مرارة الأيام السورية

عانيت معه الكثير، من الفقر والحرمان والظلم. لم تحمل أيامي معه سوى العذاب، وكثيراً من الترحال، فمن قرية زوجي إلى الشام إلى حلب إلى دير الزور إلى الرقة. لا أدري إن كنت نسيت محطة من المحطات. تراءت أمام عيني تلك الأيام الماضية، وكأن سنوات وجودي على قيد الحياة انطوت بلحظات، وراحت ذاكرتي تجول في أيام عمري الطويل.
منذ الصغر، أرى ظلم الحياة لي، لم أكن من الأوائل في المدرسة، ولكن ربما لو أكملت دراستي لأصبحت مدرّسة أو حتى خريجة معهد. ولكن في الصف السابع حرموني من المدرسة لأني كبرت بشكلي لا بعقلي. ارتديت الحجاب، وأصبح صعباً علي إكمال دراستي.
لم اكترث كثيراً بما جرى، بل فرحت لكوني أصبحت كبيرة، سأتزوج، ومن مسؤولياتي تنظيف المنزل والغسل والطهي وهلم جراً. كنت في الـ 18 من عمري حين تقدم إبن صديق أبي لخطبتي، وكان نصيبي.

أنجبت أربعة أطفال، ليكون أكبرهم ضحية صاروخ ألقته طائرة على طريق حلب، قضى مع 3 من أبناء عمومته وكان عمه الناجي الوحيد من بين الخمسة الذين كانوا في السيارة. وقع الخبر علي كان كالصاعقة أدت بي إلى الانهيار.
أوقات عصيبة مرت علي عند فقدي لأبني، كان في الـ 15 من عمره. أباه كان يظلمه المرة تلو المرة، ظلم زوجي لولده أدخله بحالات نفسية أشبه بالاكتئاب.
مرت السنة الأولى علي بحزن كان يطرد حتى الإبتسامة. ثم تسارعت الاحداث، كثرت خلافاتي مع زوجي حيناً ومع أهله أحياناً أخرى. وبعد بضعة أشهر أمضيتها في القرية، انتقلت مع زوجي إلى إدلب، ازدادت مشاكلي مع زوجي، الذي لم أكن أذكر منه سوى الظلم والألم والحرمان.
صاعقة ثانية أصابتني، وأقضت مضجعي، زوجي تزوج من امرأة أخرى. ربما هي من كان سبب إصابتي بجلطة. أسعفوني إلى المشفى. وبعد عدة أيام عادت إلي حياتي، التي كنت أدعو عليها بالانتهاء، واللحاق بطفلي الذي حرق أحشائي حزناً وألماً.
وبدأت معاناة جديدة، لم أكن أغار على زوجي، الذي ملأ حياتي تعاسة وفقراً، ولكن كنت نادمة على تلك الأيام، التي قضيتها برفقة رجل، لا يستحق مني سوى الرفض. وأكثر ما كان يمزق أفكاري، تلك المعاملة التي حظيت بها زوجته الجديدة، وانا التي كنت احلم بنثرات منها، خلال مسيرة عشرين عاما معه.
كان أكثر ما يخنقني أن ما حرمت منه أصبح مباحا لها، لماذا؟ لأنها فقط تملك مالاً؟ هذا ما راود تفكيري، وما لمسته بيدي.
ازدادت المشاكل، وكبر حلمي بالإنفصال عنه، بعد تلك السنوات من الصبر والقهر، وطلبت الطلاق. وكان لي ما أردت، ظنًّا منّي أننى أستطيع العيش من دونه، ولكن الذي جرى هو انني حكمت على نفسي بالضياع أكثر.
لم اكن لأستطيع العيش مع طفليّ من دون معيل. ولم يكن لدي ما يسد رمقنا، ولم يكن حال أهلي بأحسن من حالي. وتأرجحت بذهني تلك المصائب، محاولة إفقادي لصوابي. وأخذت ادور على مبرر يعيدني الى كنف زوجي، لا حبا فيه ولكن طمعاً بالأمان المادي لي ولأسرتي من التشرد، والحاجة. ومع مرور الأيام، كانت تضيق فسحة الامل، وتزداد تعقيدا.
حرمني من أطفالي، وعدت وحيدة أقاسم أهلي مرارة العيش، وأصبحنا ثلاثة أرامل، في بيت لا يتسع الا لأحزاننا، ضاقت بي الدنيا، وضاقت نفسي حتى انفجرت، وأخذت قرار العودتي إلى الحياة الزوجية، مع شخص آخر، عله يبدد ذلك الظلم عني.
ولكن يا ترى من يتزوج امرأة بعمر الأربعين! نعم هناك من اتزوجه، مهاجر يقبل بكل من يقبل به، لم يمض كثير من الزمان، حتى تزوجت من رجل أزبيكي، لا يجيد العربية، ووجدت عنده من الحنان، ما لم اجده عند من كنت اكلمه بملء قلبي عن الحب والسعادة. وجدت في نظراته ولهفته، ما لم أحلم به من زوجي الأول.
كنت أعلم ان السعادة عدوة لي، كنت أنظر إلى أيامي هذه، وأخاف ان تهرب مني فعلا، حتى آن لها الهروب. جرت محاولات كثيرة لاغتيال أولئك المهاجرين، فبدأوا بالانسحاب من حياتنا واحداً تلو الآخر. وزوجي الثاني في لحظة كان معي وفي الأخرى عاد إلى وطنه، وتركني لمصيري الذي لم اعهد منه إلّا الظلم والحرمان.
ترى أنا هنا اليوم، وغدا ماذا سيجري، ليت الأيام تنبئني بما سيأتي، او ربما ليتني أعلم موعد أجلي. لن أكون إلّا كما يجب ان يكون من آمن بالله، وعلم أنها دنيا بلاء. سأبحث من جديد، عن أمل يعيد إليّ رمقاً اقتات به ما تبقى لي من حياة.
يمامة أسعد (40 عاماً) متزوجة وأم لـ 3 أبناء تعيش مع زوجها في إدلب تدرس وتعمل في مجال الصحافة.

 

نشرت القصة سابقاً على موقع   حكايات سورية

No tags

أم الفوشيا و سر أغنية “ابعتلي جواب”

ثلاث غرف صغيرة ، غرفة في المنتصف ، الحمَام والمطبخ متلاصقين ، والبلكون في غرفة الجلوس حيث تجلس العائلة وسؤالنا كان: كيف لسناء أن تلتقي بحسام تحت الدرج في مدخل بنايتها بمساعدتي دون أن نشعر بذلك أحد ؟

قصف وقنابل ورصاص، عمليّات كرّ وفرّ وصياح ، تراجع وتقدّم وصراخ ، ونحن نمسك بقلم الشفاه “الفوشيا” ونفكّر في جواب لهذا السؤال ..

فكّرنا مليّاَ ومليَاَ وأعدنا التفكير عبثاَ، ثم بدأنا بالطبخ .كانت عائلتانا جائعتين وهناك ربطة خبز واحدة وعلبتا “اندومي” وتسع قطع من البطاطا وعلبة زيت قلي . قشّرتُ البطاطا وسناء جهّزت المقلاة على الغاز الأرضي في زاوية بين الحمّام والمطبخ ، هي الزاوية الوحيدة التي يوجد بها تغطية في البيت كلّه ، وبدأنا القلي : ” يعني كيف بدو يجي اليوم وين ؟وشلون ؟ كنك مجنونة؟ انقتلتي عليه هلق ؟” ” مابعرف المهم اليوم حنلتقي الساعة عشرة بلليل اتفقنا ” .

في هذه المرة حملتُ في حقيبة نزوحي لبيتها هويتي وأوراقي و قلم شفاهي باللون ” الفوشيا “، لون الحياة كما قال حسام عندما رأى سناء تضعه يوما ، وأسماها منذ ذلك الحين ” أم الفوشيا ” ، وهي كلما رأت حبيبها يجب أن تضع هذا اللون ، وللأمانة كان الفوشيا يليق بسناء جدّا لأنه يمتزج مع لون شفاهها فيجعل منها فتاة حسناء بالغة الجمال وبالغة البراءة .

أصبحت البطاطا والاندومي جاهزتين للأكل ، و ما لبثتُ أن قلت : ” يالله عالأكل ” حتى اجتمع 15 نفرا فالطعام محدود خصوصاَ أن أفران الخبز مغلقة منذ يومين بعد أن فرّ أغلب الناس نتيجة ضربة ” الميغ ” ، إلا أن الأفران عادت للعمل في اليوم الخامس حينما فُتح الطريق وخرجنا ..

