أي أحد من أصدقائي دون السؤال عمّا إذا كنت أتعرّض لمواقف عنصرية كتلك التي يسمعون عنها في الأخبار، أو يقرأون عنها في السوشل ميديا، خلال السنة الأولى لم أجب ولا لمرة واحد بنعم.

من جهة كنت أخاف إثارة القلق في نفوسهن/م، ومن جهة أخرى لم أمتلك القدرة على استيعاب كل تلك الكراهية فاخترت عدم تصنيفها ضمن خانة العنصرية ريثما أتأقلم مع كل تلك التغييرات التي طرأت على حياتي.

هل نطبع جنسيتنا على جبهاتنا؟

لم تمضِ السنة الأولى بالسلام الذي تخيّلته، عانيت طويلًا وأنا أحاول تأمين مسكن يراعي الحد الأدنى من متطلبات الأمان، ولا ينظر إليّ صاحبه على أنني “أقبض أموالًا طائلة من الأمم”. وبعد خمسة أشهر من التنقل بين منازل أصدقائي، وجدت غرفة في أحد أحياء الأشرفية، كانت غرفة صغيرة تضمّ الحمام بداخلها، لا تزورها أشعة الشمس ولا مجال لتجديد هوائها إلا بفتح باب المنزل المطلّ بشكل مباشر على الحيّ.

رغم ذلك، كنت أشعر أنها أفضل مكان في العالم، مساحتي الخاصة لأول مرة في حياتي، لم يفزعني شيء فيها أكثر من استهجان الجيران لوجودي، وتعاملهم معي وكأنني دخيلة يجب عليهم التخلّص منها.

لا أذكر أنهم ردّوا التحية عليّ ولا لمرة واحدة خلال 7 أشهر من إقامتي بينهم، حتى صاحب البقالة الذي كان يبتسم لي في أوائل أيام وجودي هناك، توقّف عن ذلك بعد أن اكتشف أنني لست لبنانية، ولكنّه لم يستطع إخفاء “دهشته” فظنّ أن عليه تلطيف الموقف بأن يقول لي “مش مبين عليكي سورية”.

هذه الجملة المقيتة تكون مفاجئة عند سماعها لأول مرة، ثم تصبح رتيبة لكثرة تكرارها. لكنّ ما ظلّ عالقًا في ذهني إلى اليوم هو سؤال لم أستطع العثور على إجابة له ما هي العلامات الفارقة للسورية والسوري؟

لاحقًا، بدأت أفهم أن هنالك نظرة نمطية، وتصوّر مُسبق عن الشكل الذي يجب على المرأة السورية والرجل السوري أن يكونا فيه، وأن الأمر يتقاطع بين العنصرية والطبقية. فكلّ امرأة محجبة، ويبدو على مظهرها الفقر هي بالضرورة سورية وكأن اللبنانيات بكل فئاتهنّ وانتماءاتهنّ لا يرتدين سوى الشورت والكروب توب ولا يزاولن عملًا سوى عرض الأزياء.

في السنة الثانية، لم تعد تلك الجملة تستدعي انتباهي، كنت أقابلها بسؤال ساخر “كيف لازم يبين عليي إني سورية؟”، ثم أمضي. بدأت أشعر بالتوتر في المواصلات العامة، وأثناء التواصل مع الباعة أو الجيران أكون متأهبة دومًا لتلقّي الأسئلة عن لهجتي وجنسيتي وموعد عودتي إلى بلادي التي بحسب آرائهم أصبحت آمنة والأمور فيها أفضل من لبنان بكثير.

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

كل تلك التعابير كان مفادها، أننا غير مرحب بنا هنا، ولكنني كنت أعلم أنني لا أرغب بالبقاء، إنما أبحث عن فرصة للنجاة، عن باب جديد أخرج منه إلى عالم ينظر إلى هويتي على انها مركّب معقّد لأنها هوية بشرية لا يمكن اختزالها بنظرة نمطية تم تداولها عن جنسيتي.

خلال صيف 2022 اضطررت إلى ترك غرفتي، والتجوّل في شوارع بيروت بحثًا عن مسكن آخر. حينها، لم أستطع تحمّل تكلفة السماسرة الذين كانوا يطلبون مبالغ خيالية ودفعات مسبقة، فأخذت أجول الشوارع سائلة أصحاب المحال عمّا اذا كانوا يعرفون غرفًا متاحة للأجار.

بالطبع، لم أجد مرادي منذ اليوم الأول ولم ألقَ تعاونًا، أنهكني الحرّ والمشي، واستنزفني تكرار السؤال ذاته واستقبال النظرات اللامبالية كإجابة. فقررت طلب سيارة أجرة قاصدةً منزل صديقتي التي تسكن في الحي نفسه، وكانت الاستعانة بتطبيق “بولت” هي الخيار الأسرع.

انتظرت وصول السائق قرابة الخمس دقائق، لكنّه توقّف في الجهة المقابلة من الشارع وطلب مني العبور إلى سيارته، عندما صعدت كنت منهكة ومحبطة، وأفكر بالأسئلة التي سيطرحها عليّ خلال إيصالي إلى وجهتي، ولكنه فاجأني بأن طلب ضعف المبلغ الذي حدده التطبيق كلفةً للمسافة. في بادئ الأمر ظننته مخطئًا فحاولت أن أشرح له أن المسافة قريبة جدًا ولا تتعدى هذا الشارع الذي نقف فيه الآن.

كان ردّ فعل السائق عنيفًا جدًا، انتقل على مقياس الغضب من 0 إلى 10 خلال أجزاء من الثانية، صرخ بي ” يا بتدفعي يا قومي انزلي من السيارة وروحي فلّي على بلدك”.

 لم أستطع استيعاب الموقف، تجمّدت في مكاني، ولم أسترجع انتباهي إلا على صراخ السائق الذي أخذ يكرر “روحي فلّي على بلدك.. روحوا ارجعوا عبلدكن”.

اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات

 ترجّلت من السيارة وتركت الباب مفتوحًا كردّ فعل على الشعور بالأذية، لكنّ السائق شكّل خليطًا من الذكورية والعنصرية وصبّه عليي وسط الشارع على شكل شتائم وإهانات تخللها تكرار الطرد إياه.

لم يتدخّل أحد من المارّة، بدا المشهد وكأنه مألوفًا، وكأنهم يتفقون ضمنيًا مع ما كان يقوله. قام السائق بإلغاء الرحلة فلم أستطع كتابة تقييم أوضّح فيه للشركة ما حدث، فضلًا عن أن اللجوء إلى الشرطة ليس خيارًا متاحًا بالنسبة لامرأة سورية لا تملك أوراق إقامة تحت ظل نظام الكفالة العنصري بذاته.

مشيت مسافات طويلة دون وجهة محددة، كنت أطالع وجوه المارّة وأنا ألعب لعبة تخمين جنسيتهم بيني وبين نفسي. لم تكن لعبة مسليّة، ولم أستطع اكتشاف الطائل منها.

فكّرت مليًا بالدافع الذي يجعل إنسانًا ينفجر بوجه آخر فقط لاكتشافه أنه ينتمي إلى جنسية معينة، ولم تحملني أفكاري إلى أي إجابة كما لم تأخذني قدامي إلى أية وجهة طيلة ثلاث ساعات أمضيتها أجوب المدينة الساحلة اللطيفة الساهرة للوهلة الأولى، القاسية الموحشة لكل الوهلات بعدها.

 

سوريات في بيروت.. حكاياتهن مع العنصرية

عقب الفنجان السادس توقّفت عائشة عن عدّ فناجين البابونج التي تناولتها للتغلّب على القلق المسيطر عليها بعد انتشار خبر اغتيال باسكال سليمان، وإلصاق التهمة بالسوريين. لم ينفع العلاج الشعبيّ التقليدي في تهدئة نوبات الهلع التي أصبحت تمنعها عن فتح نافذة غرفتها لتجديد هوائها، فضلًا عن مغادرة المنزل، فهي تعيش في “الديكوانة” المنطقة المشهود لبلديتها بالعنصرية، وتجاوز الصلاحيات عبر إصدار أوامر ترحيل، واقتحام منازل السوريات/ين وإجبارهن/م على الإخلاء من دون سبب، فكيف وهم يمتلكون ذريعة كهذه لمعاقبة الجميع، حتى أولئك اللواتي/ الذين لم يسمعن/وا بالخبر بعد.

صبيحة العيد.. اختبأنا بدل الاحتفال

في مساء الثامن من نيسان/ أبريل انتشر خبر مقتل منسق القوات في جبيل “باسكال سليمان”، حيث عثرعلى جثته في بلدة سورية عقب يومين من اختطافه.

نشر الحساب الرسمي للجيش اللبناني على منصة إكس بيانًا قال فيه إن “العصابة الخاطفة من السوريين، والجثة عثر عليها في سوريا، حيث قتل سليمان من قبل العصابة السورية أثناء محاولتهم سرقة سيارته”.

عود ثقاب فوق كومة من إسفنج تشرّب شهورًا من التحريض المستمر، والعنصرية المتراكمة.

اقرأ/ي أيضاً: حياة مؤجلة حتى إشعار آخر

سيل هائل من التسجيلات الصوتية المليئة بالتهديد والوعيد للسوريات/ين اللواتي/الذين يجب عليهن/م العودة فورًا إلى بلدهن/م، ولكن ليس قبل الانتقام.

كان البيان المقتضب التحريضي في متنه كفيلًا بنزول عدد من “شباب القوات” إلى الشوارع والاعتداء على كل من يشتبه به أنه سوري، والشبهة هنا، يتم تحديدها بناءً على الشكل أو على المعرفة السابقة بجنسية الشخص المعتدى عليه.

بهذه البساطة، اعتدوا على سيارات تحمل لوحات سورية، وضربوا عددًا من المارة بطريقة وحشية.

مشاهد مرعبة لأتباع حزب القوات يضربون شبانًا سوريين في ذوق مكايل وبرج حمود، عدا عن قطع الطريق بالاتجاهين في جبيل، وإحراق الإطارات.

كان الهلع يسيطر على كل من تواصلت معهم، وهم بالمناسبة ليسوا أهدافًا مباشرة بحسب المعايير العنصرية للمعتدين في الشوارع، فالجميع سبق لهم وأن سمعوا مرة على الأقل “مش مبين عليك/ي سوري/ة” لأن السوري/ة الذي/ التي يظهر عليه/ا جنسيته/ا هم/هن الناطور، وعامل العتالة، والعاملة المنزلية، والعائلة البسيطة التي يعمل فيها الأب جميع المهن ويؤدي كافة المهام التي من الممكن أن تعود عليه وعلى عائلته ببعض النقود في هذا البلد المنهار على ذاته، وعلى أكثر الفئات هشاشة فيه.

كان قد انتشر في المساء تعميم يفيد بمنع تجول السوريين لليومين القادمين، ذكر فيه أن ذلك حفاظًا على السلامة والسلم.

وفي ظل تضارب الأرقام من جانب الجهات الرسمية عن العدد الحقيقي للاجئين، وعن عدم تسجيل جميع السوريين اللاجئين في لبنان أنفسهم لدى مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، لا يمكننا معرفة تماماً عدد الذين يقبعون في منازلهم أو خيمهم محظورين من التجول بوصفهم جميعا مجرمين بناء على جنسيتهم التي حملوها بموجب مصادفة الولادة في مكان ما.

قد يبدو هذا السرد مظلومياً أو مبالغاً به، لكنها ليست المرة الأولى التي تقع فيها أحداث مشابهة. ما يميز هذه المرة عن غيرها هو التصعيد، اتساع رقعة الاعتداءات، والتحريض المباشر من رؤساء أحزاب وبلديات ومسؤولين في مختلف مستويات الدولة ووزراء.

