عادات وأعراف لا قيم وشرائع

 يعتبرُ خرق العادات والتقاليد من التابوهات في كثير من المجتمعات ومنها المجتمع السوري على اختلاف بيئاته ومعتقداته، وحين تكون هذه العادات والأعراف جائرة وجامد أمام المتغيرات السريعة معرفياً وثقافياً فإنها-أي العادات- تصبح خطراً على جميع مكونات المجتمع، وعقبةً في طريق تطوره وارتقائه.

ولا يخفى على مراقب/ة  منصف/ة أو باحث/ة موضوعي/ة أنّ استضعاف النساء كنهجٍ عالمي واجتماعي محكوم بالهيمنة الأبوية يضع المرأة في خانة العنصر الأضعف في الحلقة الاجتماعية، ويزداد الأمر في بلدان العالم الثالث (العالم الجنوبي) ومن بينها سوريا. 

ضمن هيمنة هذه المفاهيم، يصبح مفهوما (العِرض) و(العيب) متحكمان رئيسيان بمصير المرأة، ولا يوجد أي محددات ثابتة أو مقوننة لهذين المصطلحين، ما يجعل هوامش المعيار والتقييم تابعة لهوى ومزاج الذكر المسيطر، دون إنكار تأثير البيئة الثقافية والمعرفية والآيديولوجية في مثل هذه الحالات.

إنّ خوف الأخ على أخته والأب على ابنته والزوج على زوجته؛ شعور مبرر وراقي وواجب في كل المجتمعات، إن كانت مبنيةً على المساواة والشعور بالشراكة والعدالة، وبهذا تحرص الأخت بدورها على سلامة أخيها والأمُّ كذلك تضع أبناءها في سُلّم أولوياتها بغضّ النظر عن نوعهم الاجتماعي، ودون تعميم. 

 لكن هذا الخوف أو الحرص يصبح مرفوضا وخطراً عند انتقاله من عتبة التعاطف والتعاون المتبادل إلى درك الولاية والوصاية، بل وشعور الملكيّة في كثير من المجتمعات، ومنها المجتمعات الصغيرة وخصوصاً في البيئات الأكثر تشدّداً والأقلّ وعياً.

وإذا أردنا الانتقال من تشخيص العلة إلى توصيف العلاج من وجهة نظري، فعلينا أن ندرك وجوب الانتقال المتدرّج القائم على زيادة وعي الجميع دون إقصاء أي طرف من أطراف السلسلة الأسرية.

وقد ينظر إلى العادات والتقاليد على أنها تصوّرات ومعايير تناسب وقتها وزمانها، وتناسب الظرف التاريخي الذي وجدت فيه، ولا أعني من كلامي هذا تبريراً وإقراراً بما كان من سلوكيات المجتمعات السالفة، لكن ما أعنيه هنا بألا نكسو ظروفنا الحالية بزيّ فات زمانه وزمان صانعيه.

نهضة البلدان وتطور المجتمعات لا تكون إلا بكسر التابوهات المتخلفة، والتي تتكون في غالبها الأعمّ من موروثات شعبوية دخلت في صناعتها الخرافة والعنصرية وتقديس نوع مجتمعي على حساب امتهان نوع مجتمعي آخر.

لا يمكننا القول بأننا نستطيع كسر أي وصمة دون المرور الحتمي بنفق مواجهة تيارات متطرفة، وقوانين بالية، ومفاهيم قامت على مبادئ نفعية شوفينية خالية من أي ملمح إنساني صرف.

المعركة هي معركة وعي وثقافة تبدأ من الأبوين اللذين يتوجب عليهما انتزاع فكرة الوصاية من نظام التربية الأسري ضمن جدران منازلهم.

وعلى النساء عموما يقع جزء كبير من المسؤولية مقابل كل لحظة تأخير في درب مجتمع صحّي ومعافى يخضع لقوانين عادلة لا تميّز بين مكونات المجتمع على أي أساس عنصريّ إقصائي، بأن يرفعن أصواتهن إن استطعن، ويحاولن خلق هذا التغيير المرجو. 

لا يمكن للنساء والفئات الأقل امتلاكاً للامتيازات أو المهمشين والمهمشات من التخلص من الكثير من الأعباء، ومن بينها عبء الوصم الذي يفرضه المجتمع، إلا بالمعرفة سواءً للناجيات والناجين/الضحايا/ المتعرضين والمتعرضات للانتهاك، أم للجهات التي تقوم بهذا العنف وتسوغه، أو التي تتغاضى عنه، أو تقبله. فتسمية المشكلة والإشارة إليها بوضوح وفهمها وتفكيكها، هو أولى خطوات الحل. 

 

No tags

مها: “أزواج بناتي حرموني من رؤيتهن”

بعد عشر سنواتٍ من انطلاقة الثورة السورية، والتي شاركت بها أعداد كبيرة من النساء بأشكالٍ مختلفة، واجهت الكثيرات من بينهن الاعتقال والانتهاكات والعنف وكافة أشكال التهجير والنزوح والفقد، وبقيت النظرة الواصمة لهن ولألمهن تأتيهن من أقرب الدوائر عليهن، ليتلقين اللوم على ما عشنه ونجون أو ما زلن يبحثن عن نجاة منه.

” كنت أظن عبوري للحدود التركية سيكون نهاية لمعاناتي لكنها كانت بداية لمعاناة من نوع آخر”

بهذه الكلمات عبرت مها (45) عاما، عن الصعوبات التي عانتها منذ بداية اعتقالها وما زالت ترافقها حتى اليوم، رغم مغادرتها الأراضي السورية نحو تركيا هاربةً من ملاحقة النظام لها ولأفراد أسرتها.

تخرج مها من المعتقل بإطلاق سراح مشروط بعد ستة أشهر قضتها في فروع النظام المخابراتية برفقة زوجها الذي اعتقل هو أيضا في العام 2014 ومازال معتقلا حتى اليوم.

تذكر مها كيف طلب منها زوجها في آخر زيارة له في السجن المركزي، مغادرة سوريا بعيداً عن بطش النظام وأيدي مخابراته، بالأخص إبان تلقيها بلاغ رسمي بضرورة مراجعتها للفرع الأمني الذي غادرته لاستكمال بعض النقاط المستجدة حولها، “لن أعود الى ذاك الفرع برغبتي ما حييت” تقول مها.

اتخذت مها قرارها وحسمت أمرها بضرورة مغادرة الأراضي السورية، خصوصا بعد أن فقدت ابنتها ذات الخمسة عشر ربيعا، في غارة للطيران نجم عنها إصابة بالكبد، أفضت لوفاتها بعد أيام، فلم تجد سوى الأهل لتلجأ إليهم بغية الحصول على المساعدة في تأمين مصاريف السفر، لكن حالتهم المادية الضعيفة وخوفهم من ملاحقة النظام لهم، منعتهم من مد يد العون لها، ذلك الخوف الذي دفعهم منذ بداية خروجها من السجن الى التخلي عنها وتركها تواجه متاعب الحياة منفردة.