انتهى الأكل سريعا ، فخطر في بالي أن افتح اللابتوب المشحون الموجود في المنزل ، حملته وذهبت إلى الغرفة المتوسّطة .اشتدّت وتيرة القتال خارجاَ ،صوت مزعج للغاية دفعني لأن أفتح ملف الصوت الوحيد في اللابتوب ” حفلة صباح فخري جار القمر ” .ثم : جاءنا الوحي : سناء ستذهب بعد قليل لترى حسام على أنَها في الحمَام وأنا سأبقى أجلس في هذه الغرفة بين باب المنزل وباب الحمّام وإذا ما جاء أحدهم ليرى ماذا نفعل سيكون كل شيء محبكاً . وستكون كلمة السر ” ابعتلي جواب ” حينما أشغّل هذا المقطع يجب لسناء أن تعود فورا ..

جرى هذا الاتفاق أيضاً مع حسام ، حيث أنَه قبل أن يأتي، عليه أن يرسل رسالة على الهاتف المحمول ” ابعتلي جواب ” ، وبالفعل بعد قليل من الوقت أرسلها .

لا وقت لنضيّعه ركضنا بقرب المرآة ، و عيّنتُ ضوء الفلاش على شفاه سناء ، وضعت سناء اللون الفوشيا وأنا رفعت صوت صباح فخري لأتمكّن من فتح الباب ، فتحتُ الباب وركضت سناء .

صوت المدافع مخيف وصوت أبو سناء مخيف أيضا حين جاء راكضا ليطمئن علينا : ” انتو مناح ؟ وين سناء ، سناء منيحة ؟” ” اي ، اي ، سناء عم تتحمم؟ ” “و فاتحة صباح فخري عمي بدل ما تستغفري ربك؟” وذهب .

” استغفر الله العظيم ، الله لا يوفقك يا سناء ، الله لا يسامحك يا صباح فخري ؟ ” 28 دقيقة من الانتظار والخوف من فشل المهمّة وأخيرا صدح صوت صباح فخري ” ابعتلي جواب “، فتحت الباب وبدأت الغناء معه ” ابعتلي جواب ، ابعتلي جواب يا سناء ، ابعتلي جوااب وطمني ” ، وأخيرا ردت سناء الجواب .

زاد صوت القذائف ، غنَينا وغنَينا وصدحنا الصوت ، وضحكنا لنجاحنا .

حسام الآن مصيره مجهول لسبب ما وسناء بقيت تحتفظ برقمه وترسل له في كل مرة منذ 2013 ” ابعتلي جواب وطمني ” عبثاً , وأنا أرسل لسناء البعيدة جدا الآن ، سناء التي يفصل بيني وبينها قارتين و آلاف الكيلو مترات وحواجز ” ابعتلي جواب وطمنَي “.

 

القصة مأخوذة من مدونة سرد الرابط الأصلي

No tags

شهادات من السويداء

هذا النص أمانة منقولة عن لسان الناجين ممن حضروا المعارك وعن نشامى الكادر الطبي في مشافي السويداء الوطنية الثلاث يوم الأربعاء الدامي 25 تموز 2018.

صحا سكان السويداء المدينة فجر ذلك الأربعاء على صوت انفجارات أربعة متزامنة في سوق الخضرة وقرب ساحة المشنقة ودوار نجمة وحي المسلخ، أعقبتها القيامة كما بعد كل انفجار، وألهت الأهالي عما كان يحدث في ريف السويداء الشرقي.

في توقيت التفجير ذاته واجه ريف السويداء الشرقي مصيره مع مجازر متواقتة، بتدبير أعداء الأديان والإنسانية والحضارة، في تخطيطٍ شيطانيّ يبدو أنّه تم التحضير له عبر وقتٍ طويل، ليكون الخطة البديلة في حال رفض الأهالي تسليم سلاحهم وأبنائهم الفارين من الجيش إلى السلطة، وفي حال رفض الأهالي أن يتبرؤوا من (رجال الكرامة) باعتبارهم (تنظيماً إرهابياً) وهو ما حصل فعلاً أن رفضوا حين ساومهم الوفد الروسيّ عليه قبل أيامٍ ثلاثةٍ فقط، جاء الهجوم بعدها على قرى: (دوما، تيما، طربا، الكسيب، رامي، غيظة حمايل، الشبكي، الشريحي).

هذي القرى هي الأكثر فقراً بين قرى السويداء الفقيرة أصلاً، (قد تكون قرية رامي استثناءً من بينها، اشتغل كثير من رجالها في الكويت وتجاوزوا خط الفقر). كانوا في الحياة مهمشين، تجرحهم الحاجة والظلم المزمن في مناخٍ صعب المراس لا يفي بوصفه سوى المثل الشعبي في السويداء: (لولا حب الوطن قتال كانت بلاد السوء خراب..)، أفنى شبابهم أعمارهم في لبنان أو ليبيا وعادوا إليها بعجزٍ يسبق أعمارهم بعقدٍ من السنين على الأقل، يشتغلون في الأرض والكروم، يعودون منها منهكين، يغتسلون ويأكلون لقمة مغموسة بالبركة، وباكرا ينامون، وظلوا في أحداث سوريا كلها بعيدين عن أي اصطفاف.

نامت هذي القرى ليلتها السابقة على سكينتها المعتادة، حيث ليس في محيطها أية إشارات أو إنذارٍ بخطر محتمل. كان قسم من الأهالي قد سلموا سلاحهم للسلطة المحلية على وعد الأمان بأن الجيش (الوطني) متمركزٌ على التخوم الشرقية لمحافظة السويداء وهو الكفيل بحمايتها. بينما كان هذا الشرق مشرعاً تماما منذ تم سحب جماعات (الدفاع الوطني) إلى معارك درعا في حزيران الماضي.

قبل الفجر باغتهم مسلحو داعش، وصلوا بسيارات الدفع الرباعي في وقت واحد إلى مداخل هذه القرى، ركنوها ونزلوا منها بأسلحتهم الفردية وأحزمتهم الناسفة، توزع القناصون على المشارف وانطلق الباقون مشياً واثقاً نحو بيوتٍ اختاروها بدقةٍ من بين بيوت القرية، مكشوفة تماماً أو واطئة السور، دخلوها بطريقة واحدة: ينادي أحدهم صاحب البيت باسمه، يفتح صاحب البيت باب مضافته مؤهلاً بـ (الضيف)، يجيبه (الضيف) بسكينٍ في الصدر أو برصاصة عاجلة، ويعبر فوق دمه إلى غرف البيت، وبالسكين يذبح (فعلاً لا مجازاً) الزوجة والأولاد، ويترك من بين الأولاد شاهداً ليرى ويروي.

معظم الضحايا قُتلوا في الدقائق الأولى قبل أن تفيق باقي البيوت على صوت الرصاص وتخرج للفزعة بسكاكين البيت وما توفر من سلاح فردي، أو لتهرب. أطلق الدواعش النار على تجمعات الناس العشوائية، ومنهم من فجّر نفسه بعدها ليُكمل قناص داعش على من نجا من الأهالي.

قرية الشبكي ذات البيوت المتباعدة نالت نصيبها الأفظع، سيقت النساء والأطفال إلى باحة المدرسة وحبسوا فيها، والأهالي يقفون مذهولين وعاجزين عن التقدم لإنقاذ أسراهم حين القناص بالمرصاد، يصطادهم واحداً واحداَ بكل يسر. وصلت الفزعة من قرية سعنة القريبة يتقدّمها شيخان مسنّان يصيحان: (يا غيرة الدين..)، كما في لحظة الحشر تنشب عقيدةٌ خارقة من صندوقٍ يتوارى عميقاً في وجدانهم الجمعيّ من أزمان أجدادهم، إيمانهم بأن الموت حقٌ وواجب أيضاً إن لم يكن سواه فداء حقٍّ في الحياة الكريمة دون أذى لا منه ولا عليه.

هجموا نحو المدرسة على غير تفكيرٍ أو احتراس. ربما أربكوا القناص وحفّزوا شباب بلدة الشبكي ليهجموا خلفهم خجلين من شجاعة الشيوخ. (وما يزال الحديث على لسان الرواة من أرض معركة بالسلاح الأبيض، بعجاج حربٍ يحاكي معارك العصور القديمة). حاولوا استعادة أقرب بيت إليهم واستطاعوا، ولم يستطيعوا الدخول الى المدرسة إلا نحو الرابعة ظهراً حين وصل رجال الكرامة ومعهم آر بي جي وقتلوا القناص حارس رهائن المدرسة وحرروا أسراها وبدأ رجال داعش ينسحبون بتغطية من القناصة، يجرّون معهم نساءً أسيرات.

قناص واحد قتل وحده 30 شخصاً في إحدى القرى. في داما تمّ قتل 18 رجلاً في18 بيتاً في وقت واحد. في إحدى القرى استدلّوا على الراعي (الدلّال) الذي أعطى قيادات داعش أسماء أصحاب البيوت في القرى وقتلوه.

