انتباه.. حربي روسي في الأجواء

مرعوبة جدّاً في هذه الأثناء، منذ ثوانٍ فقط، ألقت علينا طائرات الأسد والروس شيئاً ما، برميلاً متفجراً كما أظن، بسبب صوت انفجاره العالي جدّاً، أو لربما كان صاروخاً. المهم أنهم في هذه الساعة قرروا قصف مدينتي “كفرنبل”  في ريف محافظة إدلب، وقبلها بلدة “كنصفرة”، وقبلها “كفرزيتا”، وإن أردت أن أحصي القرى والبلدات التي تعرضت للقصف، ولا تزال ،فلن أنتهي حتى مساء الغد، إن قُدر لي أن أعيشه.
توقفتُ ثوانٍ عن الكتابة لأراجع المراصد وأعلم أين ألقت الطائرات حمولتها، ليس المكان بعيداً عنّا، مستشفى “أورينت” الذي سبق أن خرج عن الخدمة عقب غاراتٍ عديدة عليه خلال اليومين الفائتين.
ماذا لو أمكننا فقط أن نحول صوت الرعب ومقدار الخوف الذي نعايشه كل ثانية ودقيقة إلى حروف؟! لو يمكنني أن أنقل فقط ما أعايشه الآن بدقّةٍ مطلقة!
أصبحت الساعة الثالثة فجراً، وقت السحور، لا طاقة لنا على تناول الطعام، لا طاقة لنا على شيء، نحاول استغلال كلّ دقيقة صمتٍ، لننعم بنوم يكفي أجسادنا، آملين بهدوءٍ قصير، حالمين بسماء صافية.
أكثر ما يحرنني الآن، هو أنني أكتب بلا فائدة، فما الجدوى من هذه الكلمات سوى تلقي الشفقة، ونشر البؤس، والحزن، وتلقي الدعاء؟ ما الجدوى؟!!
لطالما أفرغت غضبي بالكتابة. حزني، ألمي، ولكن الخوف شيء آخر، صدّقوني.
الخوف شيء لا يمكن إفراغه، لا يمكن شرحه، أو حتى السيطرة عليه.
أتأقلم، وأحاول أن أتعايش مع الرعب، أمارس أنشطتي اليومية المعتادة، لكن مع إضافة جبرية واحدة وهي الخوف.
وصلت إلى مرحلة أخاف فيها نزع حجابي، أخاف أن أموت بشكل ما غير محتشم ربما، وأن يلتقطوا الصور لجثتي بشكل غير لائق، ميتة، هادئة لا أشعر بشيء. نعم نحن في هذه المرحلة نفكر كثيراً بطريقة موتنا، كيف ستكون؟ هل سنتألم؟ من سيكون الأول؟ ومن هو الأخير؟
خلال الأزمات يبدو الإنسان وكأنّه يودعُ كل شيء، وكأنّه يرى كل شيء للمرة الأخيرة، ينظر فقط ويتأمل كل تفصيل بحسرة، وغصّة تخنقه.
لطالما كرهت لحظات الوداع، البكاء، والانتقال، وأنا اليوم أشعر أنني مجبرة على وداع كلّ إنسان عرفته، إن كنت ُ قد كرهته أو أحببته، كل قطعة أثاث، فنجان قهوتي، وسادتي، كل شجرة، وجدار، وحجر.
كل شيء أقمت معه ذكرى حتى تلك التي كانت بمحض الصدفة.

سنرجع يوماً إلى حينا..

أنا بقيت صامدة بسوريا لآخر نفس، وبكل مرّة يصير قصف ببلدي “دوما”. كنت شوف المدنيين عم يحاولوا يبنوا المُهدَّم حجرة حجرة.
كتير من الأحيان يكون البناء، والاستمرار بالحياة فوق دم، أو ذكرى استشهاد أحد سكان البيت.
بالرّغم من وحشية القصف والحصار. النّاس وجدوا بدائل لكل شيء ليستمروا بالحياة، ويحافظوا على بيوتهم، وأراضيهم، وبلدهم.
لكن للأسف كل المناطق هُجّرِت قسريّاً، ونزوح الناس كان إجباري بسبب الخوف من الموت، أو الاعتقال.
تركوا وراهم بيوتهم، وممتلكاتهم، وذكرياتهم وشقاء عمرهم؛ ليقدروا ينجوا بحياتهم، ويستمروا فيها مع يلي بقيوا من عائلاتهم.
الوضع حاليًّا بسوريا مو إعادة إعمار، و لا عودة آمنة، ولا فيه ضمانات. مازال القصف موجود، والحرب قائمة، وفي ناس عم يطالبوا بالحريّة والعيش بكرامة.
في ناس مختفين ومعتقلين قسرًا، وغير معروف مصيرهم. عم يتعذبوا بالسّجون من سنوات.
كل مُهجَّر ما بيقدر يرجع طالما المسؤول عن القصف، والحصار، والاختفاء القسري لم يُحاسَب. وطالما ما في ضمانة للعودة الآمنة، وعدم الاعتقال.
للأسف الوضع مو مثالي،  والناس الي عم يحاولوا يرجعوا يبنوا، ويعيشوا. عم يكملوا الحياة غصب عنهم.  غير قادرين يحكوا عن الجرائم يلي شهدوها، وغير قادرين يطالبوا بأولادهم المعتقلين، أومعرفة مصيرهم. ولا حتى يطالبوا بأبسط أولويات الحياة من مي، وكهربا، وشويّة حرية، وكرامة.