تذكر مها موقف أهلها فتقول: “كان موقفهم إيجابياً لحظة خروجي، حيث قاموا باستقبالي في بادئ الأمر، وإن كان بحذر، لكنني كنت التمس لهم العذر فلا وضعهم المادي يسمح لهم ولا وجودهم في مناطق سيطرة النظام يساعد على التعامل مع معتقلة سابقة، فالخوف هو السمة السائدة هناك”، تستطرد مها قائلة: “لكن عذرهم لم يكن لخفف عني ما كنت أعانيه وسبب لي خيبة أمل كبيرة”.

تقرر مها بيع كل ما كانت تملكه في مكان إقامتها من أثاث وغيره سعياً منها لتأمين مصاريف رحلتها القادمة لعبور الحدود السورية التركية، وبالفعل مع مساعدة من بعض الأصدقاء القدامى للعائلة، وما وفره بيع ممتلكاتها تنتقل مها برفقة ابنتيها اليافعتين الى الشمال السوري، لتقضي مدة من الزمن بانتظار أن تؤمن من يستطيع إيصالهنّ الى تركيا عن طريق التهريب.

مع وصولها الأراضي التركية ظنت مها أن رحلة شقائها انتهت، لتبدأ صفحة من الأمان والاستقرار لكن أملها خاب مرة أخرى، فليس تأمين المسكن بالأمر السهل ولا تملك المال الوفير لاستئجار منزل مناسب، عن تلك المرحلة تحدثت مها بالقول: “آوتنا عائلة تركية في منزلهم لبضعة أشهر ريثما نجد عملاً لكن عملي أنا وابنتي ذات الثلاثة عشر عاماً في أحد مشاغل الخياطة لم يكن يؤمن سوى مبلغ مئتي ليرة تركية لا غير، وهي لا تكفي ثمناً للطعام”.

 

بين ألم الهجرة وقسوة المعيشة قضت مها أيامها في تركيا، لكن أقسى ما عاشته (بحسب تعبيرها) كان حرمانها من التواصل ورؤية ابنتيها المتزوجات واللتان تقطنان تركيا منذ سنوات، وذلك بسبب رفض زوجيهما السماح لهما برؤية أمهن، وذلك بحجة “العار” الذي لحقها بسبب الاعتقال بحسب رأيهما.

تعبر مها عن حرقة قلبها على موقف صهريها الظالم بحقها: “لن أسامحهما لمنع ابنتاي من مقابلتي، يمكنهما مقاطعتي فهما أحرار، لكن لا حقّ لهما بمنع زوجاتهما من رؤية أمهما أيّاً كانت الظروف”.

لكن مها تجد العزاء في وجود ابنتيها الأخريتان برفقتها، وتقول: “ما يخفف عني وحشة غربتي وظلم المجتمع وصهريّ، هو وجود ابنتيَّ إلى جانبي اليوم، فابتسامة من ابنتي ذات التسعة أعوام، تغسل هم اليوم بأكمله”.

لم يكن المجتمع فقط من تخلى عن المعتقلة بعد خروجها لمعترك الحياة، بل حتى الجهات الرسمية والمنظمات المعنية، حيث أن الدعم الذي حصلت عليه كان أقل من المستوى المطلوب بكثير، حالها كال الكثير من الناجيات اللواتي لم يجدن طريقةً لتلبية احتياجاتهن.

في هذا السياق يرى المحامي محمد كعكة، رئيس اتحاد المعتقلين السوريين ومقره النمسا، أن ما تم تقدم للمعتقلين بصورةٍ عامة، والمعتقلات على وجه الخصوص لم يكن كافياً وأدنى من حجم التوقعات، ويقول: “كانت الحلول في الغالب حلولاً إسعافيه، فلا يمكن اعتبارها حلّاً ينهي معاناة المعتقلة، وسرعان ما تُنسى قصتها بين ألاف القصص الأخرى”، ويضيف بأنه وحتى لو اختارت الناجية الهجرة لأوروبا على أمل أن تحظى بنوع من التميز والاهتمام أكبر، لكنها تفاجئ بأن التعامل معها لا يختلف عن بقية اللاجئين واللاجئات الآخرين، باستثناء جلسات علاج ودعم نفسي تخضع لها الناجية بهدف التخفيف من آثار الاعتقال السلبية على حالتها النفسية، لكنهم أغفلوا كون الناجية غادرت معتقلها منذ فترة لا تقل عن عام إن لم يكن أكثر.

ما زالت مها حتى اليوم تعمل برفقة ابنتها التي تبلغ اليوم السادسة عشر ويقطنون في منزل صغير قاموا باستئجاره وعينها ترقب أن يأتي يوم تتحسن فيه أوضاعها، أو يبتسم لها القدر بعد سلسلة مآسي طيلة سنوات ست متواصلة، لكنها لم تفقد الأمل، وبقيت تحاول الكفاح والكدح للبقاء والنجاة، وإن كانت في قلبها حسرات كثيرة، وحرمان من أعزّ الناس عليها.

 

No tags

العنف الرقمي تجاه الناجيات

تفضل أغلبية الناجيات من ضحايا العنف الرقمي الصمت مخافة إلقاء الذنب عليهن ولومهن من قبل المجتمع، رغم أنه واحد من أخطر أشكال العنف التي قد تؤدي بالضحية لمحاولة الانتحار في بعض الأحيان، إلا أنه لا يلاقي الكثير من التوعية، أو حتى المساندة بالشكل الكافي، وتزداد احتمالات تعرض النساء (الموصومات) اجتماعياً للعنف الرقمي أكثر من نظيراتهن، حيث يتم استغلال ضعف أحوال بعضهن وقلة وصولهن للمساعدة أو ترددهن في الحصول عليها، إلى جانب أشكال الابتزاز التي قد يعتمدها النظام أو غيره من الجهات التي قامت باعتقال النساء، وذلك لسهولة وصول هذه الجهات إلى الصور الشخصية ومتعلقات النساء المعتقلات، وإمكانية استخدامها ضمن سياق الابتزاز الإلكتروني.

في هذا السياق تخبرنا فرح (اسم مستعار- 25 عاماً) وهي معتقلة سابقة عند النظام السوري، عن تجربتها مع الابتزاز الإلكتروني وما خلفه من أثار سلبية على وضعها النفسي لتوضع إلى جانب أشكال العنف التي لحقتها أثناء الاعتقال، وتبدأ بحديثها عن ظرف الاعتقال وتقول: “تم توقيف الحافلة التي كنت متواجدةً فيها أثناء ذهابي إلى الجامعة في حلب، فطلب مني عناصر الحاجز هويتي الشخصية، وتم إنزالي من الحافلة، وفي لحظة سريعة قمت بخطف حقيبتي وإعطائها للسائق، دون أن أنتبه إلى أن هاتفي الجوال ما زال بحوزتي”.

تكمل فرح حديثها وتقول: “بقيت معتقلةً لدى النظام قرابة العام، وخرجت بأعجوبة، وبعد فترة وجيزة قام أحد ما بابتزازي وتهديدي بنشر صوري التي كانت حقا متواجدة في جوالي قبل الاعتقال مقابل المال، لم يكن بوسعي إخبار أهلي أو حتى صديقاتي لأنني خفت حينها من نظرة أقاربي والمحيطين بي لأنني أعرف أن غالبية العائلات في مجتمعنا تعاقب بناتهن بدلا من الوقوف إلى جانبهن للوصول لحل يخلصها من المأزق الذي تقع فيه”.

الجدير بالذكر أن نظام الأسد يتعمد المضايقة عبر الأنترنت كوسيلة أخرى لترهيب السيدات وتخويفهن بالإضافة لأشكال العف الجسدي و/أو الجنسي الممارس بحقهن داخل السجون، إلى جانب معرفته بأن النساء سيترددن بطلب المساعدة، وسيشعرن بالخوف والتضييق، لئلا تعلم العائلة بهذا الابتزاز، ما قد ينقلب عليهن بشكلٍ أشد وأصعب في الكثير من الأحيان، وهو نمط من الأنماط السائدة باستغلال وضع النساء في المجتمع والعائلة، وإدراك النظام أو أية جهة تقوم بالابتزاز بحالة لوم الضحايا (النساء تحديداً).

وفي شهادةٍ أخرى تتحدث نهى (اسم مستعار- 27 سنة) عن اضطرارها لترك عملها ودخولها في حالةٍ من العزلة والخوف على حد تعبيرها، وذلك بعد اختراق خصوصيتها ونشر صورها على موقع اليوتيوب من قبل أحد زملائها في الموقع الإعلامي الذي تعمل فيه، وتقول نهى: “عملت بأحد المواقع الإعلامية فعرض عليّ أحد الأشخاص المساعدة وتنزيل برامج على جهازي المحمول لأتمكن من الدخول للمنصة فوافقت دون أن أدرك مدى خطورة ما فعلت، وطلب مني أيضا بريدي الالكتروني مستغلا جهلي بالأمور التقنية، وبعد فترة وجيزة طلب مني القيام بعلاقة جنسية معه والذهاب لمنزله، وعندما رفضت قام بنشر صوري مقابل ٥٠٠ دولار أمريكي”!

بدوره أكد  يحيى صبيح  مختص بالأمن الرقمي لفريق سلامتك بقوله: “إنّ معظم السيدات التي تتراوح أعمارهن بين ١٨ – ٢٥معرضات لهجوم إلكتروني يتمثل في الاختراق والابتزاز بهدف الجنس أو المال، حيث تصلنا حالات عديدة لنساء تعرضن لعنف عبر الأنترنت، ونحن بدورنا نقوم بتقديم المساعدة التقنية والاستجابة الفورية لحل المشكلة، ونقدم تدريبات تؤهلهن لكيفية التعامل أثناء التعرض لمثل تلك الجرائم” ويضيف صبح: “قد يضطرنا الأمر بعض الأحيان للتواصل مع أهل الناجية وإعلامهم بطريقة غير مباشرة عن المواقف التي تتعرض للفتيات عبر الأنترنت، لأنه يمكن أن يتم الاختراق من خلال القرصنة أو رابط ولا ذنب للضحية، على عكس ما يظن المجتمع الذي يعتبر أن السيدات هنّ أساس المشكلة، وأنصح الفتيات في حالات الابتزاز  التحدث عن المشكلة وعدم الصمت للتمكن من إيجاد الحلول  المناسبة لها، ولكي لا يقع فيها غيرهن”.

 

في النهاية يعتبر العنف الالكتروني، شكلاً رائجاً من أشكال العنف المعاصر، وامتداداً لعملية الوصم، وهو حالة متفشية بكثرة، وما زالت تتصاعد، حيث تتعرض الكثير من السيدات، وبالأخص الناجيات من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي للابتزاز والعنف الإلكتروني، سواءً من أشخاص مباشرين كانوا على صلةٍ بالانتهاك الذي تعرضت له، أم من أشخاص عشوائيين، لكن القليل منهن يتجرأن على البوح، ومشاركة مشاكلهن للتوصل لعلاج جذري لها، والسبب الوحيد الذي يمنعهن من التحدث ويزيد من معاناتهن خوفهن من لوم المجتمع ووصمهن واعتبارهن المذنبات بحسب الأعراف الاجتماعية.

No tags

وصم نساء العائلة عنف آخر يزيد أعباء الناجية

لا تتوقف مسألة الوصم التي تناقشها حملة المعرفة لكسر الوصمة، عند الناجيات من الاعتقال فحسب، بل تمتد لتطال أقاربهن من النساء على وجه التحديد، فتصبح نساء العائلة بمعظمهن عرضةً للشائعات والتهميش وغيرها من أشكال الوصم الاجتماعي والعنف، ما يضاعف من ثقل عبء الاعتقال على الناجية عينها وشعورها بالمسؤولية والذنب تجاه أسرتها.

وفي مجتمعٍ لا يزال يستند في تقييمه على ما يعتبرونه (سمعة العائلة) ومصطلحات (الشرف) و(العار) وغيرها، فإن اعتقال واحدة من أفراد العائلة، يؤثر على كل القريبات من النساء وبالأخص ممن لم يتزوجن بعد، مما ينعكس على فرصهن المختلفة، وعلاقاتهن الاجتماعية، ما يجعل بعضهن يعانين معاناةً مشابهة للناجية من الاعتقال.

 

ياسمين ووصم العائلة:

حيث تخشى ياسمين (اسم مستعار) وهي ما تزال في سن السابعة عشر، من نظرات صديقاتها في المدرسة حين يجتمعن مع بعضهن ويتهامسن بصوت منخفض، ويتطلّعن إليها من بعيد بنظرات الحسرة أحيانا والشفقة أحيانا أخرى، حيث غاباً ما يكون الحديث عن عمتها التي كانت معتقلة عند النظام ذات يوم.

وفي هذا السياق تحدثنا ياسمين عن وصم العائلة ونسائها أثناء اعتقال عمتها وبعد خروجها، وتقول: “بدأنا بالتعرض لألسنة الناس وكلامهم المسيء ما أن اعتقلت عمتي، وكثيراً ما تردد على مسامعي من المحيط قول (مين رح يدق بابها ويخطبها_ خدوا البنات من صدور العمات)، والكثير من الكلام الجارح الذي يوحي بأني ولمجرد كوني أنثى ولكونها امرأة مثلي فنحن سبب في العار والفضيحة، وعلى الوصمة أن تلحق بنا”.

 

هالة عمّة ياسمين… سجن جديد وحرب نفسية

وفي الحديث مع عمة ياسمين، هالة (اسم مستعار) حول اعتقالها وظروفها، تقول: “تم اعتقالي عند أحد حواجز النظام، وذلك أثناء ذهابي إلى الجامعة، لأتنقل بين عددٍ من الأفرع الأمنية، كان آخرها فرع الأمن السياسي في المزة في دمشق”، وتكمل :”تعرضت أثناء اعتقالي لأشكالٍ مختلفة من العنف الجسدي والنفسي، إلا أني كنت أسيطر على نفسي على أمل أن أخرج من الزنزانة يوماً، لكن ما لم أتوقعه هو أنا أكون في مواجهة سجنٍ جديد، قضبانه العادات والتقاليد، وقيوده من ألسنة الناس”، وعن حالتها بعد الاعتقال تضيف هالة: “تم إلقاء اللوم عليّ وتحميلي ذنب اعتقالي بذريعة أني ذهبت بنفسي لمناطق النظام ولم أكن مجبرةً على ذلك برأيهم/ن، وبأنني تسببت بضياع مستقبل أخواتي البنات، وبنات أخي وفرصهن في الزواج، حيث صار الكثيرون/ات يصفن/ون ما حصل معي على أنه (عار)، ما أثر على حالتي النفسية بشكلٍ كبير، وجعلني أعيش وضعاً أصعب مما كنت عليه في السجن” على حدِّ تعبيرها.