وللمفارقة، هناك معتدون حقيقيون صورتهم كاميرات الهواتف، وتداولت مقاطعهم المصورة جميع المنصات الإعلامية وهم يرتكبون جرم الاعتداء على المارة وضربهم وشتمهم، لكنّ أحداً لم يحاسبهم.. فضلًا عن أنهم يتمتعون بحرية التنقل فما من حاجز ينصبه شبان مسلحون بعصي أو بنادق سيوقفهم ليأخذهم إلى أقرب مخفر، هذه الحواجز تنصب فقط للبحث عن السوريين.

ليس المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، المتهم مدان حتى دون الحاجة إلى التفكير باحتمالية براءته. وعائشة التي تعيش في منزل متواضع بتكلفة تتجاوز الـ 600$ لكل شهر، أغلقت النوافذ، وأوصدت الأبواب، ثم أطفأت جميع الأضواء وكأنها ليست موجودة في المنزل، وكأنها لم تكن هنا يومًا.

يعكس هذا التصرف الرغبة بالاختفاء بعد استشعار الخطر المحدّق بها وبوالدتها المسنّة، ولكنّ الاختفاء أو حتى محاولة الهرب ليسا بهذه السهولة، فالبلدية جنّدت عدة شبان لاقتحام المنازل وطرد ساكنيها، ما اضطرّها إلى اصطحاب والدتها ليلًا والهرب إلى منزل أحد أصدقائها في الأشرفية.

وهناك، لم يكن الحال أفضل بكثير، فقد امتلأت شوارع الأشرفية بمناشير تطالب السوريات/ين بالرحيل مع تهديد تحوّل لاحقًا إلى مادة خام للسخرية من الأخطاء الإملائية التي ارتكبها كاتبه.

تعليقًا على كل ذلك تقول عائشة ” عدد لا نهائي من الرسائل عبر مختلف التطبيقات اجتاحت هاتفي خلال عشر دقائق، إلى جانب عدد لا نهائي من الرسائل التي أرسلتها، دائرة خوف وقلق متبادلين بين جميع السوريات/ين اللواتي/ الذين أعرفهن/م في بيروت وضواحيها، دائرة فوق أخرى، ثم دوّامة مخاوف تدور بيننا وتُعيد إلى الأذهان رعبًا جماعيًا ما يلبث أن يبهت فيتجدد. اضطررت ووالدتي إلى الاختباء في منزل صديقي اللبناني 10 أيام ريثما يهدأ الوضع الذي نعلم جميعًا أنه سيعود للانفجار في أيّ لحظة لسبب أو لآخر.”

 أموال طائلة من الأمم أم سرقة لفرص اللبنانيين؟

في حيّ الجعيتاوي بالأشرفية ذاتها، تعيش مريم امرأة سورية عشرينية تسكن وحدها في مبنى كلّ سكّانه لبنانيون/ات، لم يكن ذلك التفصيل واضحًا أو مهمًا خلال الأيام الأولى من إقامتها فيه، ولكنّ نظرات الازدراء التي كانت تراها على وجوه جاراتها وجيرانها، ومن بعدها المعاملة القاسية والاتهامات الغريبة التي صارت تتلاقهما بشكل دائم، سببت لها شعورًا بعدم الأمان.

“كان الجيران يتعمّدون باستمرار إغلاق باب المبنى في وجهي إذا ما صادف دخولنا إليه في اللحظة نفسها، أما جارتي القاطنة في الشقة المقابلة فكانت تغلق بابها كلّما رأتني أفتح بابي للخروج.” تصف مريم تلك الممارسات وهنالك ابتسامة جانبية ساخرة تعتلي فمها الصغير.

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

وتضيف “بعد مضيّ الشهر الأول، طرقت بابي مسؤولة العمارة وأخبرتني -دون إلقاء التحية- أن الباب الرئيسيّ الذي دأبوا على إغلاقه في وجهي يحتاج إلى صيانة، ويترتّب على كلّ منزل 40$ تكلفة لذلك. بالطبع، دفعت لها من دون جدال أو سؤال عن الفاتورة لأن القساوة التي عاملوني بها بسبب جنسيّتي لن تتبدّل خلال لحظة إلى لطف يسمح لها بمشاركتي هذه التفاصيل فأنا بالنسبة لها دخيلة”.

علمت مريم لاحقًا عن طريق الصدفة أنها الوحيدة التي دفعت للصيانة لأن إجماليّ المبلغ كان 40$، وأن مسؤولة العمارة اعتبرت أنها “سورية تقبض أموالًا طائلة من الأمم”. ولسخرية الواقع وسوداويته، تزامن اكتشاف مريم لتعرّضها للاستغلال بسبب المعلومات المضللة التي ينشرها الساسة اللبنانيون ومحطاتهم الإعلامية، مع مقابلة كانت تعرض على الإم تي في لرجل كان يدّعي أن سبب هجرة اللبنانيين/ات هو سرقة فرص عملهم/ن من قبل النازحين/ات الذين/ اللواتي يعملون/ن بأجور زهيدة لا يقبل اللبناني بها. تتساءل مريم، كما سيتساءل أي شخص لم تخرّب العنصرية دماغه/ا: هل يعتمد السوريون/ات على مساعدات الأمم “الهائلة” فلا حاجة لديهم/ن للعمل، أم يعملون بأجور زهيدة إرضاءً لرغبتهم/ن الشريرة بتهجير اللبنانيين/ات؟

 

ممنوعة من الرفض

ليلى، صبيّة سورية قصدت بيروت بحثًا عن فرصة عمل توفّر لها شكلًا أفضل من الحياة التي كانت تعيشها في إحدى قرى محافظة حماه، ورغم أن المطاف انتهى بها نادلة في مطعم وسط العاصمة بيروت، إلّا أنها اعتبرت ذلك بداية الطريق واختارت الكفاح لنيل الاستقلالية.

تتعرّض ليلى خلال عملها للكثير من المضايقات بعد أن يكتشف بعض الزبائن من خلال لهجتها أنها ليست لبنانية، تأخذ تلك المضايقات أشكالًا متتعدة تتأرجح بين الاستهجان باستخدام العبارة الشهيرة “مش مبين عليكي إنك سورية”، والتحرّش البغيض الذي تضطر إلى التعامل معه وحدها لأن إدارة المطعم تفضّل راحة الزبون على صون حقوق العاملة.

من بين المواقف العديدة التي تذكرها ليلى، هنالك محادثة جرت بينها وبين زبون كان يأتي إلى المطعم بشكل شبه يوميّ، وفي كلّ مرة يأتي فيها كان يحاول “التودد” إليها، رغم أنها أوضحت له عدم اهتمامها به إلّا بوصفه زبونًا مثل أي زبون آخر.

والتودّد هنا، كلمة يستخدمها المتحرّش للتغطية على فعلته.

تسرد ليلى تلك المحادثة وصوتها يرتجف فتقول” سألني الخروج بصحبته لشرب فنجان قهوة في مكان آخر غير هذا، فرفضت. لم يتوقّف عن الإلحاح بل راح يحكي عن رغبته العميقة بالارتباط بفتاة سورية والزواج منها، معللًا ذلك بأن السوريات يرضين بالقليل، وغير متطلّبات، على عكس اللبنانيات، كما أنهنّ جميعهنّ يرغبن بالزواج من لبنانين، ولا يمانعن حتى ولو كان الرجل متزوجًا.”

اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات

لم يكن وقع الكلمات الميزوجينية العنصرية هيّنًا على ليلى لكنّ خوفها من خسارة عملها أجبرها على الاكتفاء بتكرار جملتها السابقة “لست مهتمّة”.

وكأيّ رجل يحمل فكرًا مشابهًا لفكر هذا الزبون، لم يتقبّل اللـ لا، فاعتبرها إهانة شخصيّة ردّ على أثرها بجملة “سورية وإلك عين تقوليلي لا، لازم تشكري ربك إني طلعت فيكي.”

لم تشكر ليلى ربّها على التحرش الذي تعرّضت له، بل دعته من كلّ قلبها أن يساعدها على مغادرة هذا البلد الذي تحكمه منظومة ذكورية عنصرية تمنعها من محاولة تحصيل حقّها، إلى بلد آمن يحترم إنسانيتها، ويؤمن بيئة حاضنة لإمكانياتها تخوّلها من تحقيق أحلامها التي تركت بلدها الأم سعيًا وراءها.

عائشة، مريم، وليلى ثلاث قصص لنساء سوريات يعانين من العنصرية والذكورية في لبنان، وصلت قصصهنّ إلينا بفعل الصدفة، ولكنّ آلاف النساء السوريات على امتداد الأراضي اللبنانية يعانين في كل لحظة ظروفًا قارهة، واستغلالًا شنيعًا لم نسمع قصصهنّ بعد، لكنهنّ يحلمن كل يوم بالخلاص من انعدام الاحتمالات في بلد يبدو أفقه أضيق من مساحته.

 

زنزانة بلا قضبان.. حياة السوريات في تركيا

مع نهاية الشهر السادس من هذا العام 2024، بدأت مدينة عينتاب التي أعيش فيها ما سُمّي بحملة التفتيش، أو كما أسماها السوريون/ات حملة الترحيل. سيارات شرطة في كل شارع تقريبًا، ترافقت مع تحركات عنصرية بعد الأحداث التي شهدتها مدينة قيصري. تحولت عينتاب المليئة بالحياة إلى مدينة شبه خالية، خاصة من السوريين/ات.

أصبحت أخشى النزول إلى الشارع وبقيت في بيتي حوالي 30 يومًا، رسمت خلالها في مخيلتي شبحًا أسود كبيرًا يزداد حجمه وسيطرته على تفكيري يومًا بعد يوم، حتى ابتلعني. شعرت أنني في زنزانتي المنفردة التي عشت فيها أيامًا وأسابيع أشبه بالكابوس. كنت في سجن صغير لا تتجاوز مساحته مترًا ونصف المتر تقريبًا، وحيدة وخائفة، أخشى أصوات الأقدام التي تقترب من زنزانتي. كنت أرتجف خوفًا عند سماع صوت باب زنزانة مجاورة يُفتح أو يُغلق. عادت كل تلك المشاعر لي دفعة واحدة، كأنها سيل حطم السد الواهي الذي صنعته لنفسي، مدعيةً أنني أصبحت بأمان في هذا البلد.

اقرأ/ي أيضاً: العنصرية.. كابوس السوريات في تركيا

حاولت بجهد كبير مقاومة خوفي الذي عاد، الخوف من البقاء في السجن طويلًا، لكنني لم أستطع. في أول خروج لي إلى الشارع بعد ذلك الشهر، شعرت أن الناس جميعهم ينظرون إلي بريبة ويريدون الانقضاض علي. رأيت رجلًا نظر إليّ مليًا، ثم سار مبتعدًا، وبعد ثوانٍ عاد ليقف قبالتي وينظر إليّ مجددًا. توقف قلبي عن النبض وشعرت برعب كبير. هل عرف أنني سورية؟ هل سيصرخ في وجهي أو يضربني؟ تفحصت يديه بنظرة سريعة لأرى إن كان يحمل أي سكين. تسمرت في مكاني حتى ابتعد.

عدت إلى بيتي خائفة وأقفلت جميع الأبواب، حتى أبواب الغرف، كي أبتعد قدر المستطاع عنهم. وبعد عدة أيام، حين أجبرني زوجي على الخروج من المنزل كي لا أضع نفسي في متاهة الخوف والانغلاق وتذكر السجن والزنزانة، قصدنا المول القريب من منزلنا. نزلت إلى الشارع وأنا أختبئ خلفه، أريد الابتعاد وعيناي تمسحان المكان بحذر.

كان هناك دورية للشرطة، فقفزت إلى رأسي صور الحواجز في سوريا، التفتيش والخوف الذي عشته هناك. تسمرت في مكاني ولم أتحرك، ولم يستطع زوجي إقناعي بالتحرك إلا بعد أن اقترح أن يذهب هو أولًا ليستطلع المكان ويمر من أمام الدورية ويرى ما يحدث، ثم يعود ليمسك بيدي ونعبر من أمامهم. أغمضت عيني بقوة عندما وصلنا إليهم، ولم أفتحهما إلا بعد أن قال لي: “انظري، لم يحصل أي شيء.” لم يدرك أن أشياء كثيرة حصلت، لم يشعر بي وقد قفز بي عقلي إلى حاجز سجن عدرا المركزي، حيث أخذوا هويتي للتفييش وتركوني أنتظر قرابة الساعة حين أخطأ أحدهم في قراءة اسمي.

الخوف من الترحيل اليوم، رغم التزامك بكل أوراقك ومحاولتك أن تكون إقامتك قانونية قدر الإمكان، لا يختلف عن الشعور بالخوف من الاعتقال. نقاط التفتيش على الكملك أصبحت في مخيلتي شبيهة بتلك الحواجز التي مزقت دمشق وأصابتني بالهلع في كل مرة أقف فيها أمام أحدها، رغم أن أموري نظامية كما يقولون.

أذكر بداية وصولي إلى تركيا في منتصف عام 2016، كنت دائمًا ما أقول لنفسي: لماذا لا تكون سوريا شبيهة بتركيا؟ بالجمال الذي نراه في الحدائق، بالطبيعة التي يولونها اهتمامًا كبيرًا، بالنظافة التي تعتبر أولوية لديهم. لم أكن أتصور أن تكون شبيهة بسوريا في الخوف الذي يزرعونه في قلوبنا، بالوجع الذي لم نُشفَ منه بعد، بالغصة التي سكنت قلب زوجي حين رفضت إدارة الهجرة منحه إذن سفر إلى مدينة أورفه التي تبعد عن عينتاب حوالي ساعة وربع فقط. كانت والدته قد تعرضت لحادث اضطرها لدخول المشفى وإجراء عملية لتبديل مفصل في رجلها، ورغم كل أوراق المشفى التي أرفقها بالطلب، رفضوا أن يزور أمه التي ماتت بعد العملية بيوم واحد.

كانت الحسرة التي ملأت عيني زوجي حين وصله خبر وفاتها أكبر من أن تُوصف. لم يسمحوا له بتوديع أمه، ولم يوافقوا حتى على منحه إذن سفر لدفنها. بل تم تعليق الإذن دون جواب واضح في البوابة الإلكترونية E_DEVLET ليومين بعد الدفن، واضطر للسفر في سيارة خاصة برفقة صديقين يحملان الجنسية التركية. وحين حاول ابن خالته اللحاق به لتوديع خالته الوحيدة، أعادوه مع تهديد بالترحيل: “لا يمكنك السفر دون إذن، ولن نوافق على منحك هذا الإذن.”

وطبعًا لم أستطع مرافقة زوجي والوقوف إلى جانبه في مأساته هذه، فلم أحصل على الإذن أنا أيضًا. لم أحصل حتى على حق تثبيت زواجي بسبب خطأ موظف كتب في خانة الحالة الاجتماعية في بطاقة الحماية المؤقتة لزوجي أنه متزوج، ورفضوا تعديل البطاقة رغم محاولاتنا العديدة.

بعد مرور قرابة ثلاثة أشهر منذ بدء الحملة، لم أعد أخرج من بيتي إلا للضرورة، وإن خرجت أحاول جاهدة أن لا أتحدث، فأنا أنطق جملتي بثلاث لغات: عربية وتركية وإنجليزية عندما أكون مرتبكة. عدت إلى السجن الذي كنت أخشى أن لا أخرج منه حين كنت في سوريا، سجن فُرض علي وعلى الكثير من السوريين، وكأنني لم أخرج منه. فليس بالضرورة أن تكون زنزانتي مترًا ونصف المتر كي أشعر أنني في سجن، يكفي أنني لا أستطيع المشي في الشارع بحرية، لا أستطيع السفر بحرية.

اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات

لقد فقدنا نصف شجاعتنا التي كانت سبباً كبيراً في ثورتنا، وفقدنا كل قوتنا التي كانت كفيلة في دب الرعب بقلوب شبيحة النظام من انتصارنا، الغربة تجعل المرء بعيداً عن محيطه الآمن وسط عائلته وأحبته،يرفع صوته منادياً بالحرية بين أرضه وجمهوره، وحين يبعدونه رغماً عنه عن وطنه، يترك شجاعته وقوته هناك، هي أثقل من أن يحملها في حقيبة سفر يهرب بها من الموت.

أراقب مثل الكثيرين/ات غيري صفحات الفيس بوك لنعرف إلى أين وصلت الحملة، وهل هناك تحرك مدروس ضد العنصرية المفرطة التي تحولت إلى وحش يلتهمنا معاً، أتراكًا وسوريين.

 

العنصرية.. كابوس السوريات في تركيا

بكلمات تحمل عبء المعاناة، وصوت يعتريه القلق، بدأت اللاجئة السورية ليال عبد العال 36 عاماً الحديث عن تجربتها مع العنصرية قائلة: “ما تختلقه جارتنا التركية معنا من مشكلات يتجاوز كونها مجرد سوء فهم أو اختلاف العادات، بل يعكس ما أعمق من ذلك.. العنصرية لا تفرق بين الأشخاص ولا تأخذ في الاعتبار جنسيتهم أو خلفيتهم الثقافية والاجتماعية”.

وتعاني ليال، التي حصلت على حماية مؤقتة بعد وصولها مع عائلتها إلى تركيا منذ عام 2013، من صراع التمييز العنصري مع جيرانها، ما انعكس سلبا على صحتها النفسية فبات شعور العزلة وفقدان الثقة بالنفس يسيطران عليها، وأصبحت أكثر حساسية في التعامل والتفاعل مع المحيط، على حد تعبيرها.

وتصف ليال نفسها، بأنها ودودة ومبادرة، تحب بناء العلاقات مع الآخرين/ات واكتشاف أنماط مختلفة من الثقافات، لكن شعور القلق المتزايد الذي سببته العنصرية لها جعلها عكس ذلك، وفق قولها.

اقرأ/ي أيضاً: الترحيل القسري يفقر النساء السوريات

وقالت ليال، إنّ بعض جيرانها/تها الأتراك الذين/اللواتي يقيمون/ن معها في نفس المبنى أو المباني المجاورة في حي سوتلو جشمه بمدينة إسطنبول، يتجاهلنها/ونها ويمتنعن/ون عن خلق أيّ أحاديث معها، “بينما ينظر البعض الآخر إليهم/ن كسوريين/ات بازدراء.

وأشارت، أن جارتها التركية التي تسكن معها في نفس المبنى، تتعمد محاولة استفزازها أو التشاجر معها هي وأفراد عائلتها بشكل متكرر، لكن أسوأ ما فعلته تلك الجارة هو الاعتداء على شقيقتها ليلى خلال زيارتها لها.

الجنسية التركية لا تحمي من الكراهية

تحكي شقيقة ليال، ليلى والتي تحمل الجنسية التركية، شهادتها حول حادثة الاعتداء عليها عندما توجهت إلى زيارتها لأختها في سوتلو جشمه.

” عندما صادفنا أنا وأختي الجارة التركية على مدخل المبنى، قامت الجارة  بضربنا بالأحذية من دون أي سبب، صرخت بنا بصوت عالي وقالت لا مكان للسوريين/ات هنا، عودوا/عدنَّ إلى بلادكم/ن”.

وأوضحت ليلى، مع أنها أظهرت للجارة بطاقتها الوطنية التركية وتحدثت معها باللغة التركية، إلا أنها استمرت في الاعتداء عليها، محاولةً خنقها، قبل تمكنها من الإفلات منها بمساعدة شقيقتها.

وكإجراء قانوني، اتصلت ليلى بشرطة الحي أكثر من ثلاث مرات، لكنهم لم يصلوا إلا بعد مرور ساعة ونصف على وقوع الحادثة، إذ أبلغوها بضرورة إحضار تقرير طبي يثبت وجود إصابات واضحة لتتمكن من تقديم شكوى رسمية، على حد قولها.

وذكرت أنها قررت التنازل عن الادعاء لعدم وجود كدمات على جسدها، لكن تداعيات الحادثة بقيت عالقة في ذاكرتها، وباتت تشعر بالخوف من التعرض لمواقف مماثلة.

وختمت ليلى حديثها بالقول، ” الجنسية التركية منحتني حرية التنقل داخل وخارج الأراضي التركية، إلا أنها لم تحميني من التعرض للعنصرية ولم تمنحني الشعور بالانتماء كبقية المواطنين/ات الأتراك/التركيات”. 

الطلبة السوريين/ات و التمييز العنصري

أفادت الطالبة السورية تولين العمري 16 عاماً، أن الضغط النفسي الذي تعرضت له نتيجة التنمر وغيرة زميلاتها في الصف، دفعها إلى محاولة الانتحار.

وقالت تولين، إنّ مديرة المدرسة اختارتها عريفة للصف بسبب تميزها وتفوقها السريع، برغم الظروف الصعبة التي عاشتها بعد الزلزال في مدينة أنطاكيا، والتي انتقلت على إثره إلى مدينة إسطنبول.

وأوضحت أن بعض زميلاتها كنّ يقللن من شأنها ويصفنها بنبرة مستفزة بـ “سوريالي”، وفي إحدى المرات اتهمنها أمام معلم الصف بالغش، وذلك بعد أن أجابت بشكل صحيح على جميع أسئلة امتحان مادة العلوم، مما دفعها لمحاولة الانتحار والتي على إثرها نُقلت إلى المستشفى وجرى إنقاذها.

ولم يكن الخريج الجامعي جود بمنأى عن العنصرية، إذ أشار إلى أنه لم يتمكن خلال سنوات دراسته الأربع من بناء صداقات مع زملائه/زميلاته الأتراك في الدفعة، لأنهم/ن كانوا/كنّ يستبعدونه/نه بسبب جنسيّته السورية، وفق قوله.

وصرّح جود، أنه كان يشعر بالحماس عندما دخل الجامعة في عامها الأول، وحاول مراراً التعارف والتقرّب من زملائه/زميلاته، لكنه لم يلقَ أي ترحيب منهم/ن، الأمر الذي جعله يشعر بالإحباط الأكاديمي والقلق المستمر خلال العمل معهم/ن على حلقات البحث الجماعية.

وأضاف جود، أنه لم ينسَ الأيام الأولى من دخوله الجامعة، فعندما عرف الأستاذة الجامعية أنه سوري الجنسية قالت له: “أنتم/ن  تدخلون/ن الجامعة دون امتحان قبول، أليس كذلك!”، ثم ضحكت ساخرة في إشارة إلى أن الحكومة تمنح السوريين/ات تسهيلات دراسية دون الحاجة إلى مؤهلات.

 وأردف، أن الأستاذة لم تتح له الفرصة لإخبارها بأنه يحمل شهادة الثانوية العامة وشهادة اليوس، وأنه اجتاز اختباري الرياضيات ومعدل الذكاء قبل أن يحصل على قبوله في الجامعة.

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

تداعيات العنصرية على السوريين/ات

أكدت المستشارة النفسية في تركيا دُرّة العوض، أن للعنصرية تأثيرات عميقة على السوريين والسوريات بشكل خاص، فهي تؤثر على ثقتهم/ن بأنفسهم/ن وبقدراتهم/ن مما ينعكس على تقديرهم/ن لذواتهم/ن، كما قد تؤدي إلى صراعات في العلاقات الشخصية والعائلية، مما يعمق شعورهم/ن بالعزلة والتهميش.

وأشارت أن التعرض للتمييز العنصري قد يؤدي إلى مشاعر مزمنة من الحزن والقلق، مما يزيد من احتمالية ظهور مشاكل نفسية، مثل الاكتئاب واضطرابات النوم والشعور بالتعب المستمر.

كما أن للعنصرية تأثيرات اجتماعية تسهم في إبعاد الرجال والنساء عن المجتمعات التي تعزز شعورهم/هن بالانتماء، كذلك إنها تحد من الفرص المهنية والتعليمية المتاحة لهم/ن، وبالتالي تؤثر سلبًا على استقرارهم/هن المالي والاجتماعي، وفق ما أفادت المستشارة النفسية.

وعن الحلول التي يمكن أن تقلّل من العنصرية وخطاب الكراهية تجاه السوريين والسوريات، شددت المستشارة على أهمية تشجيع المبادرات المجتمعية التي تدعم اللاجئين/ات وتوفر لهم/ن الموارد والفرص للتواصل والتعاون، مما يسهم في تعزيز بيئة أكثر إيجابية واحتواءً لهم/ن.

 

 

الترحيل القسري يفقر النساء السوريات 

“هربت مع أطفالي بعد فقدان زوجي منذ سبع سنوات ولم أشعر بالأمان حتى اليوم”، بهذه العبارة بدأت الأم السورية نورا حديثها، ورغم أنها في منتصف الثلاثينيات إلا أنها كانت ترتجف وكأن الفقد والرحيل يحدث اليوم.

نورا ليست الأم الوحيدة التي اضطرت لمغادرة مسقط رأسها وأسرتها بحثا عن ملاذ آمن دون جدوى، والترحيل القسري يشكل تحدياً كبيرًا للنساء السوريات، حيث أنه يترك تأثيرًا عميقًا على حياتهن خاصة فيما يتعلق بفرص العمل وتأمين الدخل، وتعتمد النساء على وظائف غير رسمية وغير مستقرة لتوفير احتياجاتهن الأساسية، وعندما أُجبرن على العودة القسرية خسرن هذه الفرص المحدودة.

كما أن رحلة الترحيل بحد ذاتها تمثل واحدة من أقسى الانتهاكات الإنسانية التي تعاني منها النساء والتي تكون مليئة بالصعوبات، حيث يتعرضن لمخاطر كبيرة خلال فخ الترحيل والتوقيع القسري، بما في ذلك ظروف السفر غير الإنسانية والتهديدات الجسدية والنفسية. 

عند وصولهن إلى سوريا يواجهن معاناة بين الأمان المفقود والعودة إلى المجهول، وفي تلك البيئة تكون فرص العمل شبه معدومة، مما يزيد من صعوبة تأمين احتياجاتهن الأساسية مثل الغذاء، والمأوى، والرعاية الصحية وغيرها. 

هذا الوضع يضع النساء السوريات في دائرة من الفقر والهشاشة النفسية حيث يجدن أنفسهن عالقات في ظروف لا تتيح لهن تأمين حياة كريمة، مما يزيد من معاناتهن ويضعف قدرتهن على حماية أسرهن.

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

كابوس الترحيل

 نورا وهي أم سورية في منتصف الثلاثينات، روت لنا تجربتها مع الترحيل القسري قائلة: “خرجت مع أطفالي هرباً من الحرب المدمرة في سوريا بعد فقدان زوجي في وسط الصراعات منذ سبع سنوات، خرجت إلى تركيا بحثا عن الأمان بعد فترة طويلة من الآلام التي عشناها على أمل بناء حياة جديدة بعيدة عن القصف والجوع والدمار”.

تحملت الأم السورية مسؤولية إعالة أطفالها منذ وصولها إلى تركيا، حيث بدأت البحث عن عمل حتى تمكنت من العمل في مصنع صغير للخياطة، ورغم التحديات التي واجهتها من ساعات عمل طويلة ولغة جديدة لم تكن تفهمها، إضافة لاضطرارها ترك أطفالها بمفردهم بعد عودتهم من المدرسة، تمكنت من تأمين حياة بسيطة ومستقرة في تركيا لهم في هذا البلد الجديد.

 “في أحد أيام الصيف من عام 2024، قررت أن أصطحب أطفالي إلى حديقة الحي لقضاء بعض الوقت بعيدًا عن هموم الحياة اليومية، كان ذلك يوم عطلتي الوحيد في الأسبوع، قررت الذهاب معهم لمنحهم لحظات من الفرح والسعادة، لكن أثناء تواجدنا والأطفال يمرحون اقترب منا عناصر الشرطة وطلبوا مني إبراز أوراقي فقدمت لهم بطاقة الحماية المؤقتة، على أمل أن يتفهموا وضعي”.

تكمل حديثها : “بدون سابق إنذار، طلب مني الضابط الصعود إلى سيارتهم أنا وأطفالي، عندها شعرت بالخوف لوقوعي في فخ الترحيل، وبالرغم من محاولتي للتحدث معهم وإيضاح وضعي لم يُبدِ الضباط أي تعاطف تجاهي، حيث تم نقلي إلى مركز الترحيل وبعد ساعات قليلة من الاحتجاز طلبوا مني التوقيع على قرار ترحيلي ووضعوني مع عشرات العائلات السورية الأخرى المتجهة نحو الحدود السورية، كانت الرحلة قاسية مليئة بالخوف، حيث كان الجميع يعلم أن العودة إلى سوريا تعني مواجهة المجهول والبداية من الصفر”.

عند وصول الحافلة إلى الحدود السورية، تم إنزال الركاب في منطقة قاحلة وشبه مدمرة، لم يكن هناك أي مأوى أو وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، كانت نورا تشعر بالضياع والخوف من المستقبل، حيث وجدت نفسها وحيدة مع أطفالها دون أي خطة أو موارد للبقاء.

وفي ظل هذه الظروف القاسية، التقت نورا ببعض العائلات التي تم ترحيلها معها في نفس الحافلة، علمت منهم بوجود مخيم قريب، يبعد عدة كيلومترات عن المكان الذي نزلوا فيه ورغم التعب والخوف، قررت نورا الإنضمام إلى هذه العائلات والسير معهم نحو المخيم بحثًا عن مأوى مؤقت.

 “عند وصولنا إلى المخيم صُدمنا بالظروف المأساوية التي يعيش فيها النازحون/ات، كان المخيم مكتظًا والخيام غير كافية للجميع، فيما كانت الموارد الغذائية والمياه نادرة، اضطررت للعيش في خيمة ضيقة مع أطفالي محاولة بكل جهدي توفير ما يمكنني من احتياجاتي الأساسية”.

اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة

أن تعيش في خيمة

تابعت نورا “لم تكن الحياة في المخيم سهلة، فكل يوم يحمل تحديات جديدة وأنا أكافح من أجل تأمين لقمة العيش والسيطرة على المخاوف من المستقبل، كنت دائما أشعر بالقلق المستمر من نقص الموارد والهجمات المحتملة فضلاً عن أنني عالقة في مكان لا يوفر أدنى درجات الأمان، كل هذه التحديات لا تعادل التحدي الأكبر وهو عدم وجود فرص عمل تناسب قدراتي، حيث كانت معظم الأعمال المتاحة غير منتظمة أو ذات أجر منخفض للغاية، ولم تكن الفرص المتاحة تتناسب مع احتياجاتي الأساسية، مما زاد الحياة صعوبة أكثر في تحقيق مصدر دخل ثابت”.

اضطرت نورا للعمل في إحدى الأراضي الزراعية القريبة من المخيم، رغم أنها لم تعمل بمثل هذه الأعمال التي تتطلب جهداً عضلياً في السابق إلا أنها استمرت وتحملت التعب والإرهاق، إضافة إلى أن الأجر الذي تتقاضاه بالكاد يكفي لتلبية احتياجاتها اليومية، وفي نفس الوقت كانت تبحث عن عمل أفضل أو على الأقل أن تستطيع شراء ماكينة خياطة صغيرة تتيح لها تأمين حياة كريمة لأطفالها.

بينما كانت الأم السورية المرحلة تتشارك قصتها مع العائلات الأخرى في المخيم، أدركت أن مصيرهم جميعًا متشابه، تم ترحيلهم من تركيا ليواجهوا واقعًا مريرًا في مخيم مهمل على أطراف وطنهم الذي لم يعد يشبه الوطن، كانت التحديات اليومية تضيف مزيدًا من الألم إلى حياتهم، لكنهم ظلوا متمسكين بأمل ضعيف في مستقبل أفضل.

حياة معدمة

ليست نورا وحدها التي تعاني، بل هناك الكثيرات يتعرضن لمثل هذه الظروف والتحديات، وفاطمة العمر أم محمد إحداهن أيضاً، وهي أم لأربعة أطفال كانت تعيش في تركيا منذ بداية الأزمة السورية منذ حوالي ١٢عاماً، تقول: “عملت عاملة نظافة في إحدى المدارس المحلية لأتمكن من إعالة أطفالي، لكن في حزيران الماضي تم احتجازنا ضمن حملة تفتيش على الأوراق القانونية”.

وأضافت: “ورغم محاولاتي لتوضيح وضعي القانوني تم ترحيلي قسرا إلى شمال سوريا وعند وصولي وجدت نفسي وأطفالي في منطقة تفتقر إلى الفرص الاقتصادية والخدمات الأساسية ولم يكن لدي وسيلة لتأمين الدخل فاضطررت للبحث عن عمل في ظل الظروف القاسية”.

تكمل روايتها “لجأت إلى مخيم للنازحين في ريف إدلب وكان من الصعب العثور على عمل يوفر لعائلتي الحياة الجيدة فقررت أن أعمل في الزراعة الموسمية ولكن الأجر كان زهيدا جدا ولا يكفي لتغطية احتياجاتنا اليومية، لاحقا عملت في تنظيف البيوت داخل المدينة مقابل أجر بسيط إلا أن هذا العمل غير منتظم وغير مستقر”.

وبسبب هذه الظروف، بدأت فاطمة تشعر بالإحباط واليأس، حاولت التواصل مع منظمات إنسانية للحصول على دعمٍ اضافي، ولكن الموارد المتاحة كانت محدودة جدًا، وكانت تعيش تحت ضغطٍ مستمر خوفًا على مستقبل أطفالها الذين كانوا يعانون من سوء التغذية وصعوبات في الالتحاق بالمدارس. 

أما رانية، وهي مهندسة برمجيات من دمشق. هربت من سوريا في عام 2015 بسبب الحرب، واستقرت في إسطنبول حيث وجدت عملًا في شركة تقنية ناشئة، كانت رانية واحدة من القلائل الذين تمكنوا من إيجاد وظيفة في مجال تخصصها بفضل مهاراتها العالية وإتقانها للغة الإنجليزية.

اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة

 “عملت بجد لبناء حياة جديدة، وأصبحت داعمة لعائلتي التي فرقتها الحرب إلى أن تم احتجازي خلال حملة موسعة استهدفت اللاجئين رغم أني أمتلك تصريح إقامة لكن كان قد انتهى منذ مدة قصيرة وتأخرت في تجديده بسبب التعقيدات الإدارية، إلا أني حاولت بشتى الطرق تسوية وضعي القانوني لكن البيروقراطية حالت دون ذلك، وتم ترحيلي قسرا إلى شمال سوريا”.

لكن بعد ترحيلها، وجدت رانية نفسها في مدينة لا تعرفها خالية من فرص العمل، وبدون أي دعم، بدأت في البحث عن عمل يناسب مؤهلاتها، لكنها سرعان ما أدركت أن الواقع مختلف تمامًا لم تكن هناك شركات تقنية، وحتى العمل البسيط كان نادرًا، حاولت الاستفادة من خبرتها في البرمجة من خلال تقديم دروس للأطفال في المخيمات، ولكن العائد كان قليلًا وغير منتظم.

فضلا عن الظروف المعيشية القاسية في تلك المنطقة، مع انعدام الأمن والخدمات الأساسية، جعلت من الصعب عليها مواصلة حياتها بشكل طبيعي فالبنية التحتية التقنية كانت شبه معدومة، ولم تكن هناك إمكانية للعمل عن بُعد نظرًا لانقطاع الكهرباء والإنترنت بشكل مستمر. 

 “رغم محاولاتي المستمرة للتواصل مع زملائي/تي السابقين/ات في إسطنبول للبحث عن فرص عمل عبر الإنترنت، إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل، وتفاقمت حالتي النفسية، وزادت ضغوطات الحياة علي، خاصة مع شعوري بالمسؤولية تجاه عائلتي ولم أعد أستطيع مساعدتهم ماديا كما كنت أفعل من قبل، وبدأت عائلتي تعاني من نقص الموارد الغذائية والطبية”.

فكرت رانية  بالعمل في الزراعة أو في مصانع صغيرة، لكن هذه الأعمال كانت بعيدة كل البعد عن مجال تخصصها، شعرت بأنها خسرت كل ما عملت من أجله في السنوات الماضية، وأصبحت حياتها عبارة عن تحديدات وصعوبات يومية تكاد لا تنتهي.

 

حياة مؤجلة حتى إشعار آخر

لو سألت طفلاً في أي بقعة جغرافية من العالم يمتلك رفاهية الحياة وحقوق الطفولة عن حلمه بالمستقبل القريب، ربما سيخبرك أنه يريد جهازاً لوحياً جديداً أو ربما روبوت آلي يلعب معه أو لربما اختار عجلة أو سيارة كهربائية صغيرة أو التسجيل في نادي للخيل أو السباحة أو تعلم الرسم أو أي حلم آخر.

خيارات كثيرة يمتلكها، ولكن هل تعلم أين تكمن المصيبة الكبرى لدي، حين سألت طفلاً سورياً يقيم في تركيا هذا السؤال ما هو حلمك ؟ 

خوف مستمر

ميَار الطفل ذو الخمسة أعوام والذي هرب من الحرب مع عائلته عندما كان عمره عشرة أشهر وجاء إلى تركيا بطريقة غير شرعية، ومرت سنوات طفولته في غازي عينتاب فهو لا يعرف مدينته كونه هُجر منها قسرياً مع أبناء مدينته، ولا يعرف سورية سوى عن طريق أحاديث أمه عنها والصور المحفوظة في جوالها كي لا ينسى.

اقرأ/ي أيضاً: للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

ميَار يمتلك حلماً بسيطاً وهو من أبسط حقوقه كطفل، حلمه أن يمشي في الشارع نهاراً ويرى الشمس ويذهب للحديقة للعب بكرته في ملعب كرة القدم الموجود فيها ويمر إلى البقالة المجاورة ليشتري البوظة، هذا حلمه المستحيل ببساطة شديدة لأنه سجين منزله منذ أكثر من أسبوعين بسبب حملة الترحيل التي تشهدها المدينة ونظراً لخوف عائلته من الترحيل لم يعد ممكناً الخروج من المنزل. 

 أم ميَار”تغيرت شخصية طفلي خلال هذه الفترة بشكل محزن، فقد أصبح عصبي المزاج، ولا يتناول طعامه كما السابق، وأصبح يمل بسرعة من أي نشاط أحاول أن أمارسه معه حتى أشغل وقته ، ولأننا نعيش استديو وهي شقة صغيرة وضيقة جداً، أراه يتجول بتأفف ويصرخ بوجهي ووجه والده دون سبب واضح سوى أنه ضاق ذرعاً بالبيت”.

لقد شهدت مدينة غازي عينتاب في آواخر الشهر السادس انطلاق حملة ترحيل شديدة، حيث انتشرت سيارات الترحيل بكثرة في شوارع المدينة وتم تفتيش آلاف السوريين/ات الموجودين/ات ضمن المدينة للبحث عن المقيمين/ات غير النظاميين/ات أو من لديهم/ن مشاكل في أوراقهم/ن الرسمية ممن لا يملكون/ن مثلاً عنوان إقامة أو كيمليك عينتاب أو ما يعرف ببطاقة الحماية المؤقتة، وتم ترحيل العديد منهم/ن إما إلى مراكز الترحيل وذلك لإجبارهم/ن على التوقيع على أوراق العودة الطوعية، أو إلى الشمال السوري مباشرةً مما خلق حالة من الرعب والخوف.

قيود مفقودة بلا سبب!

وفقد العديد من السوريين/ات أوراقهم/ن النظامية بسبب إيقاف القيد من قبل دائرة الهجرة من دون أسباب واضحة، وفي الوقت نفسه صعوبة إعادة تفعيلها منع الكثيرين منهم من إعادة تفعيل قيودهم مما حال دون الحصول على الأوراق النظامية، كما تم إبطال إذن العمل لآلاف السوريين/ات وحرمانهم/ن من الحصول على إذن عمل جديد تسبب في مزاولتهم/ن للعمل بطريقة غير قانونية مما يؤدي لترحيلهم/ن في حال ألقي القبض عليهم/ن، هذا ما دفع عشرات العمال/العاملات إلى الاختباء في المنازل وعدم الذهاب للعمل، كل هذه الأمور زادت المعاناة وضاعفت الضغوطات النفسية والمادية.

اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة

غصون امرأة سورية مقيمة في ولاية غازي عنتاب جنوب تركيا “أعيش في تركيا منذ خمس سنوات، كنت أملك أوراق نظامية ولكن تم إيقاف قيدي وحذف نفوسي بدون أي سبب قانوني أو مخالفة مني، وأنا اليوم منذ بداية الحملة حبيسة منزلي بسبب سيارات الترحيل في الشارع الذي أقيم فيه ولم أتمكن من الخروج حتى من أجل شراء الطعام والماء، أشعر بقلق يمنعني حتى من النوم ليلاً وأسأل نفسي مئات المرات في اليوم إلى أين سأذهب.. فكرت في الخروج إلى أوروبا بطريقة غير شرعية وتواصلت مع مهربين  من أجل ذلك، ولكنهم يطلبون مبالغ خيالية تجاوزت سبعة آلاف دولار ولا أملك هذا المبلغ، حين أسودت الدنيا في نظري فكرت في العودة إلى الشمال السوري لأنه الخيار الوحيد المتاح لي، ولكني تراجعت كون الحياة هناك مستحيلة بسبب الظروف المعيشية، كما أن مدينتي تحت سيطرة النظام وقد هُجر أهلها قسرياً منها ودمرها النظام بشكل كامل مما يعني أني سأكون لاجئة أيضاً ولا أملك منزل أو عمل لذلك تراجعت عن قراري ولكن خوفي لا ينتهي”. 

لأنني سورية!

أما سمية وهي أيضا مقيمة في غازي عنتاب تقول: “أعيش في تركيا منذ أكثر من عشر سنوات، وكان أطفالي صغاراً حين جئنا إلى هنا، درسوا في المدارس التركية وتفوقوا، لدي اليوم إثنين من أولادي يدرسون في الجامعة كلية الطب البشري، أفكر دائماً كيف سيكون حالنا في حال تم ترحيلنا؟ وكيف سنبدأ حياتنا من جديد؟”

نشأ أطفال سمية في تركيا وتعلموا اللغة التركية وأتقنوها ولم يتمكنوا من تعلم اللغة العربية، وهي تعيش رعباً حقيقياً من شبح الترحيل الذي قد يحرمهم من أحلامهم ومستقبلهم والعنصرية التي تهدد حياتهم.

تضيف “هل يمكن أن تتحول جنسيتنا إلى جريمة نعاقب عليها لأننا هربنا من بلدنا بسبب الحرب وحتى نتمكن من حماية أرواحنا؟ “

الكثير من القصص للأمهات والنساء السوريات اللواتي يمضين أيامهن في الخوف والرعب من مواجهة التحديات المتعلقة بالوضع المعيشي والقانوني والصحي في تركيا لاسيما في ظل العنصرية المتزايدة.

أم آمنة امرأة سورية مقيمة في غازي عنتاب، مريضة سرطان ومنهكة من آلالامه التي أكلت جسدها منذ ثلاث سنوات وتتلقى العلاج في إحدى مشافي الولاية، تفاجأت حين مراجعة المشفى لتلقي جرعتها أن قيدها قد تم توقيفه ولا يمكنها مواصلة العلاج، مما اضطرها للعودة إلى سوريا حاملة معها مرضاً خبيثاً يفتك بسنواتها الأربعين. 

اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة

تحدثت ابنتها والتي كانت مرافقة لها قائلة: “بذلت جهدي حتى تكون إقامة أمي قانونية وتتابع علاجها كونه غير متوفر في الشمال، كما أننا لا نملك ثمن الجرعات البديلة التي يجب أن تأخذها كل خمسة عشر يوم، طرقت كل الأبواب وتواصلت مع الأطباء والمسؤولين حتى يتم إدخال أمي ثانية لتتلقى علاجها لكن دون فائدة وأنا اليوم لا أملك سوى مراقبتها أمامي وهي تعاني الألم، أراقب موتها وأنا عاجزة عن تقديم أي مساعدة سوى البكاء والدعاء، حتى أمي من شدة وجعها باتت تتمنى الموت حتى ترتاح مما تقاسيه”. 

آلاف القصص والأوجاع والظلم يتعرض لها السوريون/ات في ظل حالة عدم الاستقرار المستمرة. وبعد سنوات طويلة من العيش في تركيا، حيث أسسوا/ن حياتهم/ن، سواء من خلال العمل أو الدراسة أو بناء مشاريعهم الخاصة، تجد اليوم وسائل التواصل الاجتماعي مكتظة بمئات الإعلانات لأشخاص يعرضون/ن ممتلكاتهم/ن للبيع، سعياً للمجازفة بالهرب إلى أوروبا أو العودة إلى سوريا. ورغم أن المستقبل مجهول، إلا أن الخوف من تسليم تلك المناطق الحدودية للنظام يزيد من شعورهم باليأس، حيث يرونه الوجه الآخر للموت.

يبدو أننا كسوريين/ات ممنوعون/ات من الحياة والحرية والأمان والاستقرار.

No tags

للجوء نكهات متعددة.. حكايتي مع المرض والعنصرية!

هل اختبرت/ي يوماً ما معنى أن تكون مريضاً وبحاجة شديدة للدواء، ولا تستطيع الحصول عليه فقط بسبب جنسيتك أو عرقك!! نعم قد يحدث ذلك، وسبق وحدث في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة، واليوم أختبر هذا الشعور بكل تفاصيله، فمنذ عام 2015 وحتى اليوم لم أتمكن من الحصول على الدواء بالشكل المطلوب فقط لأنني سورية وأعيش في تركيا، ومرات قليلة التي حصلت فيها على الدواء ومن نفقتي خاصة، ولكن لم أستطع الاستمرار في تحمل التكاليف.

سأتحدث هنا عن قصتي بشكل خاص، اسمي أمل “اسم مستعار”، أبلغ من العمر 35 عاماً، أعيش في مدينة غازي عنتاب التركية منذ ما يقارب العشر سنوات. شاءت الأقدار أن أصابُ بمرض التصلب اللويحي منذ عام 2011، لأحمل هموم هذا المرض معي وأوجاعه في حقيبة سفري، وأسافر إلى تركيا عام 2013.

يعرف مرض التصلب اللويحي  كأحد أمراض المناعة الذاتية، يهاجم الجهاز المناعي، ويسبب مشكلات في الاتصال بين الدماغ وبقية الجسم. في النهاية، يمكن أن يسبب المرض تلفًا أو تدهورًا دائماً في الألياف العصبية. تختلف مؤشرات التصلب اللويحي أو المتعدد وأعراضه اختلافاً كبيراً من مريض/ة لآخر/ى بناءً على موضع تلف الألياف العصبية وشدته في الجهاز العصبي المركزي. وحتى لحظة كتابتي لهذه المقالة لا يتوفر علاج شافٍ تماماً للتصلب اللويحي، لكن هناك علاجات تساعد في سرعة التعافي من نوباته وتعديل مسار المرض والسيطرة على أعراضه.

وابتدى المشوار

عندما أتيت إلى مدينة غازي عنتاب التركية عام 2013، كانت وضعي  الصحي نوعاً ما مستقر، وظننت أنني شفيت من المرض، ريثما تكررت وظهرت أعراضه مرة أخرى عام 2015 أي بعد مرور عامين، إذ عجزت على تحريك أطرافي اليسرى مع الشعور الدائم بوجود ما يشبه التيارات الكهربائية تسير في العمود الفقري.

كان لابد من أن أخضع مباشرة للعلاج لكي لا تتفاقم حالتي الصحية، وهنا كانت الطامة الكبرى، إذ تعتبر تكاليف العلاج غالية، ففي أحد المرات سمعت طبيباً سورياً يقول على سبيل المزاح “مرض التصلب هو مرض الأكابر لأنو تكاليف علاجو كتير غالية”.

بالإضافة لما سبق ومن أجل استقرار وضعي الطبي والصحي، من المهم توفر إمكانية الحصول على الدواء المناسب، وأحد هذه العلاجات هو “إلا باجيو”، ويعتبر من الأدوية المكلفة وغالية الثمن، ويتوجب من أجل السيطرة على المرض، الحصول على الدواء بشكل مستمر، وقد تمتد فترة العلاج لسنوات. 

في تلك الفترة كنت بلا أي وثائق رسمية، أتحمل تكاليف علاجي على نفقتي في المشافي الخاصة، وهنا كنت أمام خيارين وهما: إما أن أستمر في تحمل تكاليف علاجي على حسابي الخاص، وهذا سيكون مرهقاً بالنسبة لي ودخلي لا يسمح بأن أتحمل هذه التكاليف، أو أن أحصل عليه بشكل مجاني في حال كنت أحمل بطاقة الحماية المؤقتة “الكمليك”، بحيث أستطيع من خلاله الحصول على الدواء بشكل مجاني ودائم. ولكن هل كان الأمر بهذه السهولة!

إن الحصول على بطاقة الكمليك في مدينة غازي عنتاب أشبه بالسير في طريق من الألغام، وأغلب الذين يعيشن/ون في عنتاب يعرفن/ون مدى صعوبة الحصول على الكمليك، سيما في ظل العنصرية الممارسة من قبل إدارة الهجرة التركية على السوريات/ين في كثير من الأحيان، ورفض منحهم/ن كمليك الحماية المؤقتة وأحيانا لا يعطونهن/م  مواعيد من أجل إصدار الكمليك أو بحجة أن السستم معطل “سستم يوك”.

بعد جهد جهيد توصلت من خلال أحد الأصدقاء لرجل لديه معارف في إدارة الهجرة، وأخيراً تمكنت من حجز موعد  في إدارة الهجرة بعد شهرين من إصابتي بالمرض، وذلك من أجل الحصول على الكمليك. ولكن هل لك أن تتخيل/ي ما معنى الانتظار لمدة شهرين بينما يأكل المرض من جسدك مع تفاقم حاجتك للدواء.

كنت في تلك الفترة كمن يسابق الزمن ريثما حصلت على بطاقة الكمليك، نظرت لهذه البطاقة لاحقاً وأنا أسأل نفسي أنه أليس من حقنا الطبيعي أن يكون لدينا وثائق رسمية، وأن نحصل على العلاج المناسب، إلى أي مدى نحن السوريين/ات محرومين/ات حتى من هذه الحقوق، لنجد أنفسنا نتحمل التعب والمشقة، وندفع المبالغ الطائلة فقط لكي نحصل على أبسط حقوقنا. 

رحلة بألف صفعة

بعد حصولي على الكملك توجهت مباشرة لإحدى المشافي الحكومية في مدينة عنتاب، وتدعى مشفى “أرسين أرسلان” من أجل البدء بإجراءات الحصول على الدواء، إذ لابد من أن تصدر الوصفة الطبية “الرشيتا” من قبل المشافي الحكومية، لكي يتم الحصول على الدواء بشكل مجاني.

بعد  فتح سجل طبي لي في هذه المشفى و أخذ موعد من الدكتور المختص، الذي كان حينها رئيس قسم العصبية في المشفى، كانت لدي بوادر أمل في أنني سأتمكن أخيراً من الحصول على الدواء، غير أنني تفاجأت عندما قال الطبيب لي وبعد فحصي: ” يتوفر نوعين للدواء.. واحد منهم عبارة عن حب والآخر عبارة عن إبر.. وعلى اعتبار أنك سورية.. فما رح وافق على صرف الحب لك وإنما فقط سأصف لك الأبر.. ولو كنتي تركية كانت التعامل معك اختلف.. والحبوب فقط منصفها للأتراك اللي متلنا!”

كلام الطبيب كان بالنسبة لي كمن صفعني على وجهي، لم أعرف ماذا أرد من خلال لغتي التركية الضعيفة، صمت وشعرت أن الكلام يختنق في صدري، بدأت أتخيل حجم الألم الذي سأعيشه في حال كان علي أخذ العلاج بالإبر، هذا يعني الحقن المستمر، وكذلك تحمل مزيد من الألم نتيجة الوخز المستمر، مما يولد شعوراً بالتخشب، وظهور بقع زرقاء في جسمي. 

لم يكن لدي حيلة هنا سوى البكاء، فلا يكفيني أنني أتحمل المرض وأعراضه، ولكن علي أيضاً أن أتحمل العنصرية، وكأننا نحن السوريون/ات لا نشعر بألم وخز الأبر، وإنما فقط الأتراك حسب اعتقاد الطبيب. بعد التفكير بكلامه لم أكن قادرة على فعل شيء، فغادرت المشفى رافضة  العلاج بالأبر. 

اقرأ/ي أيضاً: العيش في عنق الزجاجة

يفضل لأنك سورية ما تحبلي

من المعروف أو الشائع طبياً أن مرض التصلب اللويحي يصيب النساء أكثر من الرجال، وذلك بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات مقارنةً بالرجال. فهذا المرض الذي ربما يمكن وصفه بأنه متحيزاً جنسياً، لا يؤثر على الصحة الإنجابية للنساء بشكل مباشر، ولكن العلاجات التي تتلقاها النساء المصابات تؤثر على صحة الجنين في حال يردن أن يحملن ويرزقن بأطفال.

في المرات القليلة التي تلقيت فيها العلاج وبعد عدة محاولات، قررت أنا وزوجي أن نرزق بطفل، وكنت مدركة أن  من مخاطر دواء “الأباجيو” الذي أتلقاه  يؤثر على الحمل، وعلى صحة الجنين، ومن أجل ذلك حجزت موعداً لمقابلة طبيب آخر في مشفى “أرسين أرسلان” لكي أشرح له أنني أخطط للحمل،  عله يرشدني أو يصف لي العلاج البديل ريثما يتم الحمل والإنجاب.

كنت برفقة مترجمة عندما قابلت الطبيب، كنت أتمنى أن يقوم بفحصي والتأكد من حالتي الصحية، ومن ثم يقوم بدوره كطبيب ويصف لي الدواء المناسب.

شرحت المترجمة للدكتور حالتي، فرد الطبيب ببضع كلمات دون حتى أن يقوم بفحصي، حيث رفض ذلك وقال لي: “يعني سورية وبدك تحبلي عنا هون بتركيا.. وكم ولد ناوية تجيبي إنت الثانية.. يفضل ما تحبلي”، بدى الانفعال على وجه المترجمة وهي تجادله، وبعدما احتد النقاش بينهما، نهضت المترجمة وأمرتني بحركة السريعة أن نتحرك ونخرج من الغرفة، حيث رفض الطبيب تماماً  أن يصف لي الدواء البديل.

قررت لاحقاً ومن تلقاء نفسي أن أتوقف عن تناول “الأباجيو” ورغم خطورة هذا القرار على صحتي، كان همي أن أرزق بطفل وأن أصبح أماً.

إنتي سورية؟

في عام 2023 عاود مرض التصلب اللويحي الظهور ثانية في جسمي، مع ظهور انتكاسته المماثلة، من قبيل عدم القدرة على تحريك الأطراف اليسرى مع شعور بالتنميل المستمر بكامل الجسم، والإحساس بالتيارات الكهربائية تسير على طول العمود الفقري. 

أدى الزلزال الذي ضرب تركيا عام 2022 أن تتصدع مشفى “أرسين أرسلان” وافتتاح مشفى جديدة في غازي عنتاب اسمها مشفى “شهير”،ذهبت إلى المشفى متأملة أن  أحصل على الدواء هذه المرة، وهنا قابلت طبيباً وربما هذه المرة الأولى التي يبتسم الحظ لي في رحلة الحصول على العلاج، حيث كان متعاطفاً مع حالتي الطبية، وقد أبدى اهتماماً شديداً بملفي الطبي. ومن أجل وصف العلاج المناسب لي، طلب إجراء مجموعة تحاليل من ضمنها تحليل “الرنين المغناطيسي”.  ولكن هل يعقل أن يسير الأمر على أكمل وجه دون أن أواجه أي عقبات تتعلق بعنصرية بعض الأتراك!

كانت التحاليل التي طلبها الطبيب تتوفر بشكل مجاني للسوريين/ات من حملة بطاقة الكمليك ضمن المشفى، وبالفعل توجهت لغرفة الأشعة على أمل أن أجري التحليل المطلوب، عادة ما يطلب من المرضى أن لا يرتدون أي ملابس بها أي معادن بما في ذلك حمالات الصدر ذات الإطارات المعدنية، في أثناء إجراء صورة الرنين المغناطيسي.

عندما دخلت إلى الغرفة طلبت من الممرضة أن تعطيني الثوب الذي يعطى للمرضى خلال التصوير عادة، لكي أتمكن من خلع حمالة الصدر الخاصة بي. تفاجئت بسؤال الممرضة”هل أنت سورية”، كان من الواضح من لغتي التركية الضعيفة أنني لست تركية، وبعد أن أجبتها بنعم، طلبت مني الانتظار، لاحظت لاحقاً أنها سمحت لجميع الأتراك أن يدخلوا/ن قبلي، رغم أنني أتيت في الموعد المناسب، فضلت أن ألتزم الصمت، بينما لم يتبق سوى أنا ورجل سوري آخر ننتظر دورنا.

توجهت مرة أخرى للمرضة وبلغتي التركية وبالاستعانة بالمترجم “غوغل” شرحت لها أنني أرتدي حمالة صدر غير مناسبة وأريد الثوب قبل الدخول إلى أسطوانة الجهاز.

انفجرت الممرضة بالصوت العالي لأفهم منها أنها ترفض إعطائي الثوب وطلبت مني مباشرة الدخول الإسطوانة بوضعي الحالي، فتحت تلفوني مجدداً وترجمت عن طريق “غوغل” أنه خطر علي ولا يتوجب علي أن أدخل بملابسي.

عادت الممرضة لتتحدث بلكنة تركية سريعة لم أفهم منها ولا كلمة، من ثم أدارت ظهرها ورفضت التحدث معي مجدداً، وحاولت من خلال صديق معي على الهاتف ويتحدث التركية بطريقة جيدة أن يتكلم معها علها تفهم طلبي، فما كان منها أن انفجرت مرة أخرى في وجهي وفهمت أنها ستطلب الأمن لي، بالطبع عندما نقول طلب الأمن أو الشرطة في تركيا، فهذا يعني مصير السوري/ة هو الترحيل. ففضلت السكوت مجدداً ومجدداً.

اقرأ/ي أيضاً: إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة

اللجوء ليس رفاهية

ما لمسته طوال سنوات من معاناتي مع مرض التصلب اللويحي في المشافي التركية في مدينة غازي عنتاب، أنه أحياناً يرفض الأطباء أو حتى الممرضين/ات إعطاءنا الدواء أو توفير أي فرص للعلاج على مبدأ، أنه كيف للسوريين/ات أن يتلقوا العلاج في بلادنا، مواطنينا الأتراك أولى منهم، فليرجعوا/ن إلى بلدهم ويتلقوا/ن العلاج هناك.

في إحدى المرات وأثناء ما كنت أنتظر دوري في مشفى “أرسين أرسلان”، جاء إلي طبيب تركي، وتحدث معي بالإنجليزية، وأخبرني أن بعض الأتراك ونتيجة للدعاية المضادة ضد  السوري/ات في تركيا، تشكلت لديهم قناعات أن معظم السوريين/ات أغنياء، ويتلقون الدعم المالي من الحكومة التركية، ومن أجل ذلك يرفضون/ن الأتراك أحيانا توفير العلاج لهم/ن بشكل مجاني أو يحاولون/ن أن يضعوا/ن العصي في الدواليب..

على مدى سنوات والأكاذيب والدعايات المضادة تتراكم ضدنا نحن السوريين/ات، ليظهر أن اللجوء السوري في تركيا هو عبارة عن مجرد رحلة ورفاهية في عيون بعض الأتراك.

ما تحدثت عنه سابقاً هو عبارة عن غيض من فيض أو مقتطفات سريعة من رحلة ما زلت أعيشها في سبيل الحصول على الدواء بشكل مجاني، ومستمر، مع إحساسي الدائم بالخوف من  المرض وأسقط في أي لحظة وأصبح عاجزة عن السير أو الحركة.

إذن السفر فرق شمل أم وابنتها الوحيدة

في عام 2019، وجدت نفسي أمام قرار لم يكن سهلاً على الإطلاق، ولكنه كان الخيار الوحيد المتاح وهو الفرار من سوريا لأن الحرب سرقت مني الكثير، أرهقت جسدي وروحي، وجعلت حياتي وحياة ابنتي الوحيدة سلسلة من الألم والخوف. تعرضت ابنتي لإصابتين،الأولى برصاصة اخترقت رجلها، والثانية تسببت بفقدان أحد أصابع يدها. لم يكن هناك أمان في الأفق، فكان الهرب هو السبيل الوحيد.

تركيا بدت لنا كملاذ آمن في البداية، لكن سرعان ما تحول هذا الأمل إلى واقع مرير. منذ لحظة وصولنا، بدأت في مواجهة سلسلة جديدة من التحديات والصعوبات. قوانين صارمة، فصل قسري، وتمييز يومي كان يثقل كاهلي ويجعل حياتي أصعب مما كانت عليه في سوريا.

منذ البداية، كان الفصل القسري بيني وبين ابنتي هو الجرح الأكبر. حصلت على كيمليك ولاية أنقرة، بينما حصلت ابنتي على كيمليك إسطنبول. هذا الفصل بيني وبين ابنتي كان بمثابة بداية لمعاناة طويلة لم تنته بعد. رغم محاولاتي المستمرة في تقديم طلبات لم الشمل، إلا أن القوانين الصارمة رفضت ذلك.

كنت أعيش قلقاً دائماً بشأن سلامة ابنتي وشوقاً دائماً لرؤيتها. بعد فشلي في طلبات لم الشمل، قررت أخذ إذن سفر لولاية إسطنبول لرؤية ابنتي والاطمئنان عليها. كانوا دائماً يواجهونني بالرفض. أتوسل إليهم وأبكي بحرقة شديدة: “إنها ابنتي الوحيدة، ليس لدينا أحد سوى بعضنا”. لكنهم يرفضون. أطأطئ رأسي من الخذلان وأبكي، لا أريد أن يراني أحد. أشعر أنني في معتقل، أعيش أنا وابنتي في دولة واحدة، ولكن هناك آلاف الحدود والحواجز التي تمنعني من رؤيتها. قررت أن أذهب إلى ابنتي وأعيش معها دون تصريح سفر.

كانت حياتي اليومية مليئة بالقلق والخوف. كل خطوة خارج المنزل محفوفة بالمخاطر. ملابسي كانت تعكس كوني لاجئة سورية، مما جعلني هدفاً للتمييز. في إحدى المرات، بينما كنت في طريقي إلى الطبيب، تعرضت لأزمة صحية حادة نتيجة هبوط ضغط مفاجئ. طلبت من أحد الركاب أن يفتح النافذة ليدخل الهواء، فكان ردة فعلهم أن أوقفوا الحافلة ورموني في منتصف الطريق وأنا على وشك الإغماء. هذا الحادث المؤلم دفعني لاتخاذ قرار صعب بخلع حجابي للحفاظ على سلامتي، وبعد خلع حجابي، كان دائماً لدي خوف من معرفة الناس هويتي. أصبحت خرساء، لا أتكلم اللغة العربية خوفاً من اكتشافهم أنني سورية.

اقرأ/ي أيضاً:العيش في عنق الزجاجة

في إحدى المرات، كنت ذاهبة إلى السوق لأحضر بعض الخضروات. كنت أتكلم بالهاتف، ففاجأتني فتاة تركض مسرعة باتجاهي وبيدها عصا وضربتني بقوة. لم أعرف ماذا يجري، نظرت إليها كانت تتكلم وتصرخ “إذهبي إلى بلادك” وبعد هذا الموقف بقيت فترة طويلة سجينة في المنزل، خائفة من الخروج بسبب العنصرية. كل يوم كان موقفاً جديداً وجرحاً جديداً وألماً جديداً.

الخوف من السلطات جزء لا يتجزأ من حياتي اليومية. لم أكن قادرة على العمل بشكل قانوني بسبب القيود المفروضة، مما اضطرني للعمل بطرق غير قانونية للبقاء على قيد الحياة. الخوف من الترحيل كان يلاحقني دائماً كظلي. حتى في أحلامي كان يلاحقني. أصبحت أستيقظ مرهقة من الخوف، بدأت أدخل في حالات أرق لا أستطيع النوم من الخوف لكي لا أرى الشرطة في أحلامي. كنت أتوقع كل يوم أن يتم القبض علي كأنني مجرمة وترحيلي من تركيا، مما جعل حياتي مليئة بالخوف والقلق المستمر.

التمييز لم يكن مقتصراً على المواقف العامة فقط، بل امتد ليشمل جميع جوانب حياتي. من رفض العمل الرسمي إلى صعوبة تعلم اللغة التركية. حتى أصبحت محاصرة بين جدران العزلة والخوف. كنت أعيش وحيدة. منزلي الذي يجب أن يكون مصدر أمان، أصبح سجناً انفرادياً. في كل مرة يدق جرس الباب، أركض لأختبئ في الخزانة من الخوف. قلبي يخفق بسرعة كأنه يريد أن يكسر قفصي الصدري ويخرج من شدة الألم. تأتي ابنتي إلي مسرعة لتحتضنني كأنني أنا طفلتها وتبكي وتقول لي: “لا تخافي، لن يحدث شيء، أنا معك”.

أعاني من نقص الدعم الاجتماعي والنفسي. كل يوم كان يمر يزيد شعوري بالعزلة واليأس. كما يقولون: “الذي يخاف من العفريت، يطلعله”. في يوم من الأيام، تشجعت للخروج لتغيير الجو لأنني لم أعد أحتمل ضغط التفكير. قررت الذهاب إلى المقهى لشرب القهوة، وأنا في الطريق، أوقفني البوليس ليسألني إذا كان لدي كيمليك. أجبت نعم، فقال لي: “أعطني إياه لأراه”. يريد أن يتحقق من هويتي. أقسم أن قدماي من الرجفة لم تعد تحملاني. قلت: “لا أريد أن أعطيك إياه”. فأخذني إلى مركز الترحيل. حين دخلت، شعرت بصفير في أذني وكأنه بدأ العد التنازلي، فكرت كثيراً ماذا علي أن أفعل، وما كان علي إلا أن أتفاوض معهم لدفع مبلغ ليتركونني أذهب. دفعت المبلغ المطلوب وخرجت إلى المنزل.

قصتي مجرد جزء صغير من حكايات أكبر تعبر عن معاناة العديد من اللاجئين السوريين في تركيا.

واحدة من أصعب التحديات التي نواجهها كلاجئات/ين هي القيود الصارمة على التنقل داخل تركيا. نحن نعيش في سجن كبير، لا يسمح لنا بالانتقال بحرية بين الولايات دون إذن سفر، مما يزيد من معاناتنا ويعزلنا عن أحبائنا. حتى عندما نحاول الحصول على إذن سفر لرؤية عائلتنا، نجد الأبواب مغلقة أمامنا.

كما أن السعي للحصول على اللجوء في دول أخرى هو رحلة محفوفة بالصعوبات. على الرغم من أن الوضع في تركيا لا يطاق، إلا أن القوانين والإجراءات المعقدة تجعل من الصعب علينا الانتقال إلى مكان يمكننا أن نشعر فيه بالأمان والاستقرار. الأمل في العثور على ملاذ آمن يبدو بعيد المنال، ولكننا نظل متمسكات/ت به كالنور الذي يضيء لنا طريقنا في الظلام.

العيش في عنق الزجاجة

مضى عشرة أيام وأنا أمكث في المنزل، خطر لي أن أجازف وأقوم بشراء مستلزمات منزلي بنفسي على الرغم من أنني عادة أقوم بشرائها وطلبها أونلاين. قبل أن أتخذ قرار النزول إلى الشارع، تطلب مني الأمر الكثير من التفكير قرابة الثلاث ساعات وبعدها نزلت. حينها كانت الصدمة التي سببت لي الكثير من القلق والتوتر والخوف. كانت الساعة حينها تقارب الثانية ظهراً، حيث بدت الشوارع فارغة من السيارات التي تحمل أرقام السوريين والأجانب، وفي مثل هذا الوقت عادة تكون الشوارع وحركة المرور مكتظة نوعاً ما.

ذهبت لشراء الدواء من الصيدلية القريبة من منزلي. كان يوجد في داخلها رجلان وامرأة، وهي نفسها الصيدلانية التي باعتني الدواء. شعرت للحظة بأنهم يتهامسون عني بصوت منخفض بمعنى تُرجم إليّ “لعمى شو وقحة سورية وطالعة من بيتها”. بعدها دفعت ما ترتب علي من ثمن الدواء وقلت للصيدلانية “teşekkür ederim” شكراً لك، لكنها رفضت الرد على تشكري لها ووضعت النقود في الجارور وأدارت ظهرها لي.

خرجت لاستكمال شراء باقي المستلزمات ووصلت إلى شراء بعض الفواكه من إحدى المتاجر التركية التي دائماً أشتري منها. عندما اقتربت من موظفة المحاسبة، حدقت بي وكأنها تستغرب من خروجي من المنزل، وحينها قررت أن أعود أدراجي إلى منزلي. وقفت أنتظر إشارة المرور ليصبح لونها أخضر لكي أتمكن من العبور إلى الطرف الآخر. فجأة، كان جميع سائقي السيارات الذين كانوا أغلبيتهم من الشعب التركي، يحدقون بي طويلاً واكتشفوا بأنني سورية على الرغم من أنني كنت قد غيرت شكل حجابي السوري إلى الشكل التركي. حينها عاد بي الزمن وتذكرت نصائح بعض الصديقات والأصدقاء لي بأن أغير زي لباسي وحجابي السوري إلى الزي التركي ليتماهى مع تواجدي هنا. كان ذلك لحظة وصولي إلى تركيا لم أكن أعلم آنذاك أن نصائحهم لي كانت تصب في محلها.

وفي اليوم التالي تشجعت وخرجت إلى خارج منزلي. كان الوضع لا يزال محتقن ومخيف، كان القليل من السوريات/ين خارج منازلهن/م لأسباب اضطرارية جعلتهن/م يجازفون بالخروج. بعد عدة خطوات قليلة عن منزلي، تفاجأت بامرأة تركية في العقد الخامس من العمر مشت بجانبي وأسدلت نظارتها الطبية عن عينيها وتمعنت بي وتمتمت بعبارة كلها شتائم لي. استطعت ترجمتها من خلال تعابير وجهها الذي بدت عليه ملامح الغضب والاشمئزاز مني وسألتني ذلك السؤال العنصري الذي أصبح من البديهيات والمسلمات: “? Suriyeli misin” هل أنت سورية؟

لم أكترث لذلك الموقف من الخارج، لكن امتلأني شعور بالحزن والخيبة من الداخل ورفضت مواجهتها خشية على نفسي ولكي لا يحتد ويتصعد النقاش بيننا. لكنني أجبت على سؤالها بيني وبين نفسي: “Evet Suriyeliyim” نعم أنا سورية. يا للسخرية أن تصبح جنسيتنا وصمة اجتماعية نخشى من ذكرها خاصة في تركيا.

كل تلك المواقف حصلت لي هنا حيث أعيش في مدينة غازي عينتاب التركية التي ساقني إليها القدر بعد رحلة تهجيري القسرية من سوريا منذ عام 2018. ومن هنا سوف أكتب بلسان حالي عن هذه المدينة التي لا أخفي حبي لها. هذه المدينة التي شعرت بشيء من الانتماء والحنين لها خاصة عندما ابتعدت عنها حين حصلت كارثة الزلزال المدمر في بعض الولايات التركية والمدن السورية بتاريخ 6 شباط/ 2023. أشبهها تارة لمدينة دمشق حيث كنت هناك، والبعض من صديقاتي وأصدقائي يقولون لي إنها تشبه جداً مدينة حلب التي لم أزرها قط.

لم يعد الأمر يقتصر على حيازتي أوراقي الثبوتية عند خروجي من المنزل فحسب، لكنني بت أخشى حتى من السير في طرقات المدينة خوفاً من أن أتعرض إلى هجوم مباشر من قبل إحدى الشبان الأتراك وإيذائي بالضرب أو الأسلحة كما يحدث في أغلب الحالات عندما تتصاعد وتيرة العنصرية. أتكلم اللغة العربية بشكل منخفض جداً في الطرقات وأماكن التجمعات والأسواق وحتى في منزلي أيضاً، وأقوم بكتم صوت التلفاز خشية من أن يسمعه جيراني الأتراك تفادياً لوقوع المشاكل والاحتكاك المباشر معهم.

حاولت كثيراً أن أكتب سابقاً عما كنت أشعر به خلال فترة كارثة الزلزال ربما لأن الوضع آنذاك كان عاماً، لكن الوضع اليوم هو خاص نعم خاص جداً.

عن أي حماية يتحدثون؟!

تعرضنا للعنصرية والكراهية والرفض من البلدان التي لجأنا إليها لا سيما العربية منها. إنه ليس بالأمر الجديد علينا، إنما هي أفعال ومشاعر اعتدنا على مواجهتها سابقاً وحتى الآن، خاصة في كل من تركيا ولبنان بشكل يفوق التوقع. لا يخفى على أحد ما هو خطاب الكراهية والعنصرية. هو خطاب يشير إلى الإيذاء النفسي وممارسة التمييز حسب اللون والعرق والدين ورفض الآخر والتعامل معه بغير إنسانية. هو خطاب تعريفه شائع على محركات البحث.

أغلبية السوريات/ين المتواجدات/ين في تركيا مشمولات/ين ببطاقة الحماية المؤقتة “الكملك” التي تشكل قيوداً جمة منها منع السفر لغير ولاية تركية إلا عندما يتم تقديم طلب إذن السفر من خلال إدارة الهجرة بشكل شخصي أو من خلال بوابة الحكومة الإلكترونية “e-Devlet” والتي أغلب الطلبات تأتي بالرفض، خاصة للولايات السياحية منها ولاية اسطنبول. والبعض الآخر من السوريات/ين لديهن/م أوراق ثبوتية الإقامات السياحية والطلابية والعائلية، ويالا كثرة تسمياتها. إلا أن الظلم والقهر يشملنا جميعاً دون استثناء هنا.

يصدر في تركيا قرابة كل شهر على الأقل قرار وتعميم وقانون جديد يخصنا ويضيّق علينا الحياة أكثر مما هي ضيقة بالأساس. القوانين التي تقيد تحركاتنا وتواجدنا، ومن أبشع ما تعرضنا له هنا مؤخراً خلال هذا الشهر أيضاً/تموز، تسريب معلوماتنا وبياناتنا الشخصية والتي تتضمن أرقام T.C (الرقم الوطني) وعنوان المنزل ورقم الهاتف من خلال طفل تركي لا يتجاوز عمره الرابعة عشر عاماً، بحسب ما صدر وتداوله الإعلام التركي والعربي والمحلي. الأمر الذي استباح وانتهك خصوصيتنا التي باتت في متناول أيدي الجميع وكأنها معروضة للبيع على طاولة ضمن الأسواق الشعبية.

نناصر بعضنا البعض، والبعض القليل يناصرنا

كانت أحداث العنصرية متسارعة جداً في بعض الولايات التركية وبعض مناطق الشمال السوري، خاصة بعد حادثة ولاية قيصري التي حدثت في بداية الشهر الحالي/تموز من هذا العام، والتي ولدت انفجاراً من الكره والحقد الدفين من قبل أغلبية الشعب التركي ضدنا.

لعل كل ما تم كتابته وتدوينه وتوثيقه عن الحالة السورية سابقاً من قصف وتهجير ونزوح وانتهاكات منذ عام 2010 لم يقنع العالم برمته عما حدث ويحدث لنا حتى هذه اللحظة. لم نعد نستغرب حين يتم غض الأبصار عن جميع الانتهاكات والقهر والظلم الواقع علينا ومعاناتنا التي لم تنته بعد. وكما يقال: “لسا الخير لقدام”، وهو قول شعبي متداول كثيراً يعبر عن الكناية لحدوث أمر سيء. هذا القول الذي دائماً نتفوه به عند حصول أي مشكلة، هو ليس خير لكنه شر مقدر ومحتوم علينا. لا ننكر بأن معاناتنا لم تعد تشكل للمجتمعات الأخرى أي اهتمام يُذكر كما السابق لأن ما حل بنا جعل أغلب الدول الأوروبية والعربية بشكل خاص تشعر بالملل من أخبارنا والرفض لنا ولتواجدنا على أراضيها، حيث يتم تداول أخبارنا المريرة لمدة يومين أو أسبوع واحد كحد أقصى من أجل السبق الصحفي والحديث الآني وتصدر التريند. وبعدها تغيب التغطيات الإعلامية وحملات المناصرة وكأنها فقاعة من الصابون طارت في الهواء وسرعان ما فقعت.

نقوم بالتضامن والمساندة والدعم لبعضنا البعض نحن بنات وأبناء الجلدة الواحدة والبلد الواحد عند حدوث أي انتهاك أو أي موقف عنصري. وكما يقال “مكة أدرى بشعابها”، لذلك وكما جرت العادة بدأت حملات المناصرة بعد هذه الأحداث العصيبة للغاية من خلال بعض المؤسسات والمنظمات النسوية والمجتمع المدني السورية وأيضاً من خلال بعض الناشطات/ين العاملات/ين في السياق النسوي والسوري من خلال حساباتهن/م الشخصية. حيث تصدر الإعلان عن حملة #sesyok-سجن كبير على وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على الأحداث الأخيرة في تركيا. هذه الحملة التي تم تداولها بشكل لافت في وكالات الإعلام المحلية “الإعلام البديل” وبعض وكالات الإعلام العربية وشارك بها أيضاً بعض الناشطات/ين الأتراك. هذه الحملة التي تشير إلى وضع اليد على الفم بمعنى لا يوجد صوت.

وكما سارعت منظمة النساء الآن للتنمية وخصصت منشورات لهذه الحملة عبر صفحاتها حيث تقوم بنشرها حتى اليوم من أجل التضامن والمناصرة مع الأحداث الحالية وعدم تجاهلها.

عندما قرأت عبارة “سجن كبير” عاد إلى مخيلتي كارثة الزلزال التي أجبرنا على أثرها إلى النزوح إلى ولايات تركية لم تتأثر به. حينها ذهبت إلى مدينة إسطنبول التي زرتها مرتين خلال تواجدي في تركيا. حيث سُمح لي في المرة الأولى من زيارتي لها بالبقاء لمدة يومين فقط بعد ما استخرجت إذن سفر. وكانت المرة الثانية عندما حدثت كارثة الزلزال المدمر، حينها كان الوضع كارثياً وسُمح للسوريات/ين في الولايات المتضررة الحاصلات/ين على بطاقة الحماية المؤقتة باستخراج إذن سفر من الولاية التي تم السفر إليها. وخلال تواجدي الأخير في ولاية إسطنبول طلبت من أقربائي أن يأخذونني إلى منطقة أورتاكوي المطلة على البوسفور. فقلت لهم حينها: “يمكن ما أقدر زور اسطنبول مرة تانية”، وبالفعل إلى حد الآن لم أستطع السفر إليها لأننا حقاً نحن نقبع في سجن كبير.

وكما شاركت ونشرت النساء الآن أيضاً نصائح لتجنب الهجمات العنصرية وأساليب وطرق الحماية من أجل توخي الحذر، خاصة لمن يعيشون ويواجهون العنصرية في تركيا في الفترة الأخيرة.

ومع ازدياد وتيرة التصعيد العنصري في تركيا، تم الإعلان عن وقفات احتجاجية أمام السفارات التركية بتاريخ 6 تموز الشهر الحالي من هذا العام في بعض من الدول الأوروبية، منها فرنسا وبرلين، من أجل لفت الأنظار وتسليط الضوء عما يحدث ومن أجل تخفيف وطأة العنصرية والتوقف عن الأفعال والممارسات غير الإنسانية.

طرقات الموت والنجاة

أتابع ما يكتب ويتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة حول هذه الحملة الأمنية الأخيرة في تركيا. حيث باتت معظم أخبار السوريات/ين تدور حول إعلانات لبيع أثاث المنازل وطرق اللجوء سواء بطريقة نظامية أم غير شرعية وأي بلد تستقبلنا وتتوفر فيها ضمانات الحياة والعيش الكريم، والسؤال حول أسعار الفيزا والإقامات وغيرها من الأمور المتعلقة بالخلاص. لن أتحدث هنا حول معاناة وصعوبة استخراج وتجديد وتصديق جواز السفر السوري لأنها معضلة من نوع آخر.

نحن شعب عاش تجارب الترحال والنزوح والتهجير. لم نملك الخيار بأماكن تواجدنا الجغرافي، خاصة بعد جريمة التهجير القسري التي حصلت في معظم مناطق سوريا. ولعل أكثر ما يحزن أن نسمع بأن السوريات/ين منتشرات/ين في بقاع الأرض قاطبة، منهن/م من تتفاوت شدة نجاتهن/م أكثر من البقية في بلاد اللجوء وقوانينها ونظمها. ولعل أكثر ما يؤرق أماننا في تركيا حالياً هو أننا نعيش فعلاً في عنق الزجاجة.

كم من حادثة لجوء أليمة أدت إلى فقدان سوريات/ين أردن الهرب واللجوء إلى البلدان الأوروبية والعربية بحثاً عن الأمان الإنساني والاجتماعي والقانوني والسلام والاستقرار. كم ابتلع البحر منهن/م، كم تاهت طرقهن/م في الغابات الحدودية؟! ويضاف إلى تلك المآسي مؤخراً انتشار خبر موت اثني عشر سورياً ومن بينهم أطفال لقوا حتفهم من العطش في الصحراء الجزائرية بسبب تعطل سيارتهم في منتصف هذا الشهر الحالي/تموز.

يوجد بيننا وبين الأمان ملايين المسافات والحدود. هل يحق لنا أن نحلم بتلك المدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفيلسوف أفلاطون أم هي فعلاً من وهم الخيال؟ هل سوف نأوي ونستقر في مكان يحفظ ويصون لنا كرامتنا؟ هل سوف تتحول خطابات العنصرية والكراهية ضدنا يوماً ما إلى كلام يحتوينا؟! كلها أسئلة مشروعة نبحث عن إجابتها في كل يوم.

لم أتوقف عن سماع أغنية آمال مثلوثي طيلة تدويني وكتابتي لهذه المادة. هذه الأغنية التي أشعر وكأنها أُلفت ولحنت لنا والتي تصف مشاعرنا.

أكتب اليوم وأنا متجردة من اسمي ومن لقبي ومن توصيفي المهني، كيف لا وقد تم تجريدنا من هوياتنا وأرضنا وانتمائنا. ولعل أكثر ما يؤلم أن نكتب بأسماء غير أسمائنا وأن نطمسها ونبهمها ونستبدلها بأسماء مستعارة بسبب الخوف الذي لا يزال يقيد حرية تعبيرنا عن واقعنا ومعاناتنا. ولأننا نحلم بحياة أفضل لنا، لذلك سوف أستبدل اسمي الصريح باسم حياة ليكتب على هذه المادة.