على قيد الحياة أم على قيد الوطن؟

“لا أعلم، أشمُّ رائحةَ الموتِ في كلّ مكانٍ. كلّ شيءٍ أصبح رماديّاً، الشّوارع، المباني، الأسواقُ، والبشر! الوضعُ لا يُطاقُ يا براءة.
إلى أينَ سنهربُ هذهِ المرّة؟ منْ سيحميْنا؟ أو بصيغةٍ أخرى: كيفَ نضمنُ لأنفسنا مِيتةً سريعةً، قطعةً واحدةً، بلا صورٍ، وإعلامٍ، وإحصاءاتٍ؟ كيف نضمنُ أن نكوْنَ ماهيتنا كبشرٍ فقط، لا أرقامَ، لا شهداءَ، ولا ضحايا، ولا جثث، ولا +18 ؟ ”
أغلقت براءة الخطَّ. بعد سماعها كلماتٍ “كالسّكاكين” على حدّ وصفها، ولعجزها عن إقناعي في ترك محافظة إدلب “عاصمة الثّورة” كما يصفونها المنكوبة، كما أراها عن قربٍ شديدٍ، والعودة إلى مدينة الطّبقة في ريف محافظة الرّقّة، حيث كنت أعيش سابقاً.
الرّابع من نيسان من العام 2019، يومٌ يُفترضُ أن يكون عاديّاً جدّاً، لكنّه تحوّل فجأةً، في الصّباح، بسبب القصف الوحشيّ للأسد، والرّوس إلى عزاءٍ ضخم. يمتدّ على كافة المساحات، والوجوه.
وسوريا الصّغرى بأكملها تذهب “لتأخذ بالخاطر” للتّعزية: بأخٍ، وابنةٍ، وجارٍ،  وطفلةٍ. بكلّ من نام ليلَةَ هذا اليوم خارجَ منزلِه. عانقَ الأرضَ، وشعرَ بالرّاحة، والهدوءِ آخرَ المطاف.
قيامة؟! عن أيّ قيامةٍ تتحدّثون؟ وكيف تشبّهون، ما تشبّهون؟!
جاهدةٌ الآن. أبحثُ عن كلماتٍ جديدةٍ. لم أستخدمها سابقاً في وصف ألمِ كلّ سوري في إدلب.
كلمات لم يملّها السّوريُّ بعد. كلمات تبقيني أكتبُ، وأحترم هذه النّعمة، نعمة امتلاك قوّة الكلمة، وتسجيلها، وحفظها حتّى الغد. إنْ بقيت فوق الأرض، كلمات سيقرأها أولادكم، ويعرفون معنى أن يكون المرءُ سوريّاً.
قبل أن أنام هذه اللّيلة. سأسأل نفسي كما اعتدت كل ليلة: ماذا بعد؟ لِمَ يجب أن نعاني؟ ما معنى ألّا نخاف؟ ما معنى الوطن؟ ثمّ أجد نفسي غارقةً في بئرِ تساؤلاتٍ عميقٍ، عميقٍ جدّاً لدرجة أنّه يجعلني ألتقط أنفاسي. معتقدة أنّها اللّيلة الأخيرة لي. لأستيقظ صباحاً خائبةَ الظّنّ، يُصاحب خيبَتي القصفُ، والأخبارُ، والدّموع.
كلّ هذا القتل جعلنا قساةً. باردي الوجوه، والأيدي.  مختبئين تحت الوسائد. ندعوا الله ألّا يكون من يخصّنا بين من قتلته طائراتُ، وصواريخُ الأسد، والرّوس.
وعندما نطمئنُّ، نتابع برودَنا، ونلتفت لروتيننا. ستسألونني الآن : “إذن ما الذي يتوجّبُ علينا فعله؟  أنبكي؟ أنصرخ؟ أننتحر؟” لا، لا تفعلوا شيئاً، فاللّوم مرضٌ آخر. أصابتنا الحرب به وزرعت القتل، والموت المتناثرَ حولَنا فينا.
لا تفعلوا شيئاً. حاولوا أن تكونوا غداً على قيد الوطن.

أيادٍ أنهكتها تلويحات وداعٍ متتالية

 

لم يبقَ للعيد سوى ثلاثة أيّام. ركب الشّابُّ درّاجته النّارية، وطلب من ابن أخيه ذي الخمسة عشر ربيعًا الرّكوبَ خلفه؛ لشراء ثيابٍ جديدة للعيد. لكنَّ الرّحلةَ انتهت في المشفى. بعد أن ارتطم رأس الفتى بالرّصيف، حتّى تضرّرت بصلته السّيسائيّة. أمضى العيد في المشفى، ثمَّ رقد في القبر إلى الأبد.

مضت سنتان على تلك الحادثة، ولم يكن قد عاد إلى قلبِ الأمّ، أو الأب نبضُه السّابق. حتّى وصلت نار الحرب إلى بلدتهم، وأُجبِروا تحت قسوة القصفِ بمختلف الأسلحة، على النزوح إلى مزرعةٍ لهم في بلدةٍ مجاورة؛ بحثًا عن الأمان.

سارتِ العائلةُ كاملة. ابتداءً من الجَدّ، والجدّة، وبناتهم، وأزواجهم، وأحفادهم جميعًا إلى تلك المزرعة. التي كانت تحوي بيتًا صغيرًا، تحوطه أشجارٌ مثمرة.