بعض الجرحى نزفوا من الصباح حتى المساء وما استطاع أحدٌ إيصالهم إلى المشفى. في أحد بيوت الشبكي حملت امرأة تقارب الثمانين البارودة المعلقة في بيتها وبها قتلت مُقاتِلَين من داعش وأصابوها بطلقةٍ غير قاتلة ونجت. امرأة شابة من الشبكي أم لطفلتين، كانت وحدها في بيتها، لم تجرؤ أن تفتح الباب، فتحت شباك الغرفة الخلفية المفضي إلى حاكورة البيت، رمت نفسها منها وهي تحمل ابنتيها، وزحفت بهما طويلا، ونجت معهما. في قرية رامي قيدوا يدي أحد الشيوخ إلى ظهره، ضربوه وسيّروه أمامهم درعاً بشرياً فلم يستطع رجال القرية إطلاق الرصاص خوفاً من إصابة الشيخ. شيخٌ آخر من قرية رامي ترك تسجيلا على هاتفه الجوال: (أنا استشهدت، يا عنود ديري بالك على الأولاد، وابري ذمتي إذا كان حدا الو دين عليّ). شبابٌ كثر سيّرتهم شجاعتهم النادرة وإيمانهم الخاص والصامت، واستشهدوا هادئين رزينين حتى وهم يتصدرون القتال. طفلةٌ عمرها 15 سنة كانت تنام ليلتها تلك في بيت عمها، تلقت رصاصة في بطنها وأُنقذت في المشفى وهي لا تعرف أنّ أهلها جميعهم قُتلوا في بيتهم بعيداً عنها. ضابطٌ في الجيش سيخبرونه قريباً أن زوجته وأولاده جميعاً قُتلوا بينما هو في مناوبته في موقع قطعته العسكرية في دمشق.

أحد الشباب المقاتلين وصل إلى المشفى برصاصة نفذت من البطن إلى الحوض، جلس ينتظر دوره في العمليات حيث جميع الغرف مشغولة، يسيل الدم تحته وهو يبتسم، يضمده الممرض وهو يبتسم، يقول بوهن: (شو يعني ما عاد بقدر جيب أولاد؟)، يبدأ بالارتجاف من شدة النزف الداخلي ولا يقول: آخ، أبداً، لن يختبر نفسه إن كان ما يزال يستطيع الإنجاب لأنه سيموت وهو يبتسم.. شابٌ آخر تلقّى رصاصة هتكت كتفه الأيمن وأخرى أقل خطراً من الأولى في الكتف الشمال، كأنه لا يدري حجم إصابته، ولا يعرف أنه لم يبق لديه مكانٌ لتعليق البارودة بينما ما يزال يلحّ: (لفولي إيدي بشي أي ضماد، بدي ارجع دافع..).

الأطباء الذين أعطوا هذه الشهادات رفضوا أن تذكر أسماؤهم وأنهم ببساطةٍ ما كان لهم أن يكونوا غير ما كانوا. اشتغلوا لساعاتٍ طويلةٍ ومريرة دون استراحة أو طعام، شغلوا غرفة العمليات الثلاث طوال النهار، معظم المرضى الذين وصلوا احياء ظلوا أحياء بفضل الإسعاف أو الجراحة.

اشتغل الكادر الطبي في المشافي قابضاً على دمه. لم يكن يحرس مشفى سالي الذي وصله القتلى والجرحى بالعشرات سوى حارس واحد ببارودة روسية. تخوّف الأطباء من هجوم انتحاري مثلا على المشفى الذي يبعد مسافة 3 كم فقط عن قرية رامي التي كانت مسرح معركة، ولم تصلهم ولو دورية حراسة.

لم تصل إلى المشافي إصابة عسكرية واحدة. لم يحضر الجيش، لم يشارك الجيش في المعارك. لولا قتال الأهالي لوصل الدواعش خلال ساعات إلى (ساحة السير) قلب السويداء المدينة. وصلت الفزعة من كثيرٍ من قرى جبل العرب ومن ريف الشام ومن جبل الشيخ ولم يصل الجيش. حضر إلى المعارك كل من يستطيع بدءاً من الشيوخ الختايرة بذقونهم البيضاء الطويلة وصولاً إلى أفتى الشباب.

كان رجال الكرامة منظمين في عملهم، قاتلوا فقط ليحموا أرضهم، لأجل كرامتهم، لا لأجل منصب في الدنيا، ولا هم المبشّرون ولا المستتيبون الناس ولا الدعاة لاعتناق عقيدتهم، ولا الطامعون بجنة ولا حور عين ولا ثواب ولا عقاب.. هؤلاء سوريون مسالمون مشروعهم الانتماء إلى سوريا، وحماية النفس وعدم الأذى، ويعرفون أن دورهم الوطني لا يأتي إلا في مكانه وفي أوانه، وأنه مشروطٌ بعدم الانصياع إلى أي مشروع ديني أو أن يكونوا أذناباً لأحد، وعليه فهم يعرفون أن دور عقابهم كان سيأتي في يوم مثل هذا اليوم. قابلوه بعقل وبشجاعة، قاتلوا في المعارك، نقلوا الجرحى إلى المشافي بأدب، دون انفعال، دون استعراض، يحملون موتى إصاباتهم كلها كانت في الصدر لا في الظهر، ويحملون جرحى بإصابات خطيرة، يؤمّنون عليهم في المشفى ويعودون سريعاً إلى المعارك في القرى فيما بعض المقاتلين جرحى حقاً بجروح خفيفة لا تعيقهم عن مواصلة القتال.

انمحى حس الخوف عند الناس، قاتلوا بثبات، فقدوا أسرهم كلها أو أفراداً منها ولم يخرجوا عن هدوئهم، ولم يولولوا، ظلوا مصرين على إخلاء الجرحى وإنقاذ من يمكن إنقاذه ولم يقولوا: آخ..

هي إنسانيتهم الموروثة، وهو إيمانهم الخاص الذي لن يكون ضده أي عاقل.

كثيرون ممن كانوا ذوي سلوكٍ مشبوهٍ أو محكم السوء، من جماعة العصابات التي نمت وسط الفلتان في سنين الحرب، ركنوا إجرامهم جانباً، ولو لحين، وقاتلوا من أجل الأرض، ووصل منهم موتى وجرحى إلى المشفى.

على قلة الموارد والسلاح كانت الشجاعة هي الحاضرة. معظم الضحايا غُدِروا في الساعات الأولى قبل أن تصل النجدات من باقي القرى، لو كانوا على توقّعٍ لما حصل، ولو سمح لهم سلاحهم بالدفاع عن أنفسهم لما مات كثيرون.

عدد الجثث التي وصلت إلى المشفى من قتلى داعش وصل إلى حدود السبعين جثة، وجدت حبوب الكبتاغون وأشباهها في جيوبهم، وكانت هويات كثيرة عليها قيد النفوس في مخيم اليرموك.

ربما هذه هي المرة الأولى التي يوثّق فيها تسليم جثث لرجالٍ من تنظيم داعش من بين هجماتهم السابقة الكثيرة على مناطق جغرافية سورية عديدة. عدد القتلى من داعش يفوق عدد الجثث الموثقة، ذلك أن رجالاً يلبسون البدلة المموهة حضروا وقت المعارك إلى القرى ليسجلوا لأنفسهم حضوراً باسم الجيش، وتبين أنهم يريدون فقط إخراج جثث الدواعش من الأرض وتسليمها إلى الأمن، وسحبوا فعلاً أكثر من جثة قبل أن ينتبه الرجال المقاتلون، وتكفّلت جماعة الأمن والمازوت بنصب بعض الرؤوس المقطوعة على مقدمة السيارات، ساروا بها في مواكب وسط الهتاف والزمامير مستعرضين في مواكب عبر شوارع المدينة وقرى الريف، بينما المقاتلون الحقيقيون كانوا هناك على أراضي قراهم.

في هذا الوقت الذي يطغى فيه الغضب على الحزن، فهمت شرائح كثيرة من الناس قذارة اللعبة وبدأت تعيد حساباتها، ارتفعتْ أصواتٌ من المكلومين بأسرهم وبإصاباتهم، فضلاً عن أصوات العاقلين الذين لن تخلو منهم الأرض، تطالب بألا تحدث ردود فعل ضد البدو وضد باقي السوريين النازحين إلى السويداء من باقي المدن السورية، يكون الأهالي عقلانيين متوازنين كما هم شجعان، كما هو تاريخ الدروز في المحن.

لا ينسى الناس، ولن ينسوا حرارة التعاطف العفوي والصادق والكثير الذي لاقوه أفراداً وجماعات كأزرٍ من أبناء المدن السورية كافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنهم معهم قلباً صادقاً ويداً ليست بقادرة على مدّ السند بعد أعوام من النكبات التي طالت كل بيت، وأعوام من دموع ما تزال حارقة. هذا التعاطف الذي يكفي ليحيي ويشدّ الأزر ويبعث في الجميع روح الأمل أن الناس وحدهم يحملون همّ الناس.

المقال من موقع بوابة

الرابط الأصلي

No tags

لنساء الغوطة الشرقية.. سنبقى نتذكر قصصكن

عندما نتحدث عن الغوطة الشرقية أيام الحصار، سيتذكر العديد منا ما قامت به النساء، من ناشطات ومحاميات وطبيبات وعاملات في الشأن العام، في سبيل توصيل أصواتهن ونقل ما كان يحصل في الغوطة الشرقية، سيما في الأشهر الأخيرة، وفي ظل الهجمة العسكرية التي شنها النظام السوري وحلفاؤه الروس، واستخدامهم كافة الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً ضد أهالي الغوطة.
كان من الملفت إصرار العديد من النساء على نقل الواقع في ظل الحصار والقصف المتواصل وعدم توفر الانترنت إلا بشق الأنفس، وكأنهن أصبحن مراسلات حربيات إن صح التعبير، يستخدمن أدوات وبرامج بسيطة مثل “الواتس آب والماسجنر والتوتير” في سبيل نقل الواقع أو من خلال الكتابة للمواقع الإلكترونية والمدونات، بالإضافة للتواصل مع الصحفيين والإعلاميين والناشطين والحقوقيين بهدف تسليط الضوء على مجريات الأحداث في الغوطة الشرقية ووضع المدنيين بشكل عام، إذ بلغ عددهم قبيل اقتحام النظام السوري للغوطة ما يقارب 400 ألف مدني وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
ربما قد يستغرب البعض لماذا أكتب اليوم عن الغوطة الشرقية بعدما سيطر النظام السوري عليها وهُجّر معظم أهلها، ولكن من الضروري أن نواصل توثيق ما حدث حتى لا تضيع جهود النساء سُدىً، تلك النساء اللواتي خاطرن بحياتهن لكي يستطعن فقط الاتصال بالإنترنت وإرسال رسائل صوتية أو تنزيل منشورعلى الفيس بوك لنقل واقع الحياة اليومية في الغوطة. أكتب هذه المادة أيضاً كي تحفظ الذاكرة السورية الواقع الذي عاشه المدنيون في ظل اشتداد الهجمات العسكرية آنذاك والتهجير الذي أعقب ذلك، وواقعهم اليومي في الأقبية التي لم تكن مخدمة ولا ترتقي لأن تتناسب مع أدنى الاحتياجات الإنسانية، إذ يكفي أن تشكل الملاجئ وحدها انتهاكات بحق الإنسانية عندما يجبر أهالي الغوطة للنزول والمكوث بها هرباً من الموت.

نحن شعب لا يعدم وسيلة
هبة (اسم مستعار) من أهالي الغوطة الشرقية، عمرها 35 عاماً، كانت تعمل مع إحدى المنظمات الإنسانية، وقد تعرضت للتهجير من منطقتها وانتقلت للعيش في شمال سوريا، تؤكد أن الكثير من الناس أبدوا استغرابهم كيف يمكن لأهالي الغوطة الشرقية استعمال الإنترنت في ظل الحصار، وتتابع: “يسألني الناس أنه كيف أنتم محاصرين بس عندكم انترنت.. ودائماً أجاوب أنه نحن شعب لا نعدم الوسيلة.”
استخدم أهالي الغوطة في فترة الحصار أجهزة تعمل على التقاط الإنترنت من أبراج البث الرئيسية أو من خلال تركيب الإنترنت الفضائي، واستخدام أجهزة تدعى “النانو” وهو مقوي لشبكة الـ WiFi، وكثيراً ما تعرضت هذه الأجهزة للقصف من قبل النظام السوري، بالإضافة لانتشار بطاقات الإنترنت، التي تُوفرها أجهزة النت الفضائية، وتكون لديها حزمة واسعة من الانترنت.
كما عمدت النساء إلى اللجوء لمقاهي الإنترنت التي توفرت في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يخلُ من مضايقات كمحاولات كتيبة الحسبة التابعة لجيش الإسلام منع النساء من دخول مقاهي الانترنت التي شكلت مُتنفساً لهن خلال عام 2015.

المخاطرة بحياتهن لنقل الواقع
هل لك أن تتخيل نفسك وأنت تقف على حافة الطريق تسمع صوت الطائرة، وهي تحلق فوق رأسك وأصوات القصف لا تهدأ، ومن الممكن بأي لحظة أن تسقط القذيفة فوق رأسك، ومع ذلك تحاول أن تلتقط شبكة الإنترنت بهدف إرسال تسجيل صوتي عبر “الواتس أب” أو تنتظر الثواني تحت القصف لكي يعطيك “الفيس بوك” إشارة بأنه قد تم نشر “البوست” الخاص بك!
هذا ما كانت ليلى البكري، والتي تبلغ من العمر 26 عاماً متزوجة ولديها طفلة عمرها سنتين ونصف، تشعر به في كل مرة كانت تغادر القبو، وتخرج للشارع بهدف التقاط الإنترنت وتقول: “في مرة كنت عم حاول شبك على النت وكان في قصف راجمة صواريخ.. أثناء ذلك نادتني بنتي.. واضطريت روح لعندها.. فنزلت القذيفة ناح البيت واتهدم جزء من بيتي وصار في كتير ضرر.. كان الفرق بيني وبين القذيفة ثواني معدودة.. كنت رح إتصاوب.” انتقلت ليلى للعيش مع طفلتها في إحدى الملاجئ، وتمكنت من تحويل صفحتها الشخصية على “الفيس بوك” إلى منبر تنقل عبره إحساسها ومشاعرها المختلطة وخوفها، وواقع العيش في الملاجئ، وجعلت من يتابع صفحتها يستنشق معها رائحة الرطوبة هناك، وكثيراً ما نشرت قصص تتحدث عن مشاعر طفلتها وخوفها من القصف وطريقة فهمها للأمور.
ليست ليلى وحدها من حولت صفحتها الشخصية لمنصة تنقل واقع الناس في الغوطة الشرقية، بل لجأت العديد من النساء لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي لنقل مجريات الهجمات العسكرية وأحوال المدنيين في الملاجئ والأقبية، بالمقابل دأبت العديد من الصفحات المتنوعة سيما التابعة للمجتمع المدني في مشاركة المنشورات وترجمتها لعدة لغات بما يخلق الفرص لنقل منشوراتهن بشكل أوسع، وتقول ليلى:
“حسيت أنه بدي اكتب يللي عم يصير وما لازم نسكت عنه.. فبداية كتبت بوست صغير عن الشي يللي عم حسه أنا وبنتي في ظل القصف والحصار.. وقعدة الملجأ يللي العالم ماكان يستوعب أو يفهم شو يعني أقبية.. بدأت بالفترة الأخيرة اكتب عن شعوري وشو عم يصير حولي في الأقبية وأوصف للعالم يللي برا شو يعني قصف وطيران.. وشو يعني تمشي أثناء القصف وتنتقل من بيت لبيت وظروف القبو وكيف كنا عايشين وكيف كنا نطبخ وشو عم ناكل.. حاولت أعطي صورة كاملة عن يللي عم يصير معنا.. لقيت كتير تفاعل على منشوراتي وكان كتير بيسعدني بهداك الوقت.. وبيعطيني دفع لحتى كمل..”

كما حاولت ليلى أن تنقل واقع النساء في الملاجئ الذين شعرن أنهن وحيدات، فشرحت لهن أن الانترنت هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تساعدهن في توصيل أصواتهن، وعدم السكوت عن انتهاكات النظام السوري حسب قولها. وكانت ليلى قبل أن تخرج للشارع لالتقاط الانترنت توصي والدتها بطفلتها للاعتناء بها في حال تعرضت لأي مكروه حيث لطالما شعرت أنها ستتعرض للإصابة أو الموت.
أما بالنسبة لهبة فقد لجأت لاستخدام تطبيق “الواتس أب” من خلال إرسال التسجيلات الصوتية للمنظمة التي كانت تعمل معها كلما سنحت لها الفرصة لالتقاط شبكة الانترنت، حيث استخدمت التطبيق لوصف واقعها وطبيعة الحياة في الملجأ، وكثيراً ما كانت أصواتها تترافق مع أصوات القصف. ففي إحدى المرات أرسلت هبة رسالة صوتية عبر “الواتس اب” قبيل اقتحام النظام السوري للغوطة، كانت تحاول أن تنقل إحساسها وخوفها، ولكن الصوت خانها لتكتفي بوصف الواقع الذي تعيشه، وتقول: “ما بعرف شو رح يكون مصيرنا.. وما بعرف إذا هي رح تكون آخر مرة بتواصل فيها.. بس أنا ما بدي موت ومابدي عيش تحت سيطرة الأسد.”
كذلك الأمر بالنسبة لبيان ريحان، عمرها 32 سنة، تعمل كرئيسة لمكتب المرأة في المجلس المحلي لمدينة دوما، ومسؤولة تواصل في منظمة “اليوم التالي”. عملت بيان على نقل الواقع المدني في الغوطة الشرقية عبر صفحتها الشخصية على “الفيس بوك” لتصبح صفحتها مُتابعة من قبل الكثيرين. استطاعت بيان تسخير كافة الوسائل بما في ذلك إنتاج ونشر فيديوهات وصور توثيقية وهادفة لكسر حاجز التعتيم الإعلامي الذي فرضه النظام السوري حسب قولها وتوضح بيان:
“كنت اضطر اطلع على الطابق الثالث بالليل على الأسطح ومقابل القناص.. كان في خطورة على حياتي حتى اقدر افتح النت والتقط الشبكة.. مع هيك اقدرنا ننقل معاناة أهالي الغوطة من قصف وحصار ومن خلال صفحتي نقلت تجربتي بشكل كامل وكانت صفحتي متابعة ونقلت عبرها تفاصيل أحداث كالمجازر وصور بسيطة التقاطنها على موبايلتنا.”

دور منظمات المجتمع المدني
شكل الانترنت فسحةً أو بوابةً للعديد من النساء إلى العالم خارج جدران الغوطة الشرقية المحاصرة، ووفر لهن فرص عملٍ وتواصل في ظل الحصار الذي فرضه النظام السوري وفقاً لبيان ريحان التي توضح: “تربطني مع الانترنت قصص جميلة.. وعن طريقه كتبت مقالات وتواصلت مع صحفين وتعلمت وحصلت على عمل.” من جهتها تقول ليلى: “الانترنت مهم جداً لتوصيل صوتنا لأنه صوتنا بالغوطة ماكان مسموع وكتير كان مهمش من قبل الفصائل العسكرية الموجودة.. ومن قبل المتسلقين على الدين يللي طلعوا بفترة الحرب والحصار.”
بالمقابل كان هناك محاولات لبعض مؤسسات المجتمع المدني في دعم النساء وتمكينهن من خلال توفير خدمة الانترنت لهن وتوفير السلامة والحماية الرقمية لهن من خلال تدريبهن على كيفية الاستخدام الآمن للانترنت. فمثلاً عملت بعض المنظمات على توفير مقاهي الانترنت للنساء كمنظمة “النساء الآن من أجل التنمية”
التي وفرت مقهى انترنيت في منطقة حزة في الغوطة الشرقية. وأيضاً أقامت هذه المنظمات في مقاهي الانترنت تدريبات رقمية وفرص للتعلم عن بعد في ظل الحصار. وتؤكد بيان ريحان أنها عملت عندما كانت مديرة مركز الشام الحقوقي مع مشروع سلامتك للأمن الرقمي على توفير تدريبات توعوية للمدنيين في كيفية التعامل مع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن يمكن اعتبار أن هذه الجهود لم تكن كافية، إذ لم تتوفر حملات توعوية تستهدف النساء على نطاق واسع، وبقيت محاولات منظمات المجتمع المدني عبارة عن تجارب متواضعة.

نشرت المقالة سابقاً على موقع شبكة الصحفيات السوريات
اللوحة للفنانة السورية ريم يسوف

No tags

العبور من بوابة الموت

لم أكن أعرف أن الفاصل بين الموت والحياة لايكون دائماً لحظاتٍ قليلة، لم أكن أتخيل أنه ربما لا يأتي دفعة واحدة، بل كمحطات قطار أنتقل فيه من محطة لأخرى ويكون له في كل لحظة، طعم ووجه مختلف عن المحطة السابقة أو التي تليها، ولم أكن لأتنبّأ أن سنواتي الأربعين يمكن أن تختزلها عشر دقائق في محاولة مني للتفكير في كل حدث عشته طيلة حياتي، أو تنكر كل وجه وضحكة لأناس قد أغادرهم الآن وأنا أصارع وجه الموت المخيف وحدي في معركة لم أكن أنوي الخروج منها مهزومة.
إنها عشر دقائق وحسب، تجلى فيها الموت بألسنة من نار يحاول أن يهزمني بوحشية، بيد كنت أعتقد لسنوات أنها سندي في هذه الدنيا فكانت هي من رسمت طريقة موت أرادته لي، إنها يد زوجي ..
أنكرت فكرة إنهاء حياتي حتى اللحظة التي غمرني فيها بالبنزين وهو يصرخ: سأقتلك،
وتحولت فجأة إلى كتلة من نار لها سعير مخيف، مع انتشار رائحة الجلد الذي بدأ يذوب بسرعة ورائحة شعري الذي كان يخنقني وجعاً وقسوة وألما أكثر بكثير من رائحة النار ووجعها.
كان خلافنا يوم الحادثة على أمرٍ اعتدنا أن نختلف من أجله على مدار ١٥ سنة، كان يزعجه أنني أعمل وأن وضعي المادي بدأ يتحسن، بينما كان عاجزاً أن يتغير، أو أن يحقق نجاحاً في أي عمل .. لعل هذا السبب المباشر بينما يختفي السبب الرئيس الذي هو تنافر طبعينا، فأنا أملك همةً وحباً للعمل، وطموحاً يجبرني أن أكون مميزة في كل مجالٍ أعمل فيه، وكان هو على عكسي تماماً.
كنت مسؤولة مراقبة وتقييم بالإضافة إلى عملي في مركز الدعم نفسي للأطفال و الأمر الذي كان يزيد من غيرته تلك المقابلات التي يجرونها معي خلال عملي لذا قام بحرقي .
أدخلتني تلك الرائحة واللهب في حالة ذعر، فبدأت أركض وكأني أهرب من النار، أو أتركها خلفي وأبتعد، لكنها كانت تزأر بصوتها، وتزداد لهيباً وكأنها تسخر مني، وتزيد التصاقاً بي، وكلما ازدادت شراستها، تضاعفت رغبتي في إخمادها، لأنتصر عليها في النهاية، وأتهاوى على الأرض منهكة من معركة غير متكافئة، لكن نهايتها كانت جيدة بعض الشيء إذ إنني كنت ماأزال أسمع دقات قلبي المتسارعة والتي كانت تؤكد للحياة أنني على قيدها، لكنني كنت أعاني من صعوبة بالتنفس، هدأت أراقب مكان الحروق التي بدأت تزداد ألماً وهي تنتفخ بالسوائل، وبدأت أفكر في طريقة للخروج من سجني الذي مكثت فيه أياماً منقطعة عن كل وسائل التواصل مع أهلي، أقنعته بأن يذهب لإحضار طبيب مقيم في حارتنا، وبمجرد خروجه من المنزل، زحفت باتجاه الهاتف لأستنجد بشقيقتي لتصل إلي بعد دخول الطبيب بلحظات ووجهها يحمل كل تفاصيل الرعب وعدم تصديق ما أخبرتها به، كنت أتوقع أن حدود الألم توقفت هنا وبأني خرجت من كابوس وانتهى الأمر، ولكن كلمات الطبيب أعادتني لحالة الخوف وهو يؤكد خطورة وضعي.
وضرورة نقلي للمشفى فوراً ولأني كنت غريقة في بحر من الوجع والخوف ،رأيت الطبيب وأختي قاربا الأمان الذي سيصطحباني بعيدا عن قبر الموت المفتوح، وأمام إصراري على الطبيب أن يرافقني مع أختي، استجاب لي ووصلت للمشفى في حالة كانت تزداد تدهورا، ليرفض الأطباء استقبالي بسبب سوء حالتي وعدم توافر الإمكانيات لإنقاذي.
وتم تحويلي إلى مشفى أطمة على الحدود السورية التركية، كان صوت سيارة الإسعاف يزيد من ضياعي، وكأن عقلي توقف عن التفكير ولم أعد أستوعب ما يحدث لي ودخلت المشفى في السابع والعشرين من آب لعام ٢٠١٥ لأتحول في ساعات قليلة إلى جسد مومياء ملفوفة بالشاش الأبيض، لا يظهر مني سوي عينين مثقلتين بالألم.
وليظهر الموت ثانية بوجه آخر يرافقني كل يوم إلى غرفة العمليات، ويتركني ملقاة بين أيدي مجموعة من الأطباء، لأصحو بعد ساعات من التخدير، وأنا أردد على مسمعي ما زلت حية، وأنتظر صباح يوم آخر، أغيب فيه بين رائحة البنج ومشارط الأطباء.
كان الشهر الأول مملاً وموجعا، لكن سعادة الأطباء في استجابتي للعلاج، وروحي المعنوية العالية وإصراري على الحياة كانت تقربني من الشفاء، أو هذا ما كنت أعتقده، ولكن كل ذلك تلاشى حين بدأت أفقد الرغبة بقدوم الصباح وتلك الجولة ما بين الطابق الثاني والأول حيث تقع غرفة العمليات، وبدأت أفقد القدرة على المشي أو حتى الكلام، وبعد مرور شهرين كنت قد تحولت لجثة صامتة، أجبرت الأطباء على العجز أمامي واتخاذ قرار تحويلي إلى تركيا، وأنا بين الموت والحياة بعد توقف الكلى عن العمل، وللمرة الثانية تحملني سيارة الإسعاف إلى مصير مجهول، لأدخل المشافي التركية في إسكندرون في تشرين الأول وأتجرع صنفاً آخر من الموت بين أيادي أطباء يجرون عملياتهم لي بدون تخدير، وبدأت أتوسل إليهم في إنهاء حياتي بطريقة رحيمة، فقرروا تحويلي إلى مشفى آخر في أضنه، وطيلة الطريق الذي سلكته وحدي مع أناس لا يعرفون اللغة العربية، كنت أردد لنفسي ليت الموت يسرقني الآن قبل وصولي للمشفى، كان الألم قد تجاوز كل حدود القدرة على الاحتمال، وأنا أشعر بجسدي وكأنه مرمى لأهداف يسجلها الموت وقد خسرت إمكانية الفوز في هذه المباراة. وصلت للمشفى مرهقة من الحياة، وتم إدخالي فورأ إلى غرفة العناية المشددة، لأجد نفسي محاطة بعدد من الخراطيم والأجهزة الطبية التي كان صوتها يثير ضجري، وكأنه وسيلة تعنيب أخرى، وأصبح الأطباء في سباق مع الموت وكأنهم يسحبونني من فوهته، وقد استسلمت له تماما، كنت قد كرهت السرير الأبيض، ورائحة المشفى، وغرفة العمليات التي لم أنجُ منها طيلة شهور سوى أيام قليلة، وحتى منظر السقف الذي لم أعد أرى سواه بعد عجزي التام عن الحركة، أصبح يثير قرفي بلونه الأبيض فقررت أن أتسلى قليلاً، وأتجاهل موتي اليومي، فتخيله ورقة بيضاء وأنا أمتلك عدداً لا حصر له من الألوان، وبدأت أرسم أشكالا وصوراً ووجوهاً وأخط عليه كلمات وعبارات تشبهني في حياة ما سابقة، فرأيته جميلاً وتنكرت رائحة الحبر والأوراق، وصوت العود الذي أحبه، تسارعت دقات قلبي، وكأنها تخبرني أنه مازالت هنالك فرصة للحلم والانتصار على الموت، ورأيت وجهي على السقف مستبشرا، وكأنه يبتسم لي، وحين رآني الطبيب أبتسم اقترب مني، ولم أفهم أية كلمة مما قاله، سوى تلك الابتسامة على وجهه، وبدأت أهزأ بالموت الذي ضيع على نفسه فرصة سرقتي، وقد وهبتها له أكثر من مرة، لأغادر المشفى بعد شهرين على كرسي بعجلات وسط دهشة الأطباء واعترافهم أن عودتي للحياة هي معجزة. كان كل ما أحلم به أن أرى عائلتي، وأتنفس هواء مدينتي التي غادرتها طيلة خمسة أشهر، ولأبدأ من جديد في صراع آخر، وعلاج فيزيائي، لا يدرك معنى هذه الكلمة ووجعها إلا من عايش هذا النوع من العلاج، وبعد شهور من المعاناة، وإصرار مني على المشي واستعادة القدرة على تحريك يدي لأمسك بكتاب أو آلة العود التي أعشقها، أصبحت كل لحظة ألم هي اقتراب من تحقيق الحلم والعودة الكاملة للحياة، وبعد مرور عام كامل من معايشة الموت بكل تفاصيله وقسوته، بدأت أخطو أولى خطواتي كطفل صفير يتعلم المشي، لأعود ثانية وقد تقمصت روحاً أخرى لا تشبهني..
عدت إلى سوريا في 2016 ، وأنا مازلت في حالةٍ نفسيةٍ وصحيةٍ سيئة، كل ما استطعت أن أفعله في ذلك الوقت أنني
حصلت على الطلاق من المحكمة الشرعية في سراقب، كل ما يغيظني أنه لم يحاسب على جريمته، ولم يعاقب على مافعله بي فالمحكمة اكتفت بأن طلبت منه أن يحلف يميناً عالمصحف أنه لم يفعل بي ذلك، فحلف لذلك تم إخلاء سبيله.
في بداية 2017 شفيت تماماً وعدت إلى عملي ..
وأنا الآن بعد مرور ثلاث سنوات على تلك الحادثة، مازلت أتنكر تفاصيلها رغم وجعها، وأعاهد نفسي أن أستمتع بالحياة بأبسط مكوناتها من فنجان قهوة، أو قراءة رواية، أو ممارسة عملي، لا يعنيني أني أصبحت مطلقة في مجتمع أرهقني بالاحتفاظ بزواج فاشل طيلة خمسة عشر عامأ خوفا من هده الصفة، ولأثبت لنفسي وللمجتمع الآن أني إنسانة تستحق الحياة وتملك إرادة كبيرة كي تحصل عليها.

العمل الفني للفنان السوري ديلاور عمر

No tags

و عاد الفرح مبتوراً

تركوا بيتهم قسراً بعد قصفه بإحدى الغارات. انتقلت “أم محمد” مع زوجها وأولادها الثلاثة، هبة وغادة وابنها الصغير محمد، إلى منزلٍ بسيط مكون من غرفة ومدخل صغير.
بيت صغير، ضيق، يقع في الطابق الأرضي. يتألف من غرفة وحيدة، جعلوها غرفة نوم ومطبخ في آن واحد. وللبيت فسحة صغيرة أمام بابه. سكنت “أم محمد” هذا البيت الضيق مرغمة. فلا خيار آخر لديها.
يومياً، عند الشروق، يذهب أولادها الثلاثة إلى مضخة المياه القريبة منهم، لإحضار المياه من أجل حاجاتهم اليومية.
إلا أنه في ذلك اليوم تحديداً، كان محمد متعباً، وأخبر أمه أنه لن يشارك شقيقتيه في جلب المياه وسيبقى في المنزل ليرتاح.
كان محمد يجلس في الفسحة الصغيرة أمام المنزل، فيما كانت أمه في الداخل، تحضر له الطعام، طبق مكون من الخضار فقط، فلم يكن هناك شيء آخر متوفراً نتيجة الحصار.
في هذه الأثناء، سمعت “أم محمد” صوت طائرة حربية، تابعة للنظام السوري. لم تشعر بالخوف، فلقد اعتادت هذه الأصوات. وما هي إلا لحظات حتى سمع كل أهل الحي صوت الصاروخ العنقودي يصفر بالقرب منهم.
لم يخطر في بال “أم محمد” أن منزلها سيكون هدفاً للصاروخ هذه المرة أيضاً. دمر مدخل بيتها ومدخل البيت المجاور.
تصاعد الدخان والغبار وحجب الرؤية عن “أم محمد” التي كانت في الغرفة. بدأت تنادي أولادها، لكن لا جواب. لم تدرك “أم محمد” كم مر من الوقت، فلقد توقف الزمان عندها إلى أن رأت ابنتيها تعبران فوق الركام وتدخلان المنزل، إلا أن محمد لم يكن معهما.
بدأن بالبحث عنه، فوجدن جسده الصغير قد طمرته الحجارة المهدمة.
في هذا الوقت كان عناصر الدفاع المدني قد وصلوا وأسرعوا باخراج محمد من تحت الأنقاض.
كان محمد غائباً عن الوعي حين حملوه إلى سيارة الاسعاف. بدأت الام بالصراخ:
“ولدي محمد لا تدعوه يموت، أنقذوا ولدي”.
كانت كل ما تخشاه “أم محمد” ألا يعود ولدها، أو أن يعود بكفنٍ أبيض. إلا أنه عاد حيّاً، لكن مع قدمين مبتورتين.
لم تعرف العائلة كيف تحدد مشاعرها. هل تفرح بعودته حياً. أو تحزن على قدميه المبتورتين. لكن في النهاية كانت أنفاس ابنها بالقرب منها، تحت سقف المنزل المدمر، مصدر أمل وفرح. كان يكفيها وجوده.

محمد لم يكن الطفل الوحيد من الغوطة الشرقية الذي سرقت الحرب جزءاً من جسده أو بترت عضواً منه، هو واحد من آلاف الأطفال والشبان الذين أصيبوا بإعاقة دائمة نتيجة للقصف العشوائي من الطيران الحربي السوري.
العمل الفني للفنانة السورية ريم يسوف

No tags

بين ركام ذاكرتي

اسمي خديجة. عمري 35 عاماً. زوجي اسمه رضوان، ويكبرني بخمس سنوات. لدينا ثلاثة أطفال، أكبرهم في الصف السادس، والثاني في الخامسأما طفلتي فما تزال في الصف الأول. كنت أعمل أنا وزوجي في احدى الشركات في مدينة ادلب. حكايتي بدأت، يوم الخميس في العشرين من نيسان العام 2012. كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً.

استيقظنا أنا وزوجي على صوت قرع الباب على نحوٍ عنيف ومرعب. نهضنا مذعورين واتجهنا نحو الباب بسرعة. إلا أن زوجي دفعني نحو الداخل ثم خرج وأغلق الباب.

ارتديت حجابي على عجل، ولحقتُ به، لأصدم بوجود مجموعة من عساكر قوات النظام، تدفع زوجي بعنف على سلم البيت نحو الأسفل. ثم توجهوا إلى شقة أخيه في الطابق الثالث، وأنزلوه عنوة.

وكرروا الأمر نفسه مع أخيهم الثالث الذي يسكن في الطابق الأرضي. كنت أراقبهم وأبكي. وكان كل من في الدار يصرخ، أمهم وأختهم، حتى أنا.

تحول صراخي إلى نحيب حين رأيتهم يغطون وجه زوجي وإخوته بقمصانهم. وضعوهم في سيارة مصفحة. لم أعد أتذكر لون تلك السيارة، ربما كانت خضراء أو ربما أي لون آخر.

لكنني أتذكر أنهم حين أخذوا الأخوة الثلاثة، أخذوا قلبي وعقلي معهم. أذكر تماماً أني بكيت في ذلك الصباح القاسي أكثر مما بكيت في حياتي كلها.

أسئلة كثيرة كانت تجول في عقلي: لماذا فعلوا هذا بهم؟ من الجهة التي أخذتهم؟ ما السبب؟ إلى أي مكان يقتادونهم؟ أسئلة لا أملك أجوبتها، إلا أننا بدأنا محاولاتنا لمعرفة مكانهم.

سألت عنه رفاقه ومعارفه وطلبنا مساعدتهم، فزوجي بحكم عمله، كان له معارف كثر ممن لهم مكانتهم وكلمتهم في المدينة. كانت تصلنا أخبار كثيرة.

لكن ما علق بذهني أنهم موجودون في فرع أمن الدولة في إدلب، الذي يبعد عنا مئات الأمتار فقط. لم أتوقف عن البكاء والدعاء والصلاة. وأيقنت أنَّ رحمة الله ستكون معي.

كان قد مضى على اختفائهم يومين، حين تفاجأنا بدخول زوجي إلى البيت، متثاقلاً ومتعباً، وقدماه بالكاد تحملانه.

ركضنا نحوه نحضنه ونعانقه فرحين، إلا أنه أثناء ذلك سقط بين أيدينا مغشياً عليه. لم أصدق ما رأته عيناي.

كان شاحب اللون، ومرهقاً لا يقدر على الكلام، ينظر إلينا مذهولاً، وتملأ جسده المتورم بقعٌ زرقاء.

وبعد أن حصل على قليل من النوم والأكل، اسندناه على وسادته ليروي لنا ما حدث معه: “عندما أخذونا من هنا غطوا أعيننا ووضعونا في السيارة، التي تحركت باتجاه مكان لم نعرفه، وألقوا القبض على شباب آخرين وألقوا بهم معنا. وانطلقوا بنا جميعاً إلى جهةٍ مجهولة. وحين وصلنا إلى ذلك المكان الغريب أنزلونا ووضعونا في ممر، وبدأوا بالتحقيق معنا واحداً تلوَ الآخر. حين حان دوري، باغتني الضابط المحقق بسؤاله: خرجت في مظاهرات وهتفت بإسقاط الرئيس ولاك؟ مو عاجبك الرئيس وبدك تسقطو؟”. أجبته نافياً، وأخبرته أني تظاهرت ضد الفساد فحسب.

فصرخ قائلاً: “كذاب، أنت عندك روسية وأنت إرهابي، أخوتك اعترفوا”.

أجبته : “اذا كان عندي روسية باستطاعتكم إعدامي في الساحة، ليس عندي سلاح، وأقسم على ذلك”. طال التحقيق وعندما يئس الطابط من تغييري لأقوالي قرر تعذيبي”.

سكت زوجي قليلاً وغصّ بدموعٍ لم أعهدها منه. وتابع: “جربت أنواعاً لا تصدق من التعذيب، بدءاً ببساط الريح، وهو كرسي يشبه كرسي طبيب الأسنان لكنه يقلب الإنسان رأساً على عقب. ثم التعذيب بالكهرباء والضرب واللكمات على وجهي وجسدي. حتى أن أحد أسناني قد كسر في إحدى اللكمات، هذا عدا عن الكلمات البذيئة التي كانت تتناثر من حولي. لم أعد قادراً على استيعاب وتحمل الألم، لكن مع إصراري على كلامي الأول وعنادي، قرروا تعذيبي بـ”الشَبح”.

علقوني من يديَّ إلى الأعلى، وقدماي لا تلامسان الأرض وتركوني على هذه الحال أكثر من ساعة. بعدها عادوا ليطلبوا مني تغيير أقوالي، وعندما رفضت جعلوني أبصم على ورق لا أعرف ما فيه، إذ كانت عيناي معصوبتان.

ثم سحبوني على الأرض لأني كنت عاجزاً عن المشي ورموني بين السجناء الذين أسرعوا ليفرغوا لي مكاناً، وغسلوا لي وجهي ودلكوا قدمي وبدأوا بمواساتي. بعد يومين لم نذق فيهما إلا الخبز اليابس والحلاوة، استدعاني الضابط وأخذوني إليه معصوب العينين ليقول لي: “أريدك أن تتعاون معنا وتحصل لنا على معلومات”. أجبته بأن لا معلومات لدي.

ويبدو أنَّ أمراً بالإفراج عني كان قد وصلهم فقال: “سنفرج عنك شرط التزامك ببيتك وعملك، ولا تنسى أننا قادرون على إحضارك مرة أخرى”. ثم أفرجوا عني. لم تكن المسافة بين بيتي والسجن سوى مئتي متر لكنني أحسستها آلاف الأمتار، فأنا لم أكن أقوى على المشي.

كان يروي لنا هول ما حدث له في يومين فقط، والدموع تنهمر من عينيه وأنا أشاركه البكاء. بقي مريضاً نحو أسبوع ليعود بعدها إلى عمله بعد عدة إجراءات قام بها. إذ إنّهم كانوا قد فصلوه من عمله بسبب اعتقاله.

أما شقيقاه فقد رأيا الضوء بعد 17 يوماً من السجن ليرويا لنا قصة العذاب الذي لا ينسى. قد تبدو مدة قصيرة لا تقارن بمن اعتقل شهوراً وسنوات، لكنها معاناة تركت في نفوسنا أثراً عميقاً من الحقد على أولئك الظالمين، الذين دنسوا الحياة بالاعتقال والقتل وكل أشكال الموت، ولكننا نحسب أنفسنا عند الله من الصابرين وأنّ الظلم إلى زوال.

العمل الفني للفنان الكويتي سامي محمد

No tags

شغف أبي جواد يحوله إلى رقم في معتقلات النظام

رغم أنه لم يكن قد تجاوز الرابعة عشر من عمره، إلا أن ولعه بالسيارات جعله ماهراً في قيادتها منذ الصغر.

تعلَّم أبو جواد قيادة السيارات في صغره، فأتقنها جيداً حتى لقب بـ”الرالي” لمهارته العالية. كان يقود بشغف كبير في شوارع مدينته الصغيرة. كان مفعماً بالحيوية والنشاط، إلى درجة تمكنه من نقلهما إلى الآخرين.

أبو جواد، شاب في ربيعه الثالث. عاش حياة مليئة بالمخاطر، من ساحات سباق السيارات إلى ساحات القتال في المعارك. لم يكن يعرف أن مهارته هذه ستنتقل معه إلى ميدان حرب حقيقية فيما بعد، وتملأ حياته بشكل كامل.

فعندما اندلعت الثورة السورية، وبدأت قوات الأمن التابعة للنظام السوري بحملات القتل الممنهج ضد المدنيين، وجد أبناء الغوطة أنفسهم، كما في المناطق الأخرى، مضطرين إلى حمل السلاح للرد على الاعتداءات التي يتعرضون لها، وحماية المدنيين من بطش قوات النظام التي لا تملك أي ذرة من المبادئ والدين والأخلاق.

أبو جواد كان واحداً من هؤلاء الذين وضعوا على عاتقهم حماية المستضعفين من أبناء غوطتنا. لم يتوانى عن واجبه تجاه بلده، مستغلاً خبرته التي اكتسبها سابقاً في قيادة السيارات.

بدأ أبو جواد عمله الإنساني في العام 2012، أثناء تحرير حرستا من بطش النظام. يومها سجلت لهم انتصارات في هذه المعركة. تحول أبو جواد من شخص يقود سيارته بسعادة ومرح إلى شخص يقود سيارة إسعاف بخوف وقلق، بهدف إنقاذ أكبر عدد من المصابين، جراء القنص والقصف بشتى أنواعه من طيران ومدفعية وغيرهما.

المعارك المتتالية في المدينة راح ضحيتها كثر. وفي إحدى الغارات التي استهدفت نفقاً للثوار في المنطقة، والتي سقط ضحيتها أكثر من 50 شاباً، كان أبو جواد واحداً من المتضررين، حيث نال نصيبه من استنشاق الكيماوي وأصيب جهازه التنفسي.

ما اضطره إلى الرحيل عن الغوطة سعياً للعلاج. النظام سهّل خروج أبو جواد وزوجته وأطفاله الخمسة عن طريق المخيم. لكن ما لم يعلمه ذلك الشاب أنّ وراء هذا التسهيل كمينٌ.

فقبل وصوله إلى المشفى أُلقيَ القبض عليه مع زوجته وأولاده بتهمة الإرهاب. كيف يمكن لشاب خلوق وانساني، كان سبباً لراحة آلاف الأشخاص وحفظ حياتهم، أن يتهم بالإرهاب؟! بعد عدة أيام تم الإفراج عن زوجته وأولاده، وأبقي على أبو جواد. علمنا لاحقاً أن اعتقاله كان نتيجة تقرير مقدم ضده من قبل صديق له. بقي أبو جواد عاماً في السجن.

في هذا العام واجهت زوجته ظروف حياة قاسية. اعتقلت أربع مرات على ذمة التحقيق. قصدت كل فروع المخابرات لتعرف مصير زوجها، فقوبلت بأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي. إلا أنها لم تفقد الأمل بلقاء زوجها إلى أن علمت أنه توفي تحت التعذيب. أبو جواد لم يكن أول شخص يموت تحت التعذيب الممنهج في سجون النظام، ولن يكون الأخير.

جريمته الوحيدة أنه حاول إنقاذ حياة المدنيين. فدفع حياته ثمناً لحياتهم.

الصورة المرفقة هي عمل فني للفنان السوري ديلاور عمر

No tags

عندما تختنق أنفاسنا.. ونتحول إلى أرقام

في ليلة شديدة الحرارة في مدينة زملكا في الغوطة الشرقية، استيقظ سامي ليشرب الماء، سمعت والدته “أم سامي” وقع خطواته على الأرض ثمَّ عاد ليكمل نومه.
أيقظت زوجها لتخبره أنَّ ثمَّة أصواتاً جديدة ومخيفة، وبدأت تحصي عدد الصواريخ، حتى أحصت أحدى عشرَ صاروخاً، هنا قالت لزوجها:”أنا لا أستطيع التنفس وهذه الأصوات غريبة لابَّد أنه الكيماوي”
استهزأ بكلامها قائلاً:” وأنت التي اكتشفته؟!” نعم أنا وأقسم على ذلك، أعادت القول: “انظر أنا لا أستطيع التنفس ،أنت لا تشعر بي”. لم تكمل كلماتها حتى انفجر الحي بصراخ الرجال المدوي “احذروا تم قصفنا بالكيماوي!”
أمسكت أم سامي بجسد زوجها وبدأت تهزه وتقول: “اسمع ألم أقل لك.. أنت لم تصدقني” لتتباطأ كلماتها ودقات قلبها، وحينها ركضت مجهدةً لتحمل أطفالَها، لم تجد مكاناً تختبئ فيه كما تعلمت سابقاً من تدريب إسعافات الكيماوي، فشبابيك المنزل جميعها محطمة جراء القصف المتكرر على المنطقة.
انهارت العائلة عبثاً في سعيها للنجاة، ولكن لم تسعفهم حقائب الأدوية التي كانت مخبأة خوفاً من أي طارئ، ليصبحوا رقماً بين آلاف الأبرياء الذين قضوا نحبهم في تلك الليلة منهم 486 طفلاً فقدوا.
تلك هي ليلة الكيماوي في الغوطة الشرقية التي وقعت في عام 2013. لم يكتف النظام السوري بهذا العدد الهائل، فحملات القصف والتدمير كانت ولازالت مستمرة لتجعلها من أوائل البلدات في الغوطة الشرقية التي فقدت أهم البنى التحتية الموجودة فيها من هواتف وخطوط كهرباء وشبكات مياه.
ولكن زملكا ما زالت صامدة تحاول الوقوف على أقدام أنهكتها المآسي، ومع وجود الأمل يزداد العمل، فنحن أصحاب حق نحاول النهوض مهما عصفت بنا الأيام.

No tags

إشراقة أمل

بينما انتظرت فجراً مبتهلاً بالفرح، أغمضت الشمس عيناها وشحب وجهها وتساقطت حبات الدمع من أجفانها، تقول: لا تحزني فإن الله معكِ، وهل أنا في حلم أم في واقعي ماذا تقولين؟ أصمتي…

بعد ساعات من القلق أخبرتني بأنني سوف أكون وحيدةً في بلاد غريبة فيها، وهي الكارثة التي قدمتها لي الدنيا، لحظة وفاة زوجي الذي سقط في بلاد الحرب والدمار، البلاد الفانية، ملتوياً قلبي لفراقه.

كبتُ في قلبي اليأس والحزن، وقست الأيام على جوارحي التي بها يعاقبني المجتمع من جهة، والعادات والتقاليد من جهة أخرى.

وبعد عامين من التأمل والمعاناة اتخذت قراراً أن أكسر حاجز المجتمع واخرج نفسي من هذه الدائرة، لكي أكون شخصاْ آخر، لتعود الفرحة لقلبي ولأسرتي التي فيها أطفال يحتاجون إلى أُم ٍ قوية وصامدة، تتحدى كل صعوبات وتحديات المجتمع، وتعوضهم عن فقدان أبيهم.

كانت النتيجة أن أكمل دراستي كي أعطي لنفسي أولاً حياة ًجديدة بعيدة عن الحرب، والمأساة، والجهل، والظلم، كي أسترجع حياتي كما كانت عليها في السابق.

قررتُ أن أدخل الجامعة وأنا كلي عزيمة وإصرار، هنالك فقط أحسست بذاتي التي كانت متعطشة للعلم والثقافة، كي أكون سيدة حقيقية أمام أطفالي، وأتحدى صعوبات الحياة والعادات والتقاليد.

وبعد إصرار وعزيمة أكملت دراستي الجامعية وحققت النجاح، وبعد فترة زمنية قصيرة أُتيحت لي فرص العمل.

أعطيتُ لأطفالي الإرادة والتصميم ورسمتُ لهم طريقاً إلى المستقبل، لأن الحرب سلبت منهم مشاعر الطفولة، وأحرقت دموعهم، وشتت أفكارهم، فكنت الدافع الأقوى لهم كي يكون العلم سلاحهم، والقلم رفيقهم، حتى تعود الشمس، وتفتح لهم أعينها التي يجب ألا تغمضها لهم.

وهكذا كانت حياتي بعد وفاة زوجي أدعم كل سيدة متزوجة كانت، أو أرملة أو مطلقة أو عزباء حتى يكون لها هدف تضعه نصب عينيها.

فالعلم لا يقيده عمر ولا زمن، هو سلاح المرأة لتكون السيدة الأولى لكيانها، وذاتها والقادرة على كسر العادات والتقاليد البالية في المجتمع.

كوني حريصة ًأن تتجرئي وتخطي الخطوة الأولى وهي أقوى الخطوات وأهمها، أطمحي للأفضل فأنت امرأة سورية، كوني شامخة ولا تكوني ضعيفة ً فأنت الأقوى.

سيدتي لا تنسي إنكِ الطبيبة والمهندسة والمعلمة، ولا تنسي إنكِ الفنانة التي ترسم البسمة على وجوه أطفالك.

أنت الأم…

أعطي أطفالك الأمل والشجاعة والإرادة والتصميم لتحقيق أهدافهم، امنحيهم الفرحة التي حرمتهم منها الدنيا أيام الحرب والقتال.

لا تترددي فالحياة زمن قصير والعمر ماضٍ، لا تكتفي بكونك منبعاً للحياة بل كوني الشريان الذي يجري في عروقها أيضاً.

الصورة مأخوذة عن:
Mohannad Orabi – Syrian Artist Untitled, 2017 From the series Ripples series Mixed media on canvas

 

No tags