التمييز الاجتماعي ضد الناجيات:

في هذا الصدد، التقينا بـ حميدة أسعد، وهي أخصائية في الدعم والإرشاد النفسي، لمناقشة أوضاع الناجيات من الاعتقال، وتقول أسعد: “إن معظم المعتقلات يخشين الخروج من السجن وخاصة المتزوجات، لأنهن على دراية بعادات المجتمع وبأن أزواجهن سيطلقونهن ويحرمونهن من الأطفال إن وجدوا، فمجتمعنا لا يرحم الناجيات ويلقي بمسؤولية ما حدث عليهن، فأي امرأة تقريباً تخرج اليوم من المعتقل ينتظرها سجن أوسع، على خلاف ما يحدث مع المعتقلين الذكور، حيث نرى بشكلٍ معلن فرح الناس بهم وإطلاقهم الرصاص احتفالاً، فالتمييز الاجتماعي من أحد أسباب الأثار السلبية على المعتقلة”.

وأشارت أسعد إلى أن الوصمة الاجتماعية التي تلحق بالناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي ومن الاعتقال تعد من أكبر التحديات التي تهدد سلامتهن العقلية والنفسية، فتسبب لهن الصدمات وصعوبة التعافي وإعادة بناء أنفسهن مجددا، ومن الضروري مراعاة حالتهن النفسية وإفصاحهن عما يحدث لهن وطلب المساعدة والدعم من المختصين ومراكز الدعم النفسي.

 

الجدير ذكره، لا توجد في الأفق احتمالات واضحة لوقف الانتهاكات التي يرتكبها نظام الأسد بحق المعتقلين، ولا يزال مستمرا في إذلال واعتقال وتعذيب وقتل آلاف الشبان والشابات في السجون، في حين كشفت تقارير واحصائيات حديثة للشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل مالا يقل عن ١١٩٢٣ سيدة على أيدي قوات النظام السوري.

 

 

No tags

قصص المعتقلات صعوبة تواجه العاملات والعاملين في الإعلام

تختلف معاناتنا من شخصٍ لآخر، فكل منا يحمل/تحمل قصةً لا يعرف الآخرون والأخريات عنها شيئاً ما لم نعبر عنها بطريقةٍ ما، ونصفها بلغةٍ مفهومةٍ وواضحة.

غير أنّ ثقل المعاناة وكثافتها تزيد من صعوبة البوح، وهو ما تواجهه الناجيات من الاعتقال عند سرد حكاياتهن، وما استطاع العالم من معرفته من خلال بعض شهادات المعتقلات السابقات اللواتي نلن حريتهن وأخذن يشرحن للعالم ما واجهنه في أقبية النظام وأفرع المخابرات وغيرها.

وإن مرت اليوم عشر سنواتٍ على حملات الاعتقالات الواسعة ما بعد الثورة السورية، وأكثر من أربعين عاماً من الاعتقالات في ظل نظام الأسد بشكلٍ عام، وبالرغم من آلاف القصص، وآلاف المعتقلات، يبقى ما وصلنا من خلال الإعلام، وما سمعنا به من رواياتٍ على لسان أصحابها لا يتجاوز العشرات، وهي مشكلةٍ لا تعود لقصور في التغطية الإعلامية أو عدم اكتراث بقضية المعتقلات، بل لأسباب عدة من ضمنها قبول المعتقلات السابقات بالحديث عن تفاصيل اعتقالهن، وقدرتهن على تجاوز العوائق الأمنية، أو الاجتماعية أو النفسية وغيرها، إلى جانب إمكانيات الإعلاميين والإعلاميات العاملين/ات في هذا القطاع، وخبراتهم/ن في لقاء الناجيات من العنف.

 

نظرة مجتمعية خاطئة واتهام الضحايا:

تروي الإعلامية سلوى عبد الرحمن، عن خبرتها في تشجيع المعتقلات السابقات لتقديم شهاداتهن والتحدث عن ظروف اعتقالهن، لكن: “غالباً ما كانت المعتقلة ترفض الحديث خوفاً من الإشارة إليها كضحية للاغتصاب” تقول عبد الرحمن، وتضيف: “تلك التهمة التي ولدتها النظرة الخاطئة للمجتمع، والمفاهيم البالية التي اتخذت من قضية (شرف العائلة) حجة لتكبيل النساء ضحايا جرائم العنف الجنسي، دون أن يكون لهن ذنب بما حصل، وذلك إن حصل من الأساس”، حيث ترى بأن: “كل معتقلة هي مشروع مغتصبة، وهذه (التهمة) تصمها وترافقها من الساعات الأولى للاعتقال، وحتى بعد خروجها من سجنها الضيق إلى سجنها الأكبر في الأسرة والمجتمع” بحسب تعبيرها.

من جهة أخرى، يتحدث الإعلامي فادي شباط عن المصاعب التي واجهته في محاولاته لتسليط الضوء على قضية المعتقلات، والحديث عن أوضاعهن بعد خروجهن من المعتقل، حيث اعتبر “شبح الاغتصاب” هو الحاجز الأول الذي يدفع المعتقلة للإحجام عن التحدث للإعلام وإيصال معاناتها، ويقول: “المجتمع لن يرحمها ولن يغفر لها فكل معتقلة بنظره هي ضحية اعتداءٍ جنسي سواء تم ذلك أم لم يتم، هذا ما صعب علي الحصول على روايات بلسان صاحباتها في حين اكتفت الاخريات بالحديث عن العموميات مبتعداتٍ عن التفاصيل”.

 

 ما الفائدة في حال تحدثت:

ولا تكون الإشكالية محصورةً بما قد تتعرض له المعتقلة السابقة/الناجية من زيادةٍ في الوصم الاجتماعي العقبة الوحيدة في محاولة حصول الإعلاميين/ات على شهادةٍ منهن، لكنّ كثيراً ما يجدن/ون أنفسهم/ن بمواجهة سؤالٍ تطرحه الناجيات: “ما الفائدة، وما الجدوى فيما لو تحدثت؟”

الناجية لمياء (اسم مستعار) والتي رفضت بشكل قاطع أن يذكر اسمها تساءلت ما الجدوى من تحدثها الى الإعلام “هل سيوفر هذا قوت يومي؟ أم هل سيؤدي كلامي الى حلٍّ فعلي يغير نظرة المجتمع تجاهي فأتمكن من إيجاد فرصة عمل مشرفة إسوة بغيري من الفتيات؟”.

“كم ستدفعين لي مقابل إجراء لقاء معي؟” هذا ما تلقته الإعلامية سحر الزعتور كردٍّ من إحدى المعتقلات أثناء رغبتها في إجراء مقابلة معها للحديث عن تجربتها أثناء الاعتقال، “هذه واحدة من مواقف كثيرة مشابهة”، تقول الزعتور، وتضيف: “إن تدهور أوضاع الكثير من الناجيات اقتصادياً، وتناقص فرص العمل لهن بسبب الوصمة، دفعهن إلى البحث عن أي مصدرٍ مالي، فكثيرات من بينهن لا يجدن أي جدوى في مثل هذه اللقاءات، لكن إن كانت هناك منفعة مالية على الأقل، قد يتشجعن بعض الشيء” وذلك بعد أن كثرت الأحاديث عن الناجيات دون نتيجة تذكر برأيهن، بحسب الزعتور.

 

الردود السلبية أحد الأسباب:

بعض المعتقلات سردن قصصهن للإعلام رغبةً منهن بالتعريف بقضيتهن وبهدف محاسبة الجاني على فعلته، لكن المجتمع الذي ظلمهن في البداية استمر في أسلوبه العنيف بإيكال التهم، وقد تمثل ذلك في كم الردود والتعليقات الواردة على التقارير التي تنشر في المواقع المختلفة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تحمل في الكثير من الأحيان أشكالاً من تجريم الضحايا، وبعض عبارات الكراهية، وغيرها من أشكال الخطاب العنيف.

هذه الردود دفعت كثيرات من المعتقلات وحتى من الإعلاميات للتردد في عرض قضية معتقلة كي لا تنهال تلك التهم من إثارة مسائل تطعن في الضحية/الناجية، وتتناول (الشرف)، او تتهمها بالعمالة، كما تبين لنا الإعلامية ايلين الفارس:” كثيرة هي التقارير التي نالها سيل من التعليقات السلبية جعلني أحجم في مرات عدة عن تكرار تجربة تقرير يتحدث عن معاناة معتقلة سابقة”.

 

خوف الظهور وتذكير العالم بنفسها مشكلة تواجه المعتقلات:

يعتبر التقرير المصور جزءاً مهماً أثناء عرض قضية إنسانية، فللصورة أثر كبير، لكنها أيضاً سلاح ذو حدين؛ فهي عائق يقف أمام إجراء مقابلة، خاصة مع معتقلة ترفض ذكر اسمها الصريح أو أن يظهر وجهها في مقطع ما.

سناء العلي إعلامية لديها العديد من التقارير المصورة تقول:” أصعب ما نواجه هو رفض المعتقلة للظهور وطلبها نشر قصتها تحت اسم مستعار، وذلك لسبب خوفها من تذكير الناس بها مرة أخرى”.

الإعلامية راميا الأخرس تشارك العلي الرأي حول هذا الموضوع وتضيف أن بعض المعتقلات طلبن منها تغيير طبقة الصوت حتى لا يتعرف عليهن أولادهن أو أحد أفراد الأسرة.

فادي شباط بدوره يرى أن الإعلام يتحمل جزء من المسؤولية عبر تركيز الحديث حول جانب واحد من الاعتقال بحق النساء وهو جانب العنف الجنسي، مما أدى الى تحجيم قضية الاعتقال بمعاناة واحدة فصور كل معتقلة على أنها مغتصبة سلفا، وهو ما ساهم بعملية وصم المغتصبة وغير المغتصبة على حدٍّ سواء.

 

الحقوقيات يشاركن الإعلاميات في صعوبات المهنة:

لم يقتصر عناء الحصول على معلومات دقيقة وتوثيق صحيح لقضايا المعتقلات على مجال الإعلام فقط، فحتى من تعملن في مجال الحقوق والتوثيق تجدن صعوبة في الحصول على إفادات من معتقلات سابقات.

هدى سرجاوي الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمرأة تجد صعوبة عندما تريد كتابة إفادات من ناجيات عما عانينهن خلال الاعتقال وبرأيها ما يدفعهن للتردد” خوفهن من نظرة المجتمع لهن وعدم إنصافهن من قبله بل واتهامهن وتحميلهن المسؤولية عما أجبرن على تجرعه” كذلك بدفع البعض خوفهن على ذويهن الذين ما زالوا يقبعون في أماكن سيطرة النظام والخوف من الانتقام منهم، “فيرفضن الظهور العلني او حتى ذكر اسمائهن الصريحة” بحسب رأي السرجاوي.

في النهاية، وإن كان عرض الشهادات والقصص ركيزةً أساسية للحشد والمناصرة لقضية المعتقلات في سوريا، ولأوضاعهن أيضاً ما بعد الاعتقال، لكن عدم التقدم بخطواتٍ حقيقية بعد الحصول على هذه الشهادات، وعدم الانتقال من خانة البوح لخانةِ الفعل أو التأثير بالرغم من صعوبته، قد يكون سبباً في زيادة المسافة بين الناجيات والإعلام، من جهةٍ أخرى يشكل افتقار الكثير من العاملين/ات في القطاع الإعلامي لطرق إجراء اللقاءات مع الناجيات من العنف، وأسلوب عرض القصص في وسائل الإعلام، حاجزاً آخر في وجه الوصول إلى الحكاية، لهذا يقع العبء الحقيقي على عاتقنا من صحفيين وصحفيات وناشطين وناشطات وإعلاميين وإعلاميات لتحقيق ظروف أفضل لتقديم شهادات الناجيات، فلا يمكن إلقاء اللوم على الناجية، وتحويل تقديم الشهادات إلى عبءٍ جديد على كاهلها عوضاً عن مناصرتها ومساندة قضيتها ودعمها.

No tags

أقل من يوم اعتقال كان كافياً للوصم الاجتماعي لهدى

“في كل يوم وفي كل لحظة أختلي بها بنفسي، تمر عبارته بخاطري، عندما قال لي أنه لن يفرقنا سوى الموت” تقول هدى، وتكمل: “يرفض ذلك المشهد مغادرة ذاكرتي، تتشبث جميع تفاصيله بها، مثل لمسة يده وابتساماته مع تسريحة شعره حتى رائحة عطره، حينها كانت عائلتي وعائلته فرغوا من قراءة الفاتحة، وحددوا موعداً لعقد القران، فتسلل كلانا إلى سطح المنزل، بعد أن تولت أخته إشغال انتباه الجميع عنا”.

 

“ليلة ذلك اليوم لم يغفل لي جفن، أمضيت ليلتي وأنا أتخيل حياتي مع خطيبي مصطفى كيف ستكون، رسمت الكثير من المحطات بقلم التفاؤل، وتخيلت الكثير، لكن لم يخطر على بالي بتاتاً أنه سيرميني عند أول محطة، عند أول مطب يعترض علاقتنا، دون أن يسمعني، أو يقدر الحب الذي بلغ الثلاث سنوات، في حين أصبح جل همه ألا يقال عنه خطيب المعتقلة هدى”.

 

تتوقف هدى للحظات ثم تتابع: “أنا هدى كما أحب أن أقدم نفسي في هذه الشهادة التي ستنشر ضمن حملة المعرفة لكسر الوصمة. إذا سألتموني لماذا لا أعطي اسمي الحقيقي؟ فسأجيب: تجنباً لوقوع خلافات مع أهل خطيبي السابق ومع أقاربنا، لكنني واثقة لو أن مصطفى قرأ هذه المقالة، فسيعلم أنها مني خاصة أنني لم أغير اسمه، بل وسميت نفسي كما كان ينوي أن يسمي ابنتنا الأولى في حال تزوجنا. ربما عندما يقرأها سيخجل من نفسه بعد ما فعله معي، ولعل قصتي تحث شباب آخرين ألا يقوموا بما فعله مع فتيات أخريات”.

 

“أنا المعتقلة كما ينادونني الناس حالياً، بينما أسمي نفسي الناجية كما يجب أن يراني الجميع، أنا فعلاً نجوت بأعجوبة من المعتقل، نجوت من رحلة كانت كفيلة بسلب حياتي وتدميرها، لكنني لم أنجو من الوصمة بعد”.

 

تسرد هدى:” بدأت حكاية اعتقالي في 2013، كنت في طريقي إلى حمص كي أكمل دراستي الجامعية، عندما اقتربت من السقيلبية أوقفني حاجز، فتم اعتقالي بتهمة التعامل مع الإرهابيين، وقد هددني أحد العساكر: “سترين اليوم شيئاً، لم ترينه في حياتك كلها، سأجعلك تحفظين وجهي في ذاكرتك للأبد”، لا يستطيع أحد تخيل مقدار الفزع الذي اجتاح قلبي من هذه الكلمات” ثم تكمل هدى “مر تقريبا 10 ساعات، ثم قالوا لي أنه تم الإفراج عني، وذلك لأن والدي استعان بشخص من قريتنا عنده علاقات مع النظام ودفع له مال فتمكن من إخراجي”.

 

” طبعاً عدت إلى المنزل ولم أكمل طريقي إلى حمص، عندما وصلت إلى المنزل، تعجبت لأنني توقعت من مصطفى أن يكون أول المطمئنين على حالي، لكنني لم أجده، ظننت أنه مشغول، بينما عكست ملامح وجوه عائلتي شيئاً لم أفهمه. في المساء اتصلت بمصطفى فأجابني فور معرفته صوتي: “أنت بطريق وأنا بطريق”، قلت بنفسي: “إذا كانت ردة فعل حبيبي بهذا السوء، فكيف ستكون ردة فعل الناس؟”.

 

تكمل هدى ما جرى بعد الانفصال عن خطيبها وتقول: “بسبب انفصال خطيبي عني، اعتقد الناس أنني تعرضت للاغتصاب، وخاصة أن نسبة كبيرة من الشباب لا يقبلون الزواج إلا بعذراء. لكن ذلك غير صحيح فأنا لم أتعرض لأي عنف جسدي أو تحرش، سوى كلمات إيحائية ونظرات مقرفة من العساكر بجانب صفعة على وجهي من واحد منهم”.

 

“صارت قصة اعتقالي سيرة يتسامر بها الناس في جلساتهم وجمعاتهم، طبعاً مع قصص مؤلفة عني، يضيف لها كل شخص أحداث كما يحب ويشتهي، حتى أن أبي وأمي صاروا يكرهون الخروج من المنزل بسبب نظرات الناس، أو الكلام المزعج منهم، وتصاعدت الأحاديث من الأقرباء وأهالي القرية مما أدى إلى انقطاع العلاقات بيننا وبينهم، بالإضافة لوقوع بعض المشاكل”.

 

“قررت الخروج من ذلك الجو، وتعويض نفسي عما فات، فكلما سمعت بدورة تدريبية في القرية أو في القرى التي حولها، كنت أسجل اسمي واحضرها. وهكذا حضرت دورات في مجالات مختلفة من التعليم والدعم النفسي وتمكين المرأة وغيرها، وبعدها صرت أعمل بما يتناسب مع خبرتي، فتنقلت في مناصب وظيفية مختلفة، وبرواتب جيدة، وبالتالي لم أعد أكترث لكلام الناس ولا لما يقولنه، فما يهمني الآن هو العمل ومساعدة نفسي مادياً ومعنوياً”. تتوقف عن الكلام هدى وتضحك.

 

من ناحية الزواج تحكي هدى:” بعد أن مر على قصة اعتقالي ثلاث سنوات تقريباً، تقدم الكثير من الشباب لخطبتي، لكنني لم أقبل. وخلال فرص عملي، تعرفت أيضا على رجال أعجبوا بشخصيتي، لكنني لم أعطهم فرصة، لأنني قررت ألا أتزوج، حتى أجد الشخص الذي يستحقني بجدارة، الشخص الذي يقاسمني أحزاني قبل أفراحي”.

 

تختتم هدى حديثها: “سبب مشاركة قصتي بالحملة هو تشجيع الناجيات على تخطي تجربة الاعتقال، ومواجهة السلبيات التي تنتج عنها بكل شجاعة، بجانب ذلك أن يحاولن قدر الإمكان على أن يكون مستقلات مادياً، ويعملن على بناء أنفسهن من كل النواحي، إضافة إلى توعية الناس حيال مواقفهم تجاه الناجيات، ولنسع لكسر الوصمة”.

 

No tags

الوصمة عنف اجتماعي يلاحق الناجيات في ميدان العمل

 

طوت “ناديا الشيخ 28” ثلاثة سنوات من عمرها في الاعتقال، لتخرج ضمن صفقة تبادل بين النظام السوري، والفصائل المعارضة في 2015.

تغير لقب ناديا ابنة الميدان، والتي تم اعتقالها تعسفياً أثناء التظاهر بداية الثورة عام 2011، فبعدما كانت معروفةً بالسيدة المتعلمة، وحاملة الماجستير في اللغة العربية، صارت تعرف بأنها “خريجة حبوس” بحسب مجتمعها. لتواجه أشكالاً مختلفة من العنف المجتمعي، فكثيراً ما كانت تسمع الأقاويل والحكايات والتساؤلات حول ما جرى معها داخل السجن، بالأخص وأن ناديا ليست بمتزوجة، ما زاد من حدة الوصمة، لما شعرته من تعميمٍ لفكرة الاغتصاب وكأنها أمر لا مفر منه أثناء الاعتقال، بالرغم أنها لم تتعرض لذلك.

كل ما سبق شكل صدمةً لناديا تجاه المجتمع الذي أتت منه، والذي يعلم حق اليقين سبب دخولها السجن، إلا أنها ما زالت فخورةً بأنها من الأوائل اللواتي/الذين خرجوا للمناداة بالحرية والكرامة، وبذلت ثلاث سنواتٍ من عمرها في سبيل قضيتها، مستمرةً بمقاومة النظرة النمطية للمرأة الناجية والواقع الذي تعيشه.

لم تتوقف ناديا، متحديةً الألسن والنظرات، لتعود لميدان العمل في التدريس، والاندماج ضمن المجتمع مرةً أخرى، لتتعرض للكثير من التمييز حتى من زميلتها في المدرسة، كونها معتقلة سابقة، وتم إبعادها عن العمل الإداري بالرغم من أنها تحمل شهادةً علمية تخولها بشغل مناصب عليا. وتتذكر ناديا عندما سمعت إحدى المعلمات وهي تعبر عن خشيته من أن تنعكس حالة ناديا النفسية السيئة على الطلاب وبالأخص الصغار من بينهم، معتبرةً أنها تشكل خطراً على المدرسة والطلاب.

بدأت ناديا بالانعزال اجتماعياً ونفسياً، لتعيش أياماً وصفتها بأنها كانت أشد مما قضته في الاعتقال، وتقول: “لا تكون النجاة في إخلاء السبيل من السجن، حيث تواجه الناجية معاناة نفسية واجتماعية ومادية بعد خروجها من السجن”.

في هذا السياق، تشرح عاملة الدعم النفسي ربا جحا من خلال تعاملها مع الناجيات: “تفقد الناجية شبكة لأمان الاجتماعية من خلال الأسئلة الموجهة إليها حول الجرائم والانتهاكات التي تعرضت إليها خلال اعتقالها، وأكثرها يتمحور حول العنف الجنسي وحوادث الاغتصاب، فتحدث هذه الذكريات رضوضاً نفسية وإعادة اختبار الصدمة التي تنعكس بشكل سيء على نفسيتها”.

وتتشابه حالة ناديا بحالة زهراء محمد (33 عاماً)، والتي خرجت من الاعتقال في عام 2018، ليتم تهجيرها نحو الشمال السوري في العام عينه. حيث تركز عملها أثناء الثورة في التمريض، والذي تسبب باعتقالها على أحد الحواجز الأمنية بتهمة (علاج الإرهابيين وتهريب الدواء لهم) في الغوطة الشرقية.

أمضت زهراء ما يقارب العامين ونصف العام متنقلةً بين عدد من الأفرع الأمنية، تعرضت خلالها لمختلف أنواع العنف والتعذيب الجسدي والنفسي، من شبحٍ وضرب وصعق بالكهرباء، أو توجيه الألفاظ البذيئة والشتائم الجنسية بهدف الإهانة، حيث لا تنسى زهراء لحظة تفتيشها بطريقةٍ مذلة بعد إجبارها على خلع كامل ملابسها.

تعاملت زهراء مع هذه الذكريات المؤلمة وعادت إلى عائلتها من جديد، حيث كان لموقف زوجها المساند لها، ووقوفه إلى جانبها، دوراً كبيراً في استعادة عافيتها النفسية، حسب تعبيرها، بالرغم من كثرة الأقاويل من الأقارب والمحيط حول ما حدث معها في السجن.

ومع وصولها إلى قرية معرة شمارين، تقدمت للعمل في أحد المشافي، وحصلت على الوظيفة بسبب خبرتها الجيدة، ولكن وبعد يومين فقط من العمل، فوجئت بفصلها من قبل الإدارة لكونها معتقلة سابقة، ما شكل صدمةً كبيرة عليها، أو ما وصفته بـ: “خيبة كبيرة لم أشعر بها من قبل”، لتتكرر حالات الرفض من قبل جهات عدة، كورشات الخياطة، والمدارس والمراكز الصحية، ليأتي هذا الرفض بناءً على معرفتهم بأنها معتقلة سابقة. فاختارت العزلة والابتعاد عن المجتمع والمحيط ودخلت بحالة نفسية صعبة بحسب قولها.

من جهتها تعقب ربا جحا عن أثر الوصمة: “كان للوصمة كبير الأثر على الناجيات، لتلحق بهن في حياتهن الشخصية، مؤديةً للطلاق، أو الانتحار أو حتى القتل، إلى جانب أثرها على حياتهن الاجتماعية والمهنية، أو متابعة تعليمهن، ما يكشف عن عنفٍ مجتمعيٍ تتم ممارسته ضدهن بعد نجاتهن من الاعتقال”.

في النهاية، وفي الوقت الذي تبحث فيه الناجيات من الاعتقال عن طرق للعودة إلى الحياة الطبيعية، والاندماج في المجتمع، تقف الوصمة حائلاً بينهن وبين التعافي، والذي تشكل الحالة الاقتصادية والعودة إلى سوق العمل واحدةً من أعمدة هذه العملية، ليتم حرمانهن من أبسط حقوقهن بالاستمرار والعيش الكريم.

 

No tags

زواج الناجية من مقاتل أجنبي هروباً من وصمة المجتمع

تختلف قصص الناجيات من الاعتقال والتغييب القسري في سوريا، ولكن إحدى تقاطعاتها تكمن بما يتعلق بالوصمة الاجتماعية التي تمارس عليهن بعد الخروج من الاعتقال، الناجيات اللواتي كنّ يفكرنّ في لحظة الحرية تضيق عليهن هذه الحرية مع تعامل الدوائر الاجتماعية معهن.

 

ودوماً الوصمة ونظرات غريبة:

تروي الناجية حسنة دبيس قصة اعتقالها دون اسمٍ مستعار هذه المرة، فلم تعد نظرة المجتمع لها تعنيها بعدما عانت من وصمةٍ عنيفة من أقرب المقربين لها، حيث لم تتجاوز حسنة (الهمز واللمز)، والذي رافقها منذ خروجها من المعتقل قبل ثلاث سنوات، فما إن تذكر أنها كانت معتقلة حتى ترشق بنظرات متشككة، وأسئلة تبدأ بجملة “اغتصبوكي شي؟؟” على حسب تعبيرها.

ورغم أن حسنة اعتادت هذا النوع من الأسئلة والإجابة عنها، إلا أن جوابها لم يكن مقنعاً لفئة من السائلين/ات، بالأخص تلك التي كانت تتناول تعرضها لمختلف أنواع العنف الجسدي واللفظي والنفسي والتحرش، ولكنها لم تغتصب!! إلا أن الشك دوماً في عيونهم/ن وكأنهم/ن يبحثون عن حدث بعينه بين كلماتها ليثبتوا/ن لها أنهم/ن على حق في نظرتهم/ن إليها.

 

قصة حسنة:

اعتقلت حسنة أثناء فترة حملها بشكلٍ تعسفي على يد النظام السوري في عام 2013، وذلك عند دخولها إلى الغوطة، لتنجب صبياً وهي في السجن، والذي بقي معها إلى حين خروجها من المعتقل بعد قضاء أربع سنوات من عمرهما، وفي حين توقعت أن يكون أهلها وأقاربها باستقبالها عند خروجها من المعتقل، إلا أن الحقيقة كانت حين صدمت بواقع الرفض منهم/ن وتخلي الجميع عنها، ولم يكن كافياً مقدار ما تعرضت له لتفاجئ بعد خروجها أن زوجها قد توفي في المعتقل، ووالدها وشقيقها ما يزالان في السجن.

وهكذا وجدت نفسها وحيدة بلا مأوى أو أي شكلٍ من أشكال الدعم بعد خروجها من الاعتقال، حتى عندما لجأت إلى عماتها وأخوالها بحثاً عن العون، تم رفضها وطردها من منازلهم/ن، مما شكل صفعة جديدة تلقاها حسنة بعد نجاتها من السجن.

 

عبارات ترن وتجرح:

“أنت الآن معتقلة”

“ابنك خريج حبوس”

“أكيد صار معك شي جوا”

“لحقنا العار من وراكِ”

عبارات صدعت رأس حسنة، أعادتها إلى ظلم أشد من زنزانتها العفنة المظلمة، وزادت من رضوضها النفسية وصدمتها التي كشفت عن نوع جديد من الاعتقال وهو “وصمة المجتمع”.

تهجرت حسنة وولدها إلى الشمال السوري في 2018، لتسكن مدة قصيرة مع أختها وزوجها الذي لم يحتمل إقامتها في منزله، وما كفّ عن توجيه اللوم والعبارات القاسية لها كونها تجلب العار له ولزوجته وأنها يجب أن تستر نفسها وتتزوج من أول راغب بها لتتخلص من الوصمة التي لحقتهم منها على حد تعبيره.

تقول حسنة: “قررتُ الزواج بأول شخصٍ يطرق بابي، لم يعد يهم من يكون الخاطب وهل هو مناسب أم لا المهم ان أتخلص من وضعي الحالي، لم يخطر ببالي أن يكون شخصاً أجنبياً من بيئة مختلفة تماما عن بيئتنا العربية”.

“نعم تزوجت مهاجراً” هكذا عبرت حسنة عن الشخص الذي تقدم لها، بوصفه مهاجراً روسياً قدم إلى مناطق الشمال السوري وانضم إلى فصيل مقاتل “بدوافع عقائدية” حسب تعبيرها، لم تكن حسنة تملك خيار الرفض أو القبول، كان عليها الزواج والسكوت عن كل التساؤلات التي تعتريها بشأن مستقبل مجهول لأنه كان الخلاص الوحيد لها من الوصمة التي لحقتها هي وابنها، وملاذاً من الفقر العوز الذي كان سبباً آخر في معاناتها ودفعها باتجاه الموافقة غير المشروطة.

تقول حسنة متأثرةً: “أردت الخلاص فحسب ولم أهتم لبقية التفاصيل التي ستقتلني يوماً ما”، ثم تابعت: “عشت معه سنتين أنجبت خلالها طفلةً صغيرة حظها كأمها”

ثم سردت حسنة ما عانته من زواجها الأخير، كحواجز اللغة والفكر والبيئة المختلفة التي نشأ فيها كل منهما حكمت على هذا الزواج بالفشل والطلاق أخيراً.

 

الزواج من المقاتلين الأجانب موضوع كبير ومتشعب:

في عام 2013 ومع ارتفاع أعداد المقاتلين الأجانب الوافدين إلى الشمال السوري، انتشرت ظاهرة الزواج من أجنبي (والمقصود المقاتل) لعدة أسباب، أهمّها الحالة الاقتصادية المتدنية التي دفعت بعض العائلات لقبول تزويج بناتهن من مقاتلٍ “مهاجر” للخلاص من الفقر العوز، وكذلك نتيجة قلة الوعي والجهل الذي انتشر لدى البعض في ظل الفوضى والحرب الدائرة منذ عشر سنوات، كما لعب شبح الخوف من الوصم بـ “العنوسة”، دوراً كبيراً في ذلك خاصة بعد هجرة عدد كبير من الشبان السوريين إلى بلاد اللجوء أثناء الحرب.

بالنسبة لحسنة، كان الدافع الرئيسي وراء زواجها من مقاتلٍ أجنبي يكمن في هروبها من الوصمة الاجتماعية التي لحقتها بعد اعتقالها.

وفي هذا الصدد، التقينا بالمرشدة النفسية نجاح محمود، والتي ترى: “إن الضغوط النفسية التي تتعرض لها الناجية بعد خروجها من المعتقل كرفض المجتمع لها، ووضعها في إطار الوصمة يدفعها باتجاه سلوك غير واعٍ ولا مدروس كردة فعل طبيعة على ما تعرضت له، فمنهن من لجأت للانتحار ومنهن من تزوجت بمقاتلٍ أجنبي ومنهن من دخلت بعزلة اجتماعية بعد تخلي الجميع عنها”.

بينما يشير المحامي نادر المطروح، إلى خطورة هذه الظاهرة، وضرورة التوعية بتوابعها في المستقبل على الأطفال والأم خاصةً في حال الوفاة أو عدم تثبيت الزواج بشكل قانوني فيقول:” القانون السوري لا يعطي الجنسية لأطفال الأم السورية من أب أجنبي وفي حال كان الأب مجهولاً يُسجل الطفل على اسم أمه”.

وهذه الحالة التي خبرتها حسنة بنفسها بعد إنجابها طفلة بقيت مكتومة القيد، فزواج حسنة منذ البداية تم بطريقةٍ غير قانونية، والذي اقتصر على ما يسمى بـ”كتاب شيخ” أي أنه غير مسجل بالمحاكم وبالتالي يبقى أطفالها بالمستقبل بلا أوراق ثبوتية تحرمهم/ن من حقوقهم/ن كمواطنين/ات في الدولة السورية.

تزوجت حسنة وتطلقت دون أن تنال شيئاً من حقوقها الشرعية أو القانونية منها، سواء أكان المهر أو النفقة، وصولاً إلى تسجيل الطفلة على اسم والدها، بالإضافة إلى أنها لم تتخلص من وصمة الاعتقال ونظرة المجتمع لها، حتى لاحقتها وصمة الطلاق أيضاً لتزيد الخناق عليها وتكبلها بعادات المجتمع البالية فتحسب عليها الحركة والكلمة والدخول والخروج وتفاصيل قاتلة تنهش ما تبقى منها.

حسنة واحدة من عشرات الناجيات اللواتي دفعن ثمن اعتقالهن مرتين مرة خلف قضبان السجن ومرة داخل قضبان المجتمع.

No tags

فاطمة ناجية من الاعتقال وضحية أخرى للوصم

 

تواجه العديد من النساء الناجيات من الاعتقال لدى النظام السوري صعوباتٍ عدة في التأقلم مع الحياة والمحيط بعد خروجهن من السجون، إذ يعتبر السجن بالنسبة إليهن مرحلة فاصلة بين الماضي والحاضر، وقد تصل تبعتها إلى المستقبل حيث يمارس عليهن العنف والتنمر، أو يتم التخلي عنهن من قبل المجتمع والأهل والأقارب وحتى الأصدقاء، وهذه الأساليب لا تسمح لهن باستعادة حياتهن السابقة أو إكمالها من جديد بسبب رفض المجتمع لهن.

فاطمة الغربي (اسم مستعار) 30 عاماً، تعرضت للاعتقال في شهر نيسان من عام 2013، أثناء عبورها أحد الحواجز العسكرية على طريق دمشق خلال زيارة أمها وأخوتها، وكانت تهمتها التنسيق للمظاهرات وتحريض الطلاب في المدرسة التي تعمل بها على التظاهر.

تتسارع دقات قلب فاطمة كلما تذكرت تلك اللحظة، بحسب وصفها، حين تم اقتيادها من قبل عناصر الحاجز إلى الفرع وهي تتوسل إليهم، وتخبرهم بأن أطفالها ينتظرنها وأن كل التهم الموجهة إليها باطلة، لكن دون جدوى…

تنقلت فاطمة بين عدة أفرع أمنية، أولها فرع الأمن العسكري 215 في كفرسوسة، ومن ثم الجوية، وآخر محطة كانت لها في سجن عدرا المركزي، حيث تم الإفراج عنها في شهر كانون الثاني من عام 2016، قضت فيها أياماً مليئة بالذل والإهانة والتعذيب الجسدي والنفسي، غير أن ردة فعل زوجها بعد خروجها من السجن كانت أشد إيلاماً من سياط الجلادين.

 

لحظات ما بعد الاعتقال

تنهمر دموعها وهي تتذكر لحظة استقبال زوجها لها، عندما أغلق الