أنا سلام التي فقدت اسمها

اسمي سلام، ولكن لا صلة لحياتي بهذا الاسم. يقولون عني هادئة، ذكية، وطموحة، أما أنا فأقول عن نفسي بأني مسالمة فقط. لا أتمنى الشر والمعاناة لأحد، ولكن لم يتحقق ما أتمناه أبدا. ولم تفدني نواياي الحسنة.

بدأ كل شيء عندما كنت أدرس في كلية الصيدلة بمحافظة حلب. كنت في سنتي الثالثة، عام 2014.

كان الوضع حينها سيء للغاية. فقدت العديد من زملائي وأصدقائي، وكنت بعيدة عن أهلي ومدينتي. لم يكن لدي القدرة على العودة وترك دراستي. وفي الوقت نفسه لم أكن أملك الشجاعة لأبقى.

في تلك الأيام لم أكن أرى سوى السواد. الناس كانت إما تموت بقصف أو مجازر، وإما تفقد أو تعتقل أو تنزح. كانت الخيارات عديدة والمصير واحد، فالموت هو سيد الحرب.

ما زاد جزعي أكثر حينها، هو اعتقال ثمانية وثلاثين طالبا من الصيدلة والطب والهندسة من منطقتي (ريف إدلب)، ما زاد الأمر سوءا أنني كنت أعرف معظمهم، فقد درسنا سويا، أكلنا سويا، وتشاركنا العديد من الأشياء كحال جميع الطلاب.

في تلك الفترة السيئة، قررت العودة إلى إدلب خوفا من المجهول والوحدة، وكانت هذه رغبة والدي أيضا.

وعندما عدت، بدأت رحلة البحث عن عمل، في أواخر سنة 2014.

وهكذا تحولت، من طالبة صيدلة إلى طالبة عمل مهما كان. البحث عن عمل كان صعبا لا سيما في مجتمع يحب أن “يرعى” الأنثى، ويفرض عليها حياتها كما يرغب بحجة الخوف عليها. هذا المجتمع لم يكن يرى الأنثى إلا ربة منزل أو طالبة أو معلمة أو ممرضة وما تلحقه من الأدوار الأخرى المنمطة كالخياطة.

فرضت علي الحرب أن أترك دراستي فلم أملك حق الأختيار، ولكنني قررت أن أختار عملي بنفسي هذه المرة. عمل أستطيع من خلاله مساعدة الناس ونفسي. أي شيء ممكن أن يفيد ويبعث البهجة والطاقة الإيجابية، والأهم من هذا كله، عمل ينسيني الحرب والخسارة.

بدأت عملي الأول في بداية عام 2015، كمنشطة لبرامج الدعم النفسي للأطفال. بعد تدريبات عديدة نجحت بهذا العمل بل وأحببته، فلا شيء أروع من البقاء بين الأطفال ورسم البسمة على وجوههم.

أصبحت مدربة متخصصة بالدعم النفسي وحصلت على شهادات عديدة. تحملت قذف المجتمع لي بأقسى الألفاظ والتهم. تحملت ساعات العمل الطويلة والمردود الضعيف. تحملت آلام الأطفال الذين صادفتهم، تحملت معاناتهم وظروفهم التي ولدتها الحرب. تطول قائمة ما تحملته. صمدت سنتين كاملتين من المحاولة والمساعدة والسفر. أصبحت أكثر انعزالا وبعدا عن الناس. لم أكن أتحمل رؤية المزيد من الأوجاع.

تركت العمل في بداية عام 2017 لأدخل في مجال جديد. ولكن هذه المرة بلا روح وبلا بهجة.

لماذا أعمل؟ لماذا تزداد آلامنا وتختفي أحلامنا رغم محاولاتنا الدؤوبة؟ لماذا خاطرت بحياتي من أجل دراستي وخاطرت بسمعتي من أجل عملي، والحياة لا تزداد إلا سوادا وبؤس؟

لم أكن يوما سوداوية. كنت سلام الفتاة الرقيقة، ناعمة الملامح رغم تقدم العمر، طموحة وايجابية، والآن أنا سلام الفتاة التي يحاصرها الاكتئاب، وتعيش على أدويته التي لا تزيدها إلا ألما جسديا إلى جانب آلام الحياة في سوريا.

أعلم أنني حالة من آلاف الحالات المشابهة لفتيات سوريات، وربما فقدن أكثر مما فقدت، وعشن أسوء مما عشت وقاسين الألم بشتى أشكاله، ولكنني غير قادرة على المتابعة، أنا أحاول وأشعر أنني عاجزة. عاجزة أمام عيون والدتي الحزينة على حالي، وعاجزة عن الإجابة على سؤال واحد فقط، متى يعم السلام في سوريا لأعيش أسمي بشكل حقيقي.. متى سأتمكن من أن أكون سلام؟

No tags

حين عبثت بنا يد الشقاء

عانت هدى من سوء أخلاق زوجها ومرضه، الذي اشتد عليه. فتعاركت معه ومع زوجها حتى توفاه الله، وارتاحت من حمله إلى المستشفيات، وهو يدعو عليها لا لها.
لكن، لا راحة لمؤمن. فحين كانت تقضي أشهر العدة، التي فرضها الله، طال القصف بلدتها واشتد الحصار.
قررت الخروج إلى منطقة أكثر أمناً. فسارعت إلى الخروج من المنزل ليلاً مع ابنتيها الصغيرتين وأختها الأرملة وابنها المعوق، الذي يحتاج إلى رعاية طبية لا تنتهي. اصطحبت الأختان معهما أختهما الثالثة، التي تركها لهما والديهما قبل رحيلهما إلى إلى بلد آخر، وهي تعاني من الصرع وأمراض نفسية أخرى تجعلها غير متوازنة في أفعالها وتصرفاتها. وفوق كل هذا هي مزاجية وأنانية.
استطاع الجميع الهرب من القرية ليلاً، مشياً على الأقدام؛ هدى تمسك ابنتيها وتركض، وتشد يديها عليهما خوفاً من فقدان إحداهما. فعقلها مشغول بالطريق الصعب، غير المعروفة نهايتها. أما أختاها فتمشيان خلفها على مهل. منى تجر ابنها المعوق جراً، فهو لا يريد أن يغادر، لأنه لا يدرك الخطر الذي يحيط بهم، ولا يدري أن أمه تأخذه إلى مكان تستطيع فيه السؤال عن أولادها الآخرين. فأحدهم معتقل والثاني في إحدى دول اللجوء، والأخير غيبه الموت.
لم تستطع هدى وأختها حمل الأغراض الضرورية، فقد خرجتا بأرواحهما. لكنهما أخذتا معهما كيساً مليئاً بالأدوية لأختهما، وابن منى المعوق. وفي الطريق، حدث معهم ما لم يكن متوقعاً. إذ صادفوا جماعة من الناس الهاربين أيضاً. فتحدثوا إليهم، واستأنسوا بهم، فطلبوا منهم المساعدة في سحب الشاب المعوق وحمل كيس الدواء. لكن، هؤلاء الغرباء، بعد أخذهم كيس الدواء، ظنوا أنه ممتلئ بالذهب والأوراق القانونية التي تخص الأملاك، فهربوا به.
حزنت هدى ومنى من الخيانة، وعلى فقدان الأدوية. فأختهما لا يمكنها العيش من دون الدواء، وهما لا تملكان مالاً لشراء غيره. ومن يعاني من الصرع تأتيه نوبات قوية أحياناً، يحتاج فيها إلى رعاية خاصة. لكن، كيف السبيل إليها وهم خائفون وجائعون؟
سار الجميع، في ظل هذه الظروف الصعبة، لمدة أربعة أيام. لم يتذوقوا خلالها شيئاً غير الماء، من نهر كان يرافقهم في رحلتهم. وبينما هم يسيرون في يومهم الرابع، وقد ابتعدوا عن القرية، التقوا برجل يبيع التفاح. فاشتهى الصغار منظر التفاح ورائحته. ووقفت الطفلة الصغيرة تراقب، وأصبحت تقترب وتلحس شفتيها، كأنها تشعر بالطعم اللذيذ عليهما. وما زاد من صعوبة الموقف أن أطفالاً آخرين اشترى لهم أهلهم تفاحاً أخضر يلمع، وبدأوا بقضمه.
أخيراً، تجرأت الطفلة حين لم يبق أمام البائع أحد، فاقتربت منه وطلبت تفاحة واحدة لها ولكل عائلتها، فابتسم وقال لها “تكرم عيناك يا حلوة”. ثم سألها: “من أين أنت يا صغيرة؟ فلهجتك مختلفة عن هذه المنطقة”. والتقط تفاحة مسحها بخرقة كانت في يده، وقد هم بتقديم التفاحة إلى الطفلة، وقبل أن تصل إلى يدها الصغيرة أخبرته عن اسم قريتها. عندها، تغيرت ملامح وجهه، وانقلب حاله وأصبح يشتمها بأقسى العبارات وضربها برجله، وبالخرقة التي كانت في يده، وطردها من أمامه. ثم رمى التفاحة وداسها برجله.
رجعت الطفلة إلى عائلتها، لكنه لم يتوقف عن الكلام الجارح بحقها وحق أهل قريتها. لم تفهم الصغيرة سبب التحول الذي أصابه أو سبب شتائمه وسلوكه، وقد كانت تبكي حزناً على التفاحة، وابتل وجهها الوسخ بدموعها التي حرقت قلب أمها وخالتها. فبعدما هيأت معدتها وسال لعابها لأكل التفاحة الخضراء عادت إلى جوع أشد، وقد كسر خاطرها أكثر.
آه يا ربي ما أقسى ذلك. ما أشد أن يتحول ابن بلدك إلى وحش يريد افتراسك. هل هناك أقسى من أن تصبح اللقمة حلماً لطفلة لم تر من الحياة إلا القسوة؟ هل سيتذكر أحد تلك الطفلة؟ أم ستصبح، هي وأختها، طي النسيان إن أدرك الموت أمها؟ لا يدري أحد.

No tags

أمي التي ماتت مرتين

” لم تجد آية سوى التمثيل منبراً تخاطب به العقول وتحكي قصص وأوجاع المعتقلات، وتكون صوتاً لهن عبر أعمال مسرحية تقدمها بنفسها وتحكي عن معاناتهن في المعتقلات”

كان الظلم في كل مرة يظهر في حياتها بوجه مختلف. عقب ولادتها وفي الأسابيع الأولى من عمرها توفيت والدتها، ولم تتعرف عليها أو تشم رائحتها. كانت الوصية التي حفظتها أختها كلمات أم تصارع الموت وهي تقول للأخت الكبرى: انتبهي لشقيقاتك.
بعد موت الوالدة وزواج الأب كان للظلم سياطه التي لا ترحم من يد والد لم يهتم لأمر بنات فقدن الأم وحنانها وعانين من بطشه. فما كان من أختها الكبرى إلا أن هربت بشقيقاتها إلى دمشق تاركة قريتها في ريف إدلب باحثة عن الأمان والحياة الكريمة.
كانت المعاناة والفقر لا يرحم في مدينة كبيرة. لم تكن تعرف أحداً فيها. واضطرت الأخت الكبرى للسكن في خيمة بسيطة. ولكنها تحملت وكابرت وعملت ليل نهار حتى تمكنت من تأمين منزل يحميها وعمل يؤمن لهن حياة كريمة خاصة بعد أن أتقنت مهنة الحلاقة النسائية.
كانت سنوات قاسية ولكن الأخت الكبرى لم تستسلم لليأس. وكانت سعادتها أنها أرسلت شقيقاتها للمدرسة التي حرمت هي منها، وأصبحت تملك سيارة خاصة بها وحياة قد تبدلت بعد سنوات الشقاء والتعب. آية هي الطفلة الصغيرة التي فتحت عينيها على وجه شقيقتها، وكانت تناديها: أمي. فهي لا تعرف أماً غيرها ولم تظن للحظة أنها الأم التي لم تلدها.
لم تواجه قساوة في طفولتها بسبب شقيقتها الكبرى التي كانت تسعى لتأمين كل ما يلزمها مع أخواتها. ولم تعرف لها بلداً غير دمشق التي عاشت على أنفاس ياسمينها. وتغيرت الأيام لم تتخيل آية أن تعيش الخوف والرعب، وأن يتبدل وجه دمشق وتطغى رائحة الموت على رائحة الياسمين.
لم تكن أعوامها الصغيرة تسمح لها بفهم ما يجري حولها وسبب انتشار الموت بهمجية. كان عام 2012 عام القهر والموت والرعب، حيث المظاهرات تحولت إلى مجازر، وكانت الصدمة التي هزت كيانها حين أصبحت الأم التي اعتادت عليها تخبرها بأنها شقيقتها الكبرى وأن الأم التي أنجبتها قد ماتت منذ نعومة أظفارها.
لم تع ما الذي دفع أختها لتخبرها بذلك حتى جاء اليوم وأصبحت به الأم الثانية معتقلة في السجون بسبب نشاطها الثوري. هل كانت تريدها أن تكبر وتتحمل صفعات الحياة بمفردها؟ كانت شقيقتها تنقل في سيارتها الأدوية، وتعمل على تهريبها لبعض المناطق في الغوطة حيث منع الدواء عنهم بهدف إجبارهم على التوقف عن المظاهرات ومقاومة النظام.
تم افتضاح أمرها واعتقلت على أحد حواجز النظام القريبة من الغوطة. وكانت قد اتفقت مع شقيقاتها على كلمة سر بينهن وأخبرتهن بضرورة مغادرتهن للبيت فور سماعهن لها. سمحوا لها أن تجري اتصالاً هاتفياً مع شقيقتها، وأبلغتها بكلمة السر.
اضطرت آية للعودة مع شقيقتيها إلى بلاد لم تألفها وهي إدلب. وإلى منزل لا يشبه منزلها فقد كان سجناً ربما يشبه سجن شقيقتها التي تحولت بنظر الأخ إلى وصمة عار على جبين الأسرة، بسبب الاعتقال وما يترتب عليه من أفعال مشينة ستتعرض لها على يد السجانين.
كان الظلم على يد أخ قرر سجنها مع شقيقتيها وحرمانهن من الحياة ثلاث سنوات قبل أن يصبح الهرب للمرة الثانية هو الحل الوحيد. غافلن الأخ وهربن من منزله ولكن هذه المرة إلى تركيا وبدون أمها الثانية التي توفت تحت التعذيب في المعتقل.
آية وجدت نفسها في بحر عذاب لا ينتهي، لم تكن تركيا تحمل رائحة الياسمين الذي أحبته. ولم يكن البيت الذي يؤويها مفعماً بأنفاس الأخت التي كانت أحن من الأم. كان على هذه الطفلة أن تكبر بسرعة وتتحول إلى إنسانة أخرى تحمل في قلبها قبور أحبابها، أم لم تعرفها وأم ربتها واستشهدت.
أصبحت آية تنتقل بين عدة أعمال في محلات تركية لبيع الألبسة لتحصل على لقمة عيشها. ولم تمنعها ظروف عملها القاسي من إكمال دراستها وحصولها على شهادة الثانوية العامة في تركيا. وأن تكون صوتاً لكل معتقلة في السجون يراها، مجتمع متخلّف وصمة عار للأسرة.
لم تجد آية سوى التمثيل منبراً تخاطب به العقول وتحكي قصص وأوجاع المعتقلات، وتكون صوتاً لهن عبر أعمال مسرحية تقدمها بنفسها وتحكي عن معاناتهن في المعتقلات وتنشر تلك الأعمال على موقع اليوتيوب.
آية اليوم في العشرين من عمرها التجأت لدورات الصحافة حتى تدخل في مجال الإعلام وتوصل رسالة المعتقلات لكل الناس وتؤكد لهم أن المعتقلة ضحية وليست مجرمة وأنها شرف وليست عار. آية اليوم هي صوت أختها الشهيدة وصوت عشرات المعتقلات اللواتي لا صوت لهن.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.

No tags

بأي ذنبٍ ضُربت

دخلت تحضر الطعام في المطبخ، آذان المغرب قد اقترب ولم يبق لديها الكثير من الوقت. وضعت البطاطا في المقلاة، وانشغلت بارضاع طفلتها، من دون جدوى٫ فالحليب قد جف من الصوم وقلة الغذاء.
نسيت المسكينة البطاطا، لتعود وتجد ان لونها تحول إلى بني قاتم. في هـذه الاثناء، كان الزوج قد استيقط على صراخ طفلته، ورائحة البطاطا المحروقة. هجم على زوجته، كوحش جائع وانهال عليها ضربا، مع سيل من الشتائم بحقها وعائلتها. تلفظ باقسى العبارات الا ان قلبه الحاقد لم يكتف بهذا الحد، فأخذ الرضيعة من يدها ورماها كما يرمي الكرة غير آبه بما يصيبها، والتقط عصا غليظة اعتاد ضربها بها كجلاد لا تعرف الرحمة إليه سبيلاً..
تقلص حجمها بين يدي جلادها. صرخت مستغيثة بالجيران طلبا للمساعدة. الباب كان موصدا ولا يمكن فتحه إلا من الداخل. بدأ الجيران بطرق الباب بشدة طالبين من الزوج أن يفتح لهم الباب. ركض طفلها ذو الأعوام الثلاثة، ليفتح الباب. وبعد محاولة عدة استغرقت وقتا طويلا تمكن الطفل من الوصول الى قبضته وفتحه، الا ان المسكينة كانت قد خارت قواها وتكورت على نفسها وقد نفش شعرها وازرق جانب عينيها وانصبغ جسدها الضئيل بألوان الأزرق والأحمر والأسود.
كان الزوج قد تعب من كثرة ما ضربها وركلها، أما لسانه النتن فلم يتوقف عن الشتم حتى طال رب العزة في عرشه بينما يرفع صوت الله أكبر في المساجد.
تدخل الجيران وبالكاد أبعدوه عنها، فأشارت بيدها الضعيفة إلى صغيرتها التي كانت تصرخ منذ أكثر من ساعة، قبل أن يبدأ النزال في حلبة المصارعة التي فرضها الزوج في البيت.
أخذه الجار الى بيته، وقد أتعبه حتى وصل، فوزن الزوج كان ثقيل، وزاد في ثقله عناده وإصراره على أنها تستحق الموت.
حتى أنه بعد أن جلس وشرب كاسا بارداً من الماء، أبدى ندمه، ولكن ليس على ضربها بل ابقاها على قيد الحياة.
في هذه الاثناء كانت الزوجة فقد فقدت وعيها، وبعد مساعدة الجيران لها، استفاقت من جديد الى هـذه الحياة التي لم يربطها بها شيء إلا أطفالها. استجمعت المسكينة قواها وحاولت الوقوف وضم صغيريها إلى حضنها المتعب، ثم جرت نفسها نحو الحمام تسكب الماء البارد على رضوض ملئت معظم جسدها.
جمعت بعض الأشياء التي تخص ابنتها، وغادرت البيت. لم يسمح لها الوحش باصطحاب ابنها، الصبي له انما البنت لها لأنها ستصبح مثل امها عندما تكبر.
غادرت المنزل، ولم تدر أين تتجه في هذا الليل، فبلدتها بعيدة وهناك الكثير من الحواجز لتصل إليهم. أمضت ليلتها في بهو إحدى المشافي القريبة وفي الصباح انطلقت إلى أهلها شاكية باكية…
أمضت شهراً كاملاً عندهم من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عنها أو عن ابنته. كان قلبه المتحجر يستمع إلى عقله الأعوج، في رأسه هو ابن الشام وابن الشاغور وهي ابنة الريف وشتان بينهما.
تدخل بعض الناس للصلحة بينهما، وامضوا شهرا يحاولون إقناعه بإعادتها إلى البيت. أما هي فكانت واقعة بين نارين، نار زوجها المتأججة دوماً، ونار فراقها لولدها الذي لم تره لشهرين متتالين.
اقتنع المغرور أخيراً، وقرر أن يكسر على أنفه كيسا من البصل ليعيدها إلى البيت، إلا أنه اشترط عدم ذهابه بنفسه لأهلها. كرامته لا تسمح له دخول بيت ربى بنات مثلها. يحرقن الطعام لأزواجهن وخاصة في رمضان. يا للجريمة النكراء التي ارتكبتها تلك الزوجة بحق زوجها. أتجرؤ على حرق صحن من البطاطا!!!
فعلاً ذنب عظيم. أعظم من ذنب قابيل وأخوة يوسف وبني إسرائيل. لو علم فرعون بذنبها لن نتوقع ردة فعله، هناك احتمال أن يامر بقطع يديها ورجليها أو أن يأمر بالقائها في زيت مغلي كما فعل بالماشطة…..
يجب أن تحمد الله وتشكره هذه الزوجة، فقد انعم عليها بزوج رحيم عطوف، اكتفى فقط بضربها وشتمها عقاباً على ما اقترفت يمينها.
مرت سنوات، ولم ينس الناس هذه الحادثة. صار ينظر إلى بسام بعين ساخطة ومستهزئة، ويذكر اسمه في مجالس الضحك والاستهزاء، إلا أن هذا كله لم يمنعه من تكرار ضربه لها وإهانتها كل يوم على كل موقف..

No tags

أوراق ثبوتية

“مضت سبع ساعات … ما زلت أنتظر وأستذكر سبع سنوات مرت قضيتها في شوارع دمشق والغوطة الشرقية لأسقط النظام الحاكم ، وها أنا اليوم أحتاج أوراقه الثبوتية … لأعبر”.

عندما بدأت الثورة السورية شارك أغلب الشباب السوري بها دون أدنى تفكير بالخطوات اللاحقة، فقد كانت استجابة سريعة لثورة الحرية وتلبية لنداء انهاء حقبة الاستبداد والظلم في سوريا.

كنت في السنة الثالثة بالجامعة، انخرطت في صفوف الثورة الأولى ومع ذلك تابعت دراستي وترفعت للسنة الرابعة واخترت اختصاص تصميم الخرائط الكترونياً.

لم أتوان عن الحراك الثوري وشاركت في اعتصام طلاب الطب الذي لم تمض عليه دقائق حتى هاجمنا شبيحة اتحاد الطلبة.

أعددت مشروع التخرج وقدمت الامتحان وكنت انتظر تخرجي، لكن تم اعتقالي وحُجبت علاماتي في الجامعة. وعندما خرجت من الاعتقال ضمن صفقة تفاوض لم أتمكن من العودة لجامعتي لاستكمل موادي التي علقت، و لا حتى أن أحصل على اثبات لوجودي في الجامعة بسبب وضعي الأمني. عدت إلى الغوطة الشرقية التي ترافق بداية تحريرها مع خروجي من السجن، حيث بدأت مع صديقاتي بتأسيس أول مركز تعليمي في الغوطة وجمعنا أطفال المدينة، وتكاثر هذا المركز بسرعة ليصبح مؤسسة تعليمية متكاملة بلغ عدد مراكزه خلال عامين (28) مركزاً.

تنقلت في الأعمال خلال حصار الغوطة، من النشاط السياسي، للتعليم، للمجلس المحلي والمحافظة والتمكين النسائي والإعلام، مؤجلة حلمي في استكمال تخرجي حتى سقوط النظام أو الحصول على فرصة أخرى لأتابع طريقي في تحصيلي العلمي وتحقيق حلمي.

وعندما تم تهجيرنا من الغوطة الشرقية في الشهر الرابع من عام 2018 ووصلنا إلى الشمال السوري، عادت لنا أحلامنا في الدراسة و استكمال تعليمنا أو متابعة نشاطنا. لكن اصطدمنا بواقع مرير جعلنا نفضل الموت تحت براميل و حمم النظام التي نجونا منها لتلحقنا لعنة الأوراق الثبوتية، حيث لم تعترف المجالس المحلية الموجودة في المناطق المحررة بأوراقنا الثبوتية المسجلة لدى المجالس المحلية للمناطق المهجرة، بل كانت تعرف بأوراق النظام، و ترفض الاعتراف بسجلات المجالس المحلية التي تعود معها إلى السلطة الأعلى، وهي الحكومة المؤقتة، فاضطر الكثير من المهجرين إلى إعادة تثبيت واقعاتهم ومنهم من قام بتوكيل محام أو معقب معاملات في مناطق النظام بمبالغ باهظة ليحصل على أوراقه لتعترف بها هذه المجالس المحلية.

أما الجامعات فجميعها سواء كانت بالداخل السوري أم بالخارج فتحتاج إلى كشف علامات صادر عن الجامعة التي تتبع للنظام لتتمكن من التقديم على منحة، أو تضطر للعودة لإعادة امتحان الشهادة الثانوية لتحصل على فرصة جديدة بالقبول الجامعي.

الآلاف من الشباب السوري مطلوب لقوات النظام، ولا يستطيع أن يحصل على هذه الأوراق، ولا بد لك أن تلجأ لأحد السماسرة والوسطاء بيننا وبين موظفي النظام الفاسدين لتحصل على أوراقك.

حاولت استخراج كشف علامات و تواصلت مع أحد هؤلاء المرتزقة ليصعقني بالتسعيرة … ثمانمئة دولار بشكل أولي.

حسنا، أريد جواز سفر… ألف وخمسمئة دولار!

توقف لا أريد أن أعرف بقية الأسعار، من أين لي بهذه الدولارات وأنا التي خرجت من بين براثن حصار ما عرف التاريخ مثله وخسرت كل ما أملك وهجّرت، ولم يُسمح لي إلا باصطحاب حقيبة سفر أضع بها ما نجا من الحرب.

ما الذي حل لتصبح الأسعار هكذا؟

ما هو الحل الممكن أن أتبعه لأستطيع إكمال حلمي وأي عمل قد أعمل به يكون مردوده يكفي لهذه الأسعار؟

دخلت في موجة اكتئاب وصعقت مما جرى وحالي هذا يشبه حال الشباب السوري الذي لوحق من قبل النظام وفقد أوراقه. لا نستطيع متابعة دراستنا أو التقديم على عمل يحتاج إلى شهاداتنا أو إثبات تحصيلنا العلمي. ولا نستطيع استخراج أوراقنا من سجلات النظام. وقد غُيب هذا الموضوع بشكل كامل عن كل تشكيلات المعارضة السورية الخارجية، ولم يفاوض أحد عليه، وكأننا يجب علينا أن نستمر بفقدان طموحنا أو نفعل شيئا ما للحصول على هذه المبالغ.

قررت أن أوقف حلمي في متابعة دراستي لمدة سنة على الأقل ريثما أستطيع الحصول على كشف علامات. لملمت مصيبتي وقررت أن أعتبرها سنة حصار أخرى تضاف إلى ما عانيناه في غوطتنا التي خسرناها رغم صمودنا، لأدخل في صدمة أخرى حيث دعيت إلى حضور ورشة في تركيا، ولكن واجهني عائق وهو عدم امتلاكي لجواز سفر. لكن الهيئة المنظمة للورشة لم تستسلم، حيث حصلوا لي على إذن سفر مؤقت لدخول تركيا، واقترب يوم السفر.

أعددت حقيبة السفر وتوجهت لمعبر باب الهوى و كلي ثقة بدخولي تركيا حيث سألتقي قسماً كبيراً من أصدقائي وأهلي، الذين باعدت بيني و بينهم الحرب.

ولكن بمجرد وصولي للنقطة صفر، كما يسمونها، تم إيقافي ومنعي من الدخول و السؤال الأول الذي وجه لي: “أين جواز سفرك؟”

لا أملك جواز سفر ولكن أملك تصريح دخول من المفترض أن يصل إليكم فبحث الموظف عن اسمي و لكن دون جدوى.

قال الموظف: “لا يوجد تأكيد”. قلت له: “لقد تم إبلاغي من الخارجية بإذن السفر، هل بإمكانك أن تتواصل مع الموظف على الجانب التركي؟”، فأجابني بلا.

بقيت سبع ساعات ما بين تواصل مع الخارجية ومحاولة مرات ومرات مع الموظف والتحايل للوصول إلى الطرف الآخر، وكل تلك المحاولات باءت بالفشل، فجلست على الرصيف لا أملك إلا دموعي التي ذرفتها و أنا أستذكر كل المواقف التي عشتها في هذه السنوات السبع لأعود و أقف على معبر يمتلكه الثوار الذين من المفترض أن يعرفوا حجم مأساتي ومأساة آلاف السوريين، ليطلبوا مني ثبوتيات النظام، لأن تعليمات الأتراك تمنع دخول أي سوري لا يمتلك أوراق النظام، وهم أصدقاء الشعب السوري، ويعيدوني إلى حيث أتيت لأقف هنا و ألعن كل من قصر بحق تضحيات أجيال كاملة دمرت حياتها ومستقبلها من أجل أوراق تصدر عمن قتلها سابقاً ونجت من الموت، ولكنه تمكن منها … بأوراقه الثبوتية.

خاص للشبكة السورية الرابط الأصلي

No tags

فراق الأحبّة أشدّ من الموت

“فقدت أطفالي باكراً قبل أن يسعد قلبي بهم. مروا سريعاً كحلم بين يديك يا موت تشد خطاهم للغياب بعيداً عني. يا موت لي بين أحضانك أحباب كيف سلبتهم مني؟ “

أعيش مع زوجي وأطفالي في ريف إدلب، يتيمة الوالدين. أخي الوحيد فر بعائلته مع بداية الثورة إلى لبنان. أخواتي مع عائلاتهن فرقتنا الحرب كل في مكان. وزوجي مقاتل مع الثوار .
تزايد القصف بأشكاله وأنواعه على قريتنا، هرب السكان خوفاً من الموت. كان الخوف ينهش قلبي على زوجي المقاتل وأطفالي الصغار. نقلنا زوجي مع بعض الحاجيات اللازمة إلى كهـف قريب من القرية. حاول تجهيز المكان للسكن.
كان الكهف بعيداً عن القرية المصابة بلعنة القصف والموت، ينحدر بعدة درجات نحو باطن الأرض، كبير، واسع، ولكنه مظلم لا مدخل للضوء والهواء سوى ذاك الباب العالي. تعب زوجي في رصف أرضيته وتسويتها بالحجارة والتراب. بعد أيام من خروجنا لحقنا الكثير من العائلات لتصبح الكهوف القديمة مسكن القدماء مسكناً آمناً لنا .
ابنتي الكبيرة في السادسة من عمرها، و أخوها الأصغر أربع سنوات، أما الصغيرة فعامين ونصف العام. وكنت حاملاً بجنيني الرابع. أنقل الماء على رأسي من خزان حديدي وضعه زوجي بأقرب مسافة من المغارة. يساعدني زوجي عندما يتواجد. ويؤمن حاجياتنا قبل أن يذهب للرباط والمعارك. يقلقني وأشعرني بخوف من أن أخسره.
زوجي جهّز المغارة بباب حتى لا أخاف أثناء غيابه. الباب أدخل الطمأنينة إلى قلبي بسبب صوت عويل الذئاب القريب وحفيف الأشجار عدا أصوات الانفجارات من القصف الذي يسبب اهتزاز أركان الكهف.
خرجنا من المنزل الخريف في فصل الخريف، وها هو الشتاء يعلن وصوله ببرده ومتاعبه التي أجهدت جسدي، خصوصاً مع مرض ابني الذي لم تناسبه رطوبة الكهف. ساء وضعه الصحي وبعد جهد مع العلاج تحسن وضعه قليلاً. ولكن حالته ساءت حين استيقظت ليلاً على صوت أناته وشهقاته.
الطبيب أخبرنا أن رطوبة الكهف تؤذيه، وأنه يحتاج لمشفى سريعاً ليوضع تحت المراقبة. اضطررنا أن نتركه مع جدته في المشفى ريثما تستقر حاله. جدّته التي رفضت ترك بيتها متحدية القصف، غادرته بسبب مرض حفيدها. وعدت إلى الكهف اللعين الذي وفّر لنا الأمان لكنه أضرّ بصحتنا.
ليلة تركت ابني في المشفى لم يغمض لي جفن، وكأن العالم بأسره علق بحنجرتي، اقتحم علي وحدتي صوت الآذان من بعيد، اتجهت للماء لأغسل نيران خوف لم يتركني لحظة منذ مرض ابني، أقبلت لخالقي ودعوت يارب لاتتركني.
أذكر حين ذهب زوجي إلى المشفى وقال لي: “سأعود وبرفقتي إبننا لا تقلقي”. رددت عليه بابتسامة ذابلة. وفي ساعات الظهيرة أتى شقيق زوجي ليأخذنا إلى بيت عمي في القرية. شعرت بقبضة داخلي تعتصر قلبي. دخلنا المنزل وكانت الوجوه واجمة، صامتة، حزينة. آثار البكاء واضحة، نظرت بقلق ونطقت دون استيعاب: مات ابني! احتضنتني أخت زوجي بالبكاء وقالت: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
دخل زوجي بـطفلي ملفوفاً بين ذراعيه، ومن خلفه والدته بعينيها الدامعتين. خانتني قواي لم أستطع النهوض لأودع فلذة كبدي. يا موت مابال خيولك تمر قربي هائجة وأوراق عمري على غزوات الأيام لم تنكشف أمامك بعد، فمن تترقب أيضا !
عدت بخيبتي ومواجعي إلى نفس القبر القاتم المميت، بذكرى لم تخمد داخلي ما حييت، ومع وحي الذكرى القاتلة بدأت أشعر بآلام المخاض …
دخلت علي والدة زوجي بـابتسامتها الرقيقة، تحمل بين يديها مولودتي كـأني ابنتها. “الحمد لله على سلامتك يا ابنتي” قالت وأعطتني مولودتي. حلوة كـالعسل، هادئة كـنسمة، مضيئة كـنور القمر، احتضنتها بهدوء وقبلتها بسعادة ورضا. عوضني الله بهذه الهدية الملائكية الجميلة التي سـتخفف عن روحي بعضاً من مواجعها.
أنارت روحي وظلماتها وعتمة الكهف القاتم .يلاعبها زوجي ويكلمها ويضحك لحركاتها الناعمة التي شغلت وقتي وحياتي ولم تتجاوز بعد الشهرين من عمرها، سلبت قلوبنا حبا لها كباراً وصغاراً.
الثلوج كانت تكسو كل ما حولنا. وماهي إلا أيام حتى أذابت خيوط الشمس الدافئة الثلوج، ولكن الجو ما زال بارداً. تركنا زوجي ليرابط على إحدى النقاط. ولم يلبث أن عاد متعبا بارداً، ليغفو على دفء الكهف وقد وقدت المدفئة فيه. ساعات وبدأ يلاعب الأطفال.
كانت علامات المرض واضحة على ابنتي الكبرى فأخذها للطبيب ولم يعد حتى المساء. تركها في بيت جدها لتكون بجو صحي أفضل ويتحسن وضعها بعيداً عن الرطوبة القاتلة .
في الصباح بقي زوجي في المنزل يلاعب صغيرتيه، يحتضن هذه ويقبل تلك حتى أنهكم التعب وناموا جميعاً. أشعلت المدفأة ونهضت بخطوات هادئة لأنهي أعمالي خارج الكهف من غسل ملابس وتنظيف الأواني.
كنت أنقل الماء حين سمعت صوت انفجار جفلت منه. أدرت ظهري لأفاجأ بزوجي يخرج من الكهف وألسنة اللهب تأكل جسده الهزيل. لم أعرف ماذا أفعل لهول الصدمة وركضت نحو المغارة لأنقذ طفلتيّ. وإذا بالنار تمنعني من الدخول، وعلى صرخاتي اجتمع الناس وراحوا يعالجون حروق زوجي الظاهرة على جسده، لكن كيف علاج حروق الروح. فقدت ابنتي بانفجار انبوبة الغاز التي كنا نستخدمها لطهو الطعام داخل الكهف .
عدت لمنزلي وحيدة برفقة زوجي المحترق وأحضرنا ابنتنا المريضة من بيت جدها. فقدت أطفالي باكراً قبل أن يسعد قلبي بهم. مروا سريعاً كحلم بين يديك يا موت تشد خطاهم للغياب بعيداً عني. يا موت لي بين أحضانك أحباب كيف سلبتهم مني؟ وكيف وصلت بلا موعد وتركت روحي في عراء الأنين؟
بالأمس كانوا هنا. ما بين ماض يفرض نفسه علينا ونحاول نسيانه، ولكنه يأبى إلا أن نذكره يحاصرنا وما بيدنا إلا أن نستقبل الحاضر بيدنا محاولين تغييره والتحكم فيه لكنه يأبى إلا أن نتقبله .
بعد أشهر تحسن وضع زوجي وأصبح بإمكانه أن يمشي على عكازين، يخطو كـطفل يتعلم المشي من جديد. أخبرته نبأ حملي وكم فرح وسعد، والآن يمشي متكئا بجسده المتمايل مع جسدي بثقل الحمل ليكون كل منا عكازاً للآخر على نائبات الدهر ولعنة الحرب التي حتى الآن لم تهدأ.
نمضي لإكمال الطريق معا ولا ندري الخفايا ومايخبئ لنا الغيب من أقدار محتومة، منتظرين السلام أن يحل بالنهاية على أرواحنا قبل الأجساد .

فاطمة حاج موسى (25 عاماً) من إدلب، طالبة جامعية في معهد الإعلام .

 

القصة من موقع حكايات سوريا الرابط الأصلي

No tags

ندبة ذعر لا تمحى

انتشرت إشاعة في البلدة، تفيد بأن البلدة محاصرة من كل جهاتها، وأن الجنود على استعداد تام للدخول بأسلحتهم، وأخذ جميع الذكور إلى المعتقلات والسجون وربما ذبحهم في الساحة العامة.

حين وصلت هذه الاشاعة إلى أذني الفتى ذو الأحد عشر عاماً، فما كان منه إلا البكاء بصوت عال صار يقفز في الهواء ككرة تضرب بشكل سريع. ملأ صوته البيت ووصل إلى مسامع الجيران.

راح يصرخ ويقول لأمه: “أمي خبئيني. لا أريد أن أموت. والله لم أقم بأي شيء. لماذا يريدون ذبحي”.

صار يركض يميناً وشمالا. يدخل الغرفة ثم يخرج منها. تقطّع صوته. جف حلقه. أراد شرب الماء لكنه لم يستطع أن يهدأ لدقيقة واحدة ليتمكن من الشرب.

حاولت أمه واخوته الخائفون أن يهدئوا من روعه. كانت دموعهم الحارقة تنسال على وجوههم.

قالت أمه: “لا تخف، لا أحد يريد أن يقتلك، هذا الكلام كذب”.

لم يكن يسمع كلام والدته، ففكره مشغول بالإشاعة، فهي قد دخلت إلى عقله وعششت فيه.

الجميع كان خائفاً، ولكن بدرجات متفاوتة، ورغم خوفهم، حاولوا تهدئته، ولكن من دون جدوى.

فجأة تذكرت زوجة عمه، قصة سمعتها سابقا، مفادها أن تستمع إلى المخاوف وتحاكيها ثم تجد حلا يرضي الخائف. سارت نحوه. تناولت كأس الماء وضمت الطفل إليها وربتت على ظهره ثم طلبت منه أن يشرب قليلاً، وقالت بصوت منخفض: “لا تخف. سوف أجد لك طريقة تختبئ بها. سأعلمك كلمات تجعلهم لا يرونك. اهدأ”.

هدأ الطفل قليلاً، استرعت انتباهه بحديثها. سألها: “أين اختبأ؟ هل أنت متأكدة من أنهم لن يروني؟ هل أنت أكيدة بأني لن أذبح؟”.

هزت برأسها لتجعله يطمئن. ابتسمت له وفي قلبها حرقة، وطلبت منه دخول الحمام وغسل وجهه. بعدها مسكت يده، ومشت به إلى غرفة مظلمة، وطلبت منه النوم تحت السرير، وعلمته كلمات من القرآن الكريم. قرأ الكلمات واستلقى وصوته يتقطع من الخوف كقلبه الصغير، ويداه ترتجفان كعجوز هرم. ألقت عليه عدة أغطية وسترت السرير حتى لا يظهر ما تحته.

نام المسكين حتى الصباح، وقبل أن تشرق الشمس فتح عيناه، الا أنه لم يتجرأ على الخروج من مخبئه. تفقد المكان من فتحة صغيرة جداً، راقب من خلالها المكان لوقت. وعندما تأكد أن المكان آمن، خرج من مخبئه ليتفقد باقي العائلة والبيت. وجد أن الجميع بخير إلا هو، فقد كان يشعر بالوهن العام وألم في البطن، وبدأ يتقيأ. لاحقا تبين أنه مصاب بمرض الريقان بنسبة عالية جدا وصلت حد الخطر.

دام مرضه عدة أسابيع ثم تعافى جسدياً لكن هذه الحادثة تركت في نفسه ندبة يعلم الله وحده هل تمحى أم لا!.

No tags

أحلام قتلتها الحرب

بعد وفاة أمها اضطرت رشا أن تأخذ مكانها. فصارت أماً لشقيقاتها الثلاث، وراعية لأبيها ومساندة لشقيقها وعائلته. صارت جسر البيت وعموده. مرت السنوات على هذه الحال. لم تكن تحلم بالزواج ولبس الثوب الأبيض.
حين بدأ الحراك الشعبي، كانت البلدة التي تعيش فيها من ضمن البلدات التي انتفضت.
دقت طبول الحرب ووصلت الى بلدتها التي شاركت في الحراك الشعبي. ما اضطرها النزوح.
استأجرت مع عائلتها بيتاً قديماً، تشعر فيه بأنك مهدد في أي لحظة بأن تكون بين أنقاضه. إلا أنه ومع انعدام البديل اضطرت العائلة للعيش فيه أشهراً عدة.
في أحد الأيام، قرع بابهم رجل من بلدتهم، عمره 60 عاماً، توفيت زوجته فجاء إليهم قاصداً الزواج.
لم يكن أمام رشا أي خيار، فقد بلغت 40 عاماً. وأمام ضغط المجتمع الذي يعتبر المرأة التي تتأخر بالزواج عانساً وكائناً ناقصاً، اضطرت إلى الموافقة.
فترة الخطوبة كانت قصيرة جداً. فالعريس لا يملك الوقت وهو على عجلة من أمره.
حدد موعد الزفاف، ودعيتُ إلى الحفل، كوني من البلدة نفسها.
حين وصلت، رأيت العروس تقوم بنشر الغسيل. لا إشارات توحي أن اليوم هو موعد زفافها. وجهها متعب، لا ملامح سعادة عليه. استقبلتنا بابتسامة أقرب إلى البكاء، ثم أدخلتنا إلى غرفة صغيرة، تحتوي على أثاث قليل، وضوء أصفر خافت زاد الجو كآبة وحزناً. جلسنا على الأرض، وحاولنا أن نخلق جواً من الفرح. نادينا العروس وطلبنا منها الجلوس على كرسي. كانت ترتدي ثياباً قديمة، وكان واضحاً أنها قضت كل يومها فيها، ولعلها لم تغيرها منذ يومين. طلبنا منها أن تظهر زينتها لنا، فاليوم يوم فرحها.
غابت قليلاً، ثم عادت وقد ارتدت ثياباً جديدة عادية جداً، لم تكن لتلبسها لو كانت إحدى المدعوات إلى زفاف إحداهن. دخلت العروس وفي يدها إبريقاً من الشاي وعلت وجهها ابتسامة صفراء وقد اغرورقت عيناها بالدموع، واعتصر قلبها على فرحها الذي ضيعته الحرب ونزوحها. تأثرنا بحالها، وحاولنا أن نغير الجو. فطلبنا من والدها الذي جلس بيننا من دون أن يتوقف عن الكلام أن يخرج قليلاً ويتركنا وحدنا معها، رغبة منا في تلطيف الجو، علها تشعر ببعض الفرح. وهذا ما حصل. استطعنا تغيير الجو قليلاً. بعد مضي ساعة تقريباً، جاء العريس ليصطحب زوجته البائسة إلى عش لم يكن له أصلاً، وليس فيه إلا فرشة وغطاءً وحصيراً ممزقاً، تبرع له بها بعض المحسنين. حملت رشا كيسين كانا وراء الباب، وضعت فيهما جهازها كله، وشرعت تودعنا واحدة تلو الأخرى.
لم تستطع الكلام، بل اكتفت بالبكاء على حظها العاثر. تتالت في ذهنها الصور، ومر أمامها شريط حياتها. اليوم هي عروس إلا أن فرحها ضاع بين اليتم والنزوح والفقر والحظ السيئ.
لعنت أيامها وظروفها. فبعد كل هذه السنوات والتعب والانتظار لغد أفضل، لم يحصل شيء. وها هي الآن تتزوج من دون أن تحصل على فرصة الشعور بأنها أنثى أو أنها تستحق الحياة.

No tags

اليوم الأخير في عمر بيتنا وعائلة الطفل الصغير

“لم يغب عن ذاكرتي ذاك الطفل الصغير. اختبأ بجانب الحائط في الجهة المقابلة لمنزله. وضع أكفّه الصغيرة على وجهه، ظنّا منه أنها قد تحميه وتبعد عنه بعض الأذى.”

صوت مرعب… غبار كثيف… وصراخ يتعالى في المكان. للحظة الأولى لا أحد يعلم ما الذي يحدث وأي كارثة حلت بنا. يا ترى هل نحن الآن في غيبوبة أم أننا في عالم آخر!

قبل لحظات قليلة، لم يكن المكان يبدو بهذا الشكل وبهذه الفوضى الرهيبة، ولكن بعد برهة من الوقت كان باستطاعتنا التأكد أننا في منزلنا. وأصبح بإمكاننا فهم ما يجري حولنا ولله الحمد لم يستطع صاروخ الطائرة أن يسلبنا أرواحنا. ولكنه كان قادراً أن يدمر معه أحلامنا وأيامنا، ذكرياتنا وابتساماتنا ونصف الحي أيضاً…

كان ذلك في شهر فبراير/شباط من عام 2018، شعرت حينها أنني استيقظت من غفوة دامت لبضع ثواني. كل ثانية فيها أطول من عام كامل. لأسمع أصوات الصراخ ترتفع. لم يكن بإمكاني أبداً تحديد مصدرها. كنت أتساءل هل هي من الداخل أم من الخارج؟ يمكن أن تكون من مكان قريب وربما بعيد! لكنها مرعبة جداً.

وبسرعة بدأت أركض محاولة إيجاد مصدر الأصوات والصرخات. رأيت أشخاصاً كثر أتوا من جميع الإتجاهات، بعضهم يحاول دفع الباب أو حتى إيجاده… ومنهم من يحاول إطفاء النار الملتهبة وفي قلوبهم ألف نار ونار ليس بإستطاعتهم إخمادها.
وهناك في الجهة الأخرى من يقوم بانتشال الضحايا وإسعاف المصابين والبحث عن الناجين. هم يسرعون بكل ما لديهم من قوة ونشاط والوقت يمر ببطء شديد. أراقب بخوف وبعجز كبير وفي قلبي بكاء ودعوات يكاد يصل صوتهما إلى السماء السابعة. يا رب لطفك بنا يا رب كن عوناً وسنداً لنا.

وفجأة ومن تحت الأنقاض والركام، أو بالأحرى من خلف ستار الموت يخرج شخص لم يعد يقوى حتى على استنشاق الهواء. يهرعون إليه مسرعين، يسألونه بخوف: أين البقيه؟ هل من شخص آخر كان معك في المنزل؟ هل هناك من لا يزال على قيد الحياة تحت الركام؟

ينظر إليهم صامتاً، لا جواب لديه. هو أصلاً لا يدري ما الذي جرى. ولا يعلم أنه قد نجا. هذا إذا كان فعلاً مكانه بين الناجين…. يتركونه ويعودون علهم يستطيعون إنقاذ حياة من تبقى. وبالرغم من سرعتهم وقوة غضبهم وخوفهم واندفاعهم إلّا أن الوقت ما زال يمر ببطء شديد.

وقبل الإنتهاء من عمليات البحث عادت الطائرات لترمي بحقدها في حي آخر، وفوق أناس آخرين لا ذنب لهم سوى أنهم يحلمون بالعيش ، العيش بسلام وأمان ولا شي سواه.

ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم يغب عن ذاكرتي ذاك الطفل الصغير. اختبأ بجانب الحائط في الجهة المقابلة لمنزله. وضع أكفّه الصغيرة على وجهه، ظنّا منه أنها قد تحميه وتبعد عنه بعض الأذى. كان كل بضع لحظات يسترق النظر ليرى إن كان أحد أفراد عائلته قد خرج حياً. ثم يخفي وجهه مرة أخرى ويعود للبكاء ومناداة أمّه.

لم يكن ذلك الطفل يعلم أن هذا اليوم كان اليوم الأخير في عمر أفراد عائلته التي ارتقت بأكملها إلى السماء. ولم نكن نتوقع أنه اليوم الأخير في عمر بيتنا الذي تحول إلى رماد قبل أن نودعه.
تهاني أحمد (25 عاماً) تعيش في سراقب، حاصلة على شهادة الثانوية العامة.

No tags

عدسةٌ قاصرة عن اختراق الجدران، وأخبار كالغربان

زنزانة ساكنة وباردة، بابها موصد على ما يزيد عن خمس عشرة امرأة تدور بينهن كل أحاديث الدنيا، ممزوجة بغصّة أنّ أياديهن لا تطال شيئاً. فالأم تحكي عن مشاغبات أطفالها بمزيج من الحسرة والحب والشوق، والابنة تفكر بحال أمها، والزوجة مشتاقة لزوجها شوقاً مضطرباً خائفاً. أحاديث يومية مكرّرة عن الطبخ والجامعة والجمال والمكياج، عن التحقيق والمحقق اللئيم وانتظار أخبار جديدة.

أحاديث نلف بها أصقاع الأرض من مكاننا الضيق الذي يتسع (قسراً) لننام بأرجل ممدودة.

لا يقطع صمتنا وضجيجنا إلا صوت مفاتيح السجّان أو صراخه، عندما يفتح الباب عدة مرات في اليوم من أجل إدخال الطعام أو الخروج إلى الحمام ثلاث مرات فقط، نضبط وقتها على مزاجه أو لإدخال معتقلة جديدة.

في شهر آب أو أيلول من عام ٢٠١٣، يُفتح الباب وتدخل امرأتان، فتاة سمراء جميلة بطول ٍ فارع وشعر أسود قصير، وأمها التي يتجاوز عمرها الخمسين إلى معتقلنا البغيض.

وكعادتنا، تدفعنا اللهفة لمعرفة ماذا يحصل في العالم الخارجي الذي انقطعنا عنه قسراً.

جلسنا جميعنا حول المرأتين وبدأ سيلٌ من الأسئلة، سألنا عن كل شيء، عن سوريا كلها، الاقتصاد والأسعار، الطقس، التطورات التي تشهدها البلد. هل هناك مؤشرات للإفراج عن المعتقلين، هل هناك أيّ أمل بحريتنا، ورؤية الضوء من جديد؟

ثم سألناهما: لماذا اعتقلوكما؟ ما سبب وجودك أنت وأمك في هذا المكان؟

فكانت إجابة الابنة أن أحد الأسباب هو إعجابها بمنشور عن مجزرة الكيماوي.

بدت ملامح الصّمت والدّهشة والخوف واضحةً على وجوهنا جميعاً.

سألنا مرة ثانية وكأنَّ صمماً أصابنا فلم نسمع: كيماوي؟

بجواب صادم خارج توقعاتنا قالت الفتاة: نعم، ضربوا الغوطة بالسلاح الكيماوي، واستشهد الكثير اختناقاً.

مجزرة بشعة طالت الأطفال والنساء والجميع في الغوطة.

لم يكن هناك حاجة لمعرفة كثير من التفاصيل. ما سمعناه كان كافياً أن يخنقنا جميعاً. تحجرت العيون ثم امتلأت بدموع العجز والقهر والخذلان.

اختنقنا بصمتنا. وهاجمتنا أسئلة بلا أجوبة وإنزوينا كل واحدة بمكانها خوفاً وقهراً.

في تلك الأثناء هاجمتنا توقعات أفلاطونية عن هذا العالم الغريب، لفرط سذاجتنا سألنا أنفسنا: هل هذا الفعل الدنيء نهاية نظام الاستبداد والديكتاتورية؟

هل الدول والشعوب والمنظمات الحقوقية والإنسانية ستقف متفرجة أمام هذه المجزرة.

وربما تأملنا أنّ هذا ما سيحدث، سيتحرك العالم من أجل السوريين المخنوقين.

لم يكن لدينا جواب حقيقي. ومدة بقائنا في هذا المكان أوصلت رسالة واضحة: المجرم أفلت من العدالة.

وفي عام ٢٠١٤ كنت خارج حيطان هذه الزنزانة. أريد أن أعرف كل شيء بنفسي. جاءت ذكرى هجمة الكيماوي، لم أكن أتخيل أنّ هذا حصل!

هاجمتني صور الأطفال الضحايا وصرخات الناس الفزعة، كأنّها القيامة. صفعتني كلمات الناجين وشهاداتهم. هنا، على مدّ النظر أرقام ألصقوها على جباه الأطفال لإحصاء الضحايا.

اختنقت أيام وأنا أرى ذكريات موثقة تروي ما حدث. كان الزبد الذي يغطي فم الأطفال والنساء يخنقني ألف مرة.

عاقبت نفسي بالبكاء المر، لعنت هذا العالم الذي بقي يتنفس.

وها نحن على مشارف نهاية ٢٠١٨، ننظر خلفنا ويؤلمنا جرحنا الذي لم يلتئم.

شهد العالم هجمات كيماوي أخرى في خان شيخون والغوطة وغيرها من مناطق سوريا. ندد العالم بما حصل كل مرة، وبكينا واحترقنا وصرخنا حتى بُحَ صوتنا “أيها العالم هل تسمعنا؟!”.

انتهك النظام السوري كل القوانين والتشريعات وأهان الكرامة الإنسانية. أحرق البشر والحجر.

تجاهل القوانين الدولية وأنكر جرائمه التي ارتكبها على مرأى العالم.

لم يكن الكيماوي سلاحه فحسب، يل خنقنا جميعاً بكل الأسلحة والوسائل، ما زلنا نتنفس الكيماوي.

وآلمنا أكثر أنّه المنتصر في ساحات الإعلام، والعالم يعلن عجزه واستسلامه.

No tags