كان العددُ كبيرًا، والأماكن قليلة. تناوبتِ الأسرةُ في النومِ، والرّاحة، وباقي الأعمال. مَضَتْ شهورٌ على تلك الحال.  وفي يوم من أيّام الصيف الحارة، استيقظت الأمّ “سمر” مضطربة القلب، ولِتتخطّى هذه الحالة؛ اصطحبها زوجها برفقةِ ابنتهما الوحيدة الصّغيرة بالسّيّارة، في نزهةٍ قصيرة.  لكنَّ القدرَ غيَّر طريقه كما فعل مع الابن الأكبر، وهذه المرة إلى أقبيةِ السّجونِ والمعتقلات.  بقيت الزوجة والبنت مذهولتين في السّيّارة، وقَدْ ترجمت تصرّفاتُهما الصّدمةَ. كأنَّ الدنيا انتهت…

مضت شهورٌ أخرى، وهم على هذا الحال، إلى أن أتى اليوم الأسود. الذي علمت فيه هذه العائلة البائسة، بمقتلِ الشّاب صاحبِ الدّرّاجة، على يدِ العساكرِ بطريقةٍ غير إنسانيّة.

مرَّ أسبوعٌ آخر. لم تجفَّ فيه الدّموع، ولم يتوقَّف فيه المُعَزّون. إلى أن حلَّت فاجعةٌ أخرى، وكأنَّ القدر لا يريد للمصائب أن تتركَ هذه العائلة. ما حصلَ أنَّ بائَعًا جوّالًا، جاء إلى المزرعة، فاشترى الأولادُ الحلوى، واشتروا لهاني، فأبوه معتقل، والجميع يحبُّ أن يجبر خاطرَه، عدا عن أنّه أصغر فردٍ في العائلة.

نادوه. لم ينالوا ردًّا، وسألوا عنه دون جدوى. انتشرتِ العائلةُ بأكملها. يبحثون في كلّ مكان. ينادون:  “هاني هاني

أين أنتَ يا حبيبي؟ أين اختبأت؟ أحضرنا لك الحلوى “.

الجميعُ كان يفتّش إلّا أمّه، التي تجمَّدَت مكانها، ولم تتحرَّكْ، أو تنادِ. كادَ قلبها أنْ يتوقَّف، ولم تعد رجلاها تحملانها، فسقطت جاثيةً على ركبتيها، وتوقفت عيناها عن الحركة، ولم تعد تسمع غيرَ أصواتٍ تنادي باسم “هاني” ،  وكأنَّ هذا الاسم يُذكَرُ للمرّة الأخيرة.

يَئِسَ الجميعُ منَ التّفتيش، ولم يبقَ غيرُ الماء. قفز فايز- أخو هاني – دون تردّدٍ في الماء. غاب دقائقَ قليلة جدًّا، مرَّت على العائلة ساعاتٍ طوال، ثمَّ خرج، وفي يده جثّة صغيرة صفراء، بشفتينِ زرقاوين، وقد تخشّبت. خرج الشّابُّ المبلّل. في عينيهِ دموعٌ حارقة، وفي حلقه غصّة، وقال بصوتٍ قوي:  “يا رب، يا رب” ثمَّ صمت. عندها انقطعت الأصوات تمامًا. أصيب الجميع بالذّهول.

كانت فاجعةً بكلّ معنى الكلمة. وصل الخبر سريعًا إلى والدِه المسكينِ في معتقله ، ممّا زادَ وضعَه سوءًا. آلمَه الخبرُ، فارتفعت نسبة السَكري في دمه، إلى درجةٍ كبيرة.  كان بحاجةٍ إلى مشفى، وبدلًا من غرفة العناية المشدّدة في مشفى، دخل عنايةً مُشدَّدةً من نوعٍ آخر، ووافته المَنيَّة هناك.

أيضا لم تتركِ المصائبُ هذه العائلة، وترحل، وأخذت فردًا آخرَ، بطريقةٍ أخرى :

عاد كبيرُ العائلة إلى بلدته؛ ليتفقّدَ بيتَه، وعِشَّ أولاده مع جاره. دخل البيت الذي كان بابُه مفتوحًا، ليجدَه مسروقًا، وقد أُحرِقَ قسمٌ كبيرٌ منه، واخترقت شظايا القذائفِ القسمَ الآخرَ. عادت إلى ذاكرته صورةُ أبنائه الثلاثة، وحفيدَيْه.

ابنه الكبير، وحفيده الصغير ماتا غرقًا، والأوسط مات تعذيبًا، والثّالث ذبحًا، وحفيده الآخر بحادثٍ، وها هو بيته ركامٌ أمامه.

حقيقةً حتّى في الخيال لا تُحتَمَل كلّ هذه القسوة، انفجرتِ الشّرايين في رأسه معلنةً انتهاء مآسيه، وعادت روحه إلى بارئها تاركةً زوجةً ثكلى، وأبناءً مقهورين، وكنّةً متألّمة.

قصّتي ليست خياليّة للأسف، هي إحدى قصص الشعب السوري العظيم، الذي مازال لديه أملٌ بغدٍ أفضل.

No tags

جريمة علنيّة، صدىً لماضٍ أليمٍ

أرادت أمّي أن تكتمَ صوتي ، لكنّها لم تعلَم أنَّ صوتَهُ المطعون تفجّرَ في أعماقي ،وأنّ صرخةَ الرّوحِ أكثر تمزيقاً للقلبِ من رصاصة.

كانَ ذلك في ربيع 2012، بُحَّ صوتُ المئذنة من فرطِ بكاها شيخها بعد ذاك اليوم الذي غرقَ فيه الحيُّ كلّهُ بصمتٍ عميق ، وبدأت مونودراما الحرب إذ السّلاح وحده كان يقف على خشبتها أمامنا نحنُ ويردّد تراتيل الموت، الشّوارعُ أقفرت من النّاس ما عدا ذاكَ الشّهيد الذي ما زالَ صوتُهُ يتردّدُ في أذنيّ كصدىً لماضٍ أليمٍ بيني وبينهُ وادٍ من الأيّام .
مضت ثلاثة أشهر ونحنُ نستأجرُ منزلًا في منطقة الدّحاديل القريبة من بساتين داريّا وكفرسوسة، المنطقة مزيج من البيئات السّوريّة المختلفة، قبل الحرب كانت هادئةً وساكنة ومتآلفة إلى أن بدأت الحياة تغيّر روحها و تسيرُ في مجرًى يشبهُ طقوس رواية جورج أورويل 1984 إثر اندلاع الثّورة.

الوشاة في كلّ مكان يختبؤون خلفَ النّظرات البريئة، وصلةِ الدّم القدريّة، وسنينِ العشرة، وميثاق الصّداقة، الكلّ مرتابٌ، خائف، غير واثق بمحيطه، وقد لاحظتُ هذا في الالتفاتاتِ المرتابة لشيخِ الجامع الحورانيّ الشّاب الّذي كان يقفُ مع مجموعةٍ من رجال الأحياء المجاورة أمام منزله ويتّفقون على موعدٍ للمظاهرات في منطقة القدم.

الجامعُ بجوار منزلي تمامًا، كنتُ أسمعُ خطبه والتّكبيرات التي تملأ سماء المنطقة وتهطلُ على قلوبِ الشّبانِ غيثًا من الحماس والتّفاؤل.

في اليوم التّالي لإحدى المظاهرات استيقظنا على أصواتِ الدّبابات وقد أغلقت جميع مخارج المنطقة وحوصرت الدّحاديل من كلّ الجوانب، كانت أصواتُ دعساتِ الفرقة الرّابعة تهزّ القلوب قبلَ الشّوارع. ولا نفتأ نسمعُ صوتَ بابٍ يُخلَع لنسمع بابًا آخر، منعوا الجميع من فتحِ النّوافذ لأنّهم يريدونها جريمةً علنيّة شهودها صمٌّ بكمٌ عُمْي.

اقتربوا كثيرًا من منزلنا استطعت مراقبتهم من شقّ صغير في زاوية شرفة السّطح، أحدهم كان يرفسُ بابًا في أوّلِ الحي وآخرون يتقدّمون فيه وهم يراقبون الأسطح والنّوافذ والأبواب، ويصرخون بأصواتٍ حيوانيّة كي لا يجرؤ أحدٌ على إخراج رأسه، ومشاهدة ما يحصل، وعندما وصلوا إلى منزل الشّيخ الشّاب سحبتني أمّي وهي تهمسُ بخوفٍ مؤنّبةً طيشي.

ارتديت ثلاثةَ أصنافٍ من الملابس فوق بعضها البعض خشيةَ أيديهم العابثة المعروفة بدنس قلوب أصحابها، نظرتُ من نافذة غرفتي من خلفِ السّتارة كان أحدّ الجنود يحملُ بيده بنطالًا عسكريًّا ويضعه أمام البيت المجاور لبيت الشّيخ، ثمَّ دخلَ إلى البيت، وخرج مسرعًا.

بعد قليلٍ علَتْ أصوات العساكر، وكان صوت الشّيخ الشّاب خافتًا تبدو نبرته قلقلةً كأنّما تيقّن أنّه مفارق.

كانوا يصرخون بأعلى صوتهم وكأنّما كلامهم له رسالة تهديدٍ لنا جميعًا : ” ربّكَ بشّار ولى، قول بشار الله ولى ” امتدّت لحظاتُ صمتٍ تلتها صرخةٌ مدويّة أطلقها الشّاب، لتتبعها الصّرخة من أعماقي: ” عم يقتلووووووه، عم يقتلوووه ” ، كتمتها يدُ أمّي كي تخفيها عن مسامعهم، جثوت على الأرض وأنا بحالةٍ هستيريّة.

لم يخرج أحد، حتّى الهواء كتم أنفاسه، مرّت دقائقُ معدودة وأعلنت رصاصةٌ يتيمة موته وفجيعة والده. الّذي خرجَ بعدَ أن ذهبوا بعاداته اليوميّة وفنجان قهوته وجلسَ أمامَ بيته على الدّرجِ ليستقبلَ جثّة ابنه المملوءةِ بالطّعناتِ ورصاصةٍ في الجبين بكلّ هدوء وكأنّه أعدّ نفسه مسبقًا لهذا الحدث، كان مشهدًا غيرَ مألوفٍ أبدًا، وعلى يمينه البنطال العسكري الذي تركته الفرقة الرّابعة كحجّةٍ ودليلٍ لتوهمنا أنَّ قطعةَ قماشٍ سبب كافٍ لإحراقِ المنزل وأصحابه.

وُضعتِ الجثّةُ المطعونة على حافّةٍ منخفضة قرب منزله، ثُمَّ أخفاها جارنا الذي يقطن في الطابق السفلي في بيته خشية أن يعودوا ويأخذوها  لأنّهم لا يبالون بحُرمة الموت.

لكنَّ عيناه المفتوحتان على وسعهما ما زالتا تتشبّثانِ بنظرتي المشدوهة الدّامعة وكأنّما أراد أن يحمّلني أمانة تشييعه أبدًا كي لا يموت في تلكَ اللّحظة ولا يضيع أثر الجريمة تحتَ مظلّة التّعتيم، لكم تمنّيت أن أواسي زوجته التي كانت حاملًا ولهما من الصّبيان اثنين، لكنّني تفاجأتُ أنّها لم تكن في المنزل وقت الحادثة وهذا ما أكّد لي أنّهُ أعدّ نفسه لقدرٍ محتوم دون مخافةٍ ودون تراجع.

دُفِنَ بهدوء معَ ثلّة من الشّهداء في الأحياء المجاورة، دون جنازة، شيّعتهمُ الشّوارع الضّيّقة وحدها،  وبضعة رجال خطفوا الوقت قبل عودة الجيش.

ما زلتُ إلى الآن بعد كلّ تلك السّنوات، أجثو على وقعِ صرخته، أبكي كأنّما أشفي غليل والده، وما زالت نيران المنزل المجاور تتأجّج في أعماقي إلى الآن حقدًا ونقمةً على نظام الأسد وشبّيحته.

ذاكرة بلا ضوء ،وولادة ٌ ثانية

لم تختف الهالات السوداء حول عيني، تلك التي رأيتها بوضوح بعد أن رفعت الطماشة لأول مرّةٍ أمام المرآة في الحمامات، بعد جلسة التعذيب المسائية التي اعتدت عليها.
دخلت حينها الحمام ورفعت عن ساعدي لأرى كدمات مزرقة مخيفة، رسمت بإتقان على الساعد الأيمن والأيسر، أجزم أنه محقق وجلاد محترف.
راقبت زوال هذه الكدمات يوماً إثر يوم، كنت خائفة من الخروج قبل أن تختفي ويراها أهلي، لكن جاءت كدمات جديدة وأنا ما زلت في حبسي.
أما الطماشة فحقيقةً لم تكن سوداء، كانت بقايا ثياب المعتقلين التي نزعت عن أجسادهم عنوة قبل تعذيبهم.
تفاصلينا المملّة لكم كانت تملأ علينا أوقاتنا، لنقل أننا قد خلقنا عالمنا في ذاك المكان، كنا مبدعات في محاربة منافذ الذاكرة، لكنها كانت تغلبنا كثيراً.
في الحمامات كان ثمة نافذة مرتفعة وصغيرة يدخل منها نورٌ واضح في النهار، وكنا نرى القمر منها حين اكتماله أحياناً، ونفكر ماذا سنفعل حين نرى الشمس لأول مرة بعد سجننا، اقتراحات كثيرة، بأن نلبس نظارات شمسية لأنّ أعيننا ستكون حساسة للضوء، وأن نشرب الكثير من المياه كي لا نصاب بضربة شمس وغيرها من التوصيات التي كانت مجرد أماني.

أما الليل فكان مظلماً مجازياً، لكن الأضواء لا تطفَأ أبداً، وبالنسبة لي كان هذا نوعًا من التعذيب، إذ يتساوى عندي الليل والنهار، وهذا ما عانيت منه سنتين بعد خروجي من المعتقل، أصبحت أخاف العتمة أكثر مما يخاف منها الأطفال،وفي الوقت ذاته لا أحب ضوء الليل،تفصيل سخيف، لكنه كان جوهر حياتي حتى استعدت قدرتي على النوم بلا أي مؤثر ضوئي.
لست الوحيدة حتماً.
أما الأعياد؟ فكنا نحاول ألا تكون كمآتم لدينا، إذ كان الفقد حاضراً فيها، الشوق يأكل قلوبنا، الخوف يحاصرنا، والعجز ذاك الوحش يفترسنا في كل دقيقة نخاف فيها أن نقرع الباب لنطلب ماءً للشرب!!
كانت الأعياد محطَّ أحزاننا وأوجاعنا وثقل أيامنا الرتيبة، تلك تذكر أطفالها وتلك تبكي أمها وأخرى تشتاق زوجها، وأنا كان يلازمني وجه أبي.
وجه أبي دائماً كان آخر الوجوه التي أراها، حين اعتقلت وحين خرجت من سوريا بلا عودة، رأيته حينها يكبر عشرات السنوات، يشيخ فجأة ويذبل كشجرة هرمة.

ما زال كل شيء عالقًا في ذاكرتي التي ألاحقها وألومها عندما تنسى الأسماء والتواريخ.
ما زال في أذني صراخ تلك الصبية التي رفضت أن تأكل الخبز الصّباحي بينما أهلها محاصرون في مخيم اليرموك لا يصلهم طعام.
وما زلت أذكر أم ياسين التي تضع أذنها على الباب عندما يبدأ تعذيب المعتقلين، علها تدرك صوتاً تعرفه، أما إيمان فقد أصبحت صديقتي عندما ذكرتها بكلمات أغنية ” مندل يا كريم الغربي”.

أخيراً لم يكن لحكايانا آخِرٌ، ولم يكن التكرار يشعرنا بتفاهة الأشياء، ورغم كل اليأس والعجز الذي ينهشنا، كنا نحب الحياة ونتخيلها كل يوم، و اليوم أنا هنا خارج ذاك المكان، في قلب الذاكرة، أتجوّل بين أروقتها لأروي لكم تلك الحكايا.

في الذكرى الخامسة لخروجي من الاعتقال
١٠-٣-٢٠١٤
١٠-٣-٢٠١٩

No tags

و ماذا بعد؟! ها قد متنا

إدلب ثم إدلب ودائماً ما تتعالى الهتافات بشأنها وتُذكر في أكبر المحافل والمجالس.
إدلب وما الذي تبقى منها؟ فنيَ الجسد وبقيت الروح، أُفُنيتِ يا إدلب وبقينا نحنا نجمع أجزاءك كلما بعثروكِ.
تصعيدٌ، قصفٌ، مجازرٌ ودمار. تشريدٌ، نزوحٌ، تخوفٌ وحصار.
هذه هي إدلب، هذا ما نعايشه كل يوم، على الأرض وفي السماء والتلفاز والانترنت وحتى في الأحلام.
خلال القصف الشديد على مدينة خان شيخون سألتني صديقة ما رأيك أن نفعل شيء؟ أن نتضامن مثلاً، أن نقوم بأي شيء يُشعر أهالينا في خان شيخون بالتضامن معهم، ألا يشعروا بالوحدة. لم أستطع إجابتها فكيف نتضامن مع من يشاركنا بنفس المصير، اليوم هم يموتون وقد يكون دورنا في الغد فكيف نتضامن؟ كيف نقول لهم اصبروا، تحملوا ولا تخشوا الموت؟ كيف سنقول لهم بأنكم تموتون أمام العالم بلا أي شفقة أو إنسانية ؟. وصلنا إلى مراحل قاسية، مؤلمة وحزينة، نحن اليوم عاجزون عن ممارسة حقنا الوحيد، نحن لا نستطيع أن نبقى على قيد الحياة أكثر.
نحن أهل إدلب اللعبة، قالب الحلوى، الجائزة والعقوبة. نحن المُضحّى بهم والمغضوب عليهم لأننا يوماً ما قلنا “يا حرية”.

“شهيد تحت التعذيب” الوصف يلي ما رح أنساه بحياتي

اليوم أنا قررت اني خبركن قصتي, القصة اللي بتمنى ما حدا سوري يمر فيها وما تتكرر. يمكن تكون قاسية عليكن بس هي القصة هي قصة آلاف العائلات بسوريا ويمكن عم تتكرر بهاللحظة اللي عم اكتب فيها. رح ضل احكي وسمع صوتي لأنو ما حدا لازم يتعذب لا المعتقل ولا عيلة المعتقل, كل العالم لازم تعيش حره وما حدا بيستحق ينسجن ظلم.

اسمي مؤمنة الحاج علي بنت يوسف الحاج علي

والدي يوسف الحاج علي كان إمام وخطيب جامع عثمان بن عفان بعربين بالغوطة بريف دمشق
وكان معلم مدرسة بالمدرسة الشرعية

بابا كان إنسان كتير طموح وكان قائد بالنسبة إلي. كل العالم اللي منعرفهن بيحبوه. كان مصر يتعلم لآخر لحظة وهاده اللي علمنا ياه وكان قدوة لألنا. حتى لما اعتقل كان في كتب بغرفتو كان لسا عم يدرس فيهن.

بابا اعتقل بتاريخ ٢٣ حزيران من شهر حزيران ٢٠١٢. فات الأمن حملة مداهمة بالسيارات والدبابات على حارتنا ومشطو كل بيوت الحارة وطلبو من أبي ينزل معهن

كنا كتير خايفين, دقوا الباب وأخدوه معهن. فكرنا إنو بدهن يفتشوا الجامع لهيك اخدوه. بس أبي راح بهداك اليوم وما رجع. الأمن رجعو بهداك اليوم وفتشو البيت وقلبوه فوقاني تحتاني.

كنا أنا وأمي وإخواتي الأربعة. نحنا خمس بنات وأنا الكبيرة. بتذكر انو كان باقي شهر على رمضان وبواحد رمضان هديك السنة بلشت رحلة نزوحنا لمناطق كنا منعتبرها أكتر أماناً بسبب القصف اللي صار يستهدف عربين

حاولنا بكل الطرق الممكنة انو نعرف أي شي عن بابا ولا قدرنا عرف أي شي ولا بأي مكان هو. نزحنا ست مرات بغيابو وآخر مرة فيهن كانت ب ٢٠١٨ على تركيا. كل مرة كانت بداية جديدة وتعب جديد وكل هالشي بدون بابا.

ب ٢٠١٣ تواصل معنا الأستاذ منصور العمري وهو كان معتقل سابق بالفرقة الرابعة وخبرنا انو شاف والدي بالمعتقل وانو كانو سوا وانو منصور علم بابا اللغة الإنكليزية ووالدي تعلم الإنكليزي بشكل منيح خلال تواجده بالمعتقل مع منصور. الأستاذ منصور قدر يطلع قميص معو من المعتقل مكتوب عليه أسماء ٨٢ معتقل التقى فيهن وقت كان بالسجن. الأسماء كانت مكتوبة بالدم والصدئ باستخدام عظمة دجاج. من ضمن هدول الأسماء كان اسم أبي.

صار عنا بصيص أمل وكنا نحلم باليوم اللي رح يرجع يجمعنا بوالدي. بشهر آب ٢٠١٣ صارت مجزرة الكيماوي, توفت عمتي بالكيماوي بزملكا وتوفى جدي بنفس اليوم بالقصف العنيف اللي اجا فوراً بعد المجزرة واستهدف كل الغوطة. كان يوم من أقسى الأيام اللي مرت علينا وبالذات بدون وجود بابا.

رغم كل شي, حاولنا أنا وإخواتي ما نحبط وكنا عم نتطوع بكل المجالات اللي منقدر عليها سواء بالتعليم أو الدعم النفسي للأطفال أو الطبية. الحاجة كانت هائلة بالغوطة وكان كل حدا فينا لازم يشتغل بكذا مجال لنقدر نسد النقص الموجود.

بعام ٢٠١٥ اشتغلت مع منظمة دولتي على مشروع أرشيف التاريخ الشفوي, خلال هاده الشي التقيت بعائلات معتقلين كتار من الغوطة وتشاركنا مع بعض مشاكلنا ووجعنا المشتركين. ما كنا لحالنا باللي صار, كتير عائلات سورية عاشت ألم انتظار المعتقلين بين التعلق بالأمل واليأس والخوف من تلقي أخبار ما بدنا نسمعها أو نفكر فيها.

كنا عم نكبر وأبي بعيد. تزوجت ووالدي ما كان معي ليفرحلي. وخلال أعنف حملة مرت عالغوطة كنت حامل بطفلتي.

ما بعرف كيف نجينا من اللي صار بالغوطة, ما بعرف كيف طلعنا عايشين بس كل هاده الشي ما كان بصعوبة يوم تهجرنا قسرياً وطلعنا بالباصات الخضرة ورحنا عالأتارب
وكنا مجبورين نترك كل شي ذكريات بتربطنا بأبي ورانا بالغوطة.

بنص ٢٠١٨ بلشت تطلع شهادات الوفاة تطلع للمعتقلين بسجون النظام. وحده قريبتنا كانت بسوريا وحاولت تساعدنا لنطلع الورقة اللي من من خلالها فينا نعرف لو أبي عايش أو متوفى

بعد كم يوم حاكتنا وقالت انو قالولي أبوكي عايش وسألتها وين الورقة, قالت رقضو يعطوني ورقة وقالولي روحي عفرع الأمن السياسي لو بدك ياها وأنا خفت وما قدرت روح. أنا صدقتها بهداك الوقت. كان هاده الحديث قبل بولادتي بطفلتي ب ٣ أيام. هي أخفت عنا الحقيقة لشهور من خوفها علينا بعد كل شي مرينا عليه وبسبب إني كنت حامل

بعد كم شهر عرفت إنو أبي متوفى ووصلتنا الورقة اللي بتقول إنو أبي متوفى بدون أي معلومات تانية وبدون ذكر سبب الوفاة

بصراحة أنا ماني مصدقة ولا رح صدق.
كانت الورقة منشورة على مواقع التواصل الإجتماعي منشورة مع التعليق اللي بعمري ما رح انساه ” شهيداً تحت التعذيب”

القصة من صفحة عائلات من أجل الحرية الرابط الأصلي

 

No tags

الحنين إلى وطنٍ منكوب

أربع سنوات من الغربة ولم أكن أسمح لنفسي بالاعتراف، لا.. أنا لا أشعر بالحنين، ولن أعود لوطن لا ينمو ويتكاثر فيه سوى الموت والظلم.

اسمي شادن. عمري ستة وعشرون عاما. كنت أعيش فيما مضى في سوريا، يومها كان لي وطن ومنزل وعائلة!

زارتنا الحرب، وجردتني من كل شيء حتى من نفسي.

قتل النظام أمي وأبي وأختي خلال القصف سنة 2014 في ريف إدلب. التحق بعدها أخي مصطفى (19 عام)  بأحد الفصائل الموجودة في المنطقة. بعدها تغير أخي واختفى، وبقيت وحدي أندب كل شيء واقفة على الأطلال.

بعد سنة ونصف من المأساة التي عصفت بي، قررت اللجوء مع خالي وزوجته إلى ألمانيا، كحال العديد من السوريين. سار كل شيء كما خططنا له. وبالفعل بعد رحلة طويلة وصلنا، وبعد معاملات عديدة استقرينا. بدأت أتعلم اللغة الألمانية وأبحث عن أصدقاء جدد.

إلا أني لم أكن سعيدة أو مطمئنة، ما مررت به جعلني مريضة دائمة، أو سجينة لعقد الحرب والدمار. مرت بنا الأيام وكان كل شيء يسير بشكل جيد إلا أني بقيت تعيسة. أعيش أيامي لأنتهي منها، لتمضي. كنت دائما أردد لنفسي لن أعود، لن أحن، أنا لا أنتمي ولا أشتاق، إلى أن أتى اليوم الذي جردني من كذبي على نفسي. الحقيقة أني غير قادرة على الصمود أكثر، اكتشفت جرح قلبي وأخيرا، بينما كنت أحاول جمع شتاته. أنا اليوم نادمة جدا على سفري، ولا أعلم السبب. هذا الشعور ينهش روحي، ولكن ما معنى الندم؟ كيف يمكننا أن نندم على قرارات أجبرنا أن نقدم عليها بكل قوة وإصرار، بأنياب حادة كانت ستفترس كل معيق. كيف لنا بعد كل هذا أن نندم!

خجلون نحن بقرارات واقعية جدا. خجلون بكسور أرواحنا وضياعنا. والآن نحن عالقون هنا، وسط مكان لا ننتمي له، في دوامة من البشر والروتين والحسابات. ماذا نريد؟ لماذا نندم ونسأم؟ كيف نعيش؟ هذه الأرض الغريبة ليست لنا وهذا الهواء ليس خاصتنا فكيف نستمر؟

لا يمكننا أن نشرح تلك المعادلات الشعورية، ولكننا نراها، نشعر بها ونعلم جوابها، ورغم ذلك عاجزون. عاجزون عن بلوغ الجواب الشافي، تلك الكيمياء التائهة بين اللامبالاة والغياب.

شتات وترابط ضعيف يظهر على كلماتنا وأحاسيسنا. وجوه باردة لنقابلها كل يوم في طريقنا، ولعلنا لو عدنا لوطن الحرب خاصتنا لعجزنا عن إيجاد مقصدنا!

أهكذا يشعر المغتربون؟ أهذا ما تعنيه الغربة والفقدان والخسارة؟ إنه شيء لا يؤلم ظاهريا ولكنه يدمرنا في كل نفس، مع كل خسارة مررنا بها.

هذا القلب لم تكسره الوفيات والغيابات والخسارات فحسب، هذا القلب يشحذ الشعور بالاحتواء، بالحنان والأسرية.

خائفون، نحن السوريون في كل يوم خائفون. نموت بأشكال عديدة حتى أصبحنا نتمنى الموت بسلام، وفي قرارة أنفسنا حقا خائفون. بتنا لا نثق بالحياة، نصنع وعود ضبابية تتلاشى في الساعة القادمة.

ثقة تتزعزع في كل ثانية. قرار يطيح، وكذبة تكبر. سر يقبع لنا تحت الوسائد. دموع تأبى الخروج، كلمة “وطن” تخنق حناجرنا وذكراه تستوطن وتقوى. وجوهنا هزيلة، وصرختنا لا تجد المكان المناسب لتخرج، وقلبنا كما هو.. مجروح.

No tags

عندما تُغتال الطفولة بالزواج

أخبروني بأنه عريس “لقطة” وأني أصبحت “صبية” جاهزة للزواج فوافقت!

 

كان عمري سبعة عشر عاماً، عندما توقفت عن الدراسة (2015).  أخبرني والديّ أنه من الخطير أن أسافر بين المدن والمحافظات كي أكمل دراستي، لا سيما في ظل هذه الحرب، وفي ريف إدلب، حيث نعيش. وقد أكد أني قد أتعرض للخطف أو غيره. هكذا اقتنعت وتركت الدراسة.

بعدها بعدّة أشهر، تقدم شاب في أوائل العشرينات لخطبتي، كان حسن الهيئة، محترم كعائلته، إلا أنه غير متعلم.

لعلكم لا تعرفون كثيراً عن بيئة الأرياف في بعض مناطق سوريا، والتي ساءت جداً خلال الحرب. وقد لا تعلمون أيضا كيف يتعاملون مع الفتاة عندما تبدأ سن المراهقة. حسنا سأخبركم.

عندما تبدأ الفتاة سن المراهقة، أي الثالثة عشر من عمرها، تبدأ جميع أساليب الحشد والإقناع، بأنها جميلة يجب أن “تُستر”. يجب أن تتزوج. يجب أن تتعلم الطبخ والتنظيف واستقبال الضيوف. وأن تعلم كيف تتأنق وتُجمل مظهرها كي توحي للجميع بأنها فعلاً جاهزة للالتحاق بقطار الزواج.

هذا بالضبط ما حصل معي. فما أن علم الجيران والأقارب والمعارف والأصدقاء بالشاب المتقدم لي، بدأوا حملة الإقناع والترغيب وتجميل الحياة أمامي. والدي اتبع أسلوب الترهيب، حذرني من أنني قد أصبح “عانس” إن لم أوافق.

لم يتذكر أحدٌ بأن يسألني عن رأيّ وقراري في هذا الزواج، لكوني صاحبة العلاقة الوحيدة، أو هذا ما ظننته.

كنت صغيرة حينها. لم أعرف في حياتي سوى المدرسة والأصدقاء واللعب. وفجأة تحولت إلى زوجة.

لم يمض أسبوع على زواجنا، حتى ضربني. الكدمات الزرقاء التي خلفها ضربه بقيت على جسدي أياماً طويلة. ما أن بدأ يزول أثرها حتى ضربني مرة أخرى، وهذه المرة تسبب بالتواء في يدي اليسرى.

مع مرور سنة على زواجنا، صرت أُضرب طوال الوقت. كلما غضب، كلما تشاجرنا، وكأنها أصبحت عادة لديه.

كان والديّ وأخوتي يقفون بجانبي عندما أترك بيت زوجي واستنجد بهم، ولكنهم لا يلبثون أن يرجعوني يرجعوني إليه، بعد أن يتم الصلح والاتفاق والوعود. فأرضخ وأعود ليعود الضرب والذل والإساءة اللفظية والجسدية.

بعد سنتين من زواجي انجبت طفل ذكر. حمدت الله كثيراً بأنه كان ذكراً، ليس لأني لا أحب الاناث بل لأنني أعلم جيدا ما قد تقاسيه الانثى مع رجل كزوجي، وشكرت الله لأن ابني لم يأخذ ملامح والده السادي.

ربما تظنون أني اعتدت الضرب والإهانة، ولكن هذا غير صحيح. آخر مرة ضربني فيها لم أترك المنزل، جلست مع نفسي وأخذت أفكر. أنا الآن أمام خيارين لا ثالث لهما.

إما أن أسكت وأقبل الإساءة والضرب وهذا الجحيم طيلة حياتي، أو أبحث عن عمل أتعلم منه وأخرج من المنزل بحجته، واستقل بمصروفي تمهيدا لأن أستقل في حياتي.

وفعلاً هذا ما حدث. انضممت إلى مركز، يعطي ورشات تدريبية طويلة ومختلفة تستهدف النساء بشكل خاص. خلال هذه الورشات كنت أصطحب ابني معي. وبعد انتهائي من التدريب، أصبح لي مهنة (كوافيرة) وراتب شهري.

حين بدأت العمل، صار لي حياة مختلفة، أرى العالم من خلالها. أصادق، أتعلم، وأتناسى الألم. أما زوجي فقد سمح لي بالعمل فقط لأنه طمع بحصة من راتبي.

 

حتى الآن لم أتخلص من زوجي، أي أنني لم أتركه بعد، ولكنني أعلم جيدا بأنني على مقربة من أبواب الخلاص والتأسيس لحياة جديدة، بعيداً عن العنف.

أنا على يقين بأنني أصبحت قادرة على خوض الحياة بمفردي، وتربية ابني من دون مساعدة.

هذه التجربة المريرة علمتني الكثير. علمتني بأن العلم مهم في كل الأوقات، ضروري في أيام السلم، وأكثر ضرورة في أيام الحرب. العلم هو الذي يصنع مستقبلنا، من دونه لا يمكننا الاستقلال. العلم هو من يجعلنا قويات.

رسالتي لمن تقرأ قصتي الآن، تعلمي. جابهي، قاتلي وتحدي الظروف. ابحثي عن العلم والمعرفة فهي سلاحك الوحيد. أما رسالتي للآباء والأمهات، هي أن تعملوا أطفالكم مهما كلّف الأمر، لا تغتالوا طفولتهم بالعمالة أو الزواج المبكر. لا تجرموا بحق أولادكم.

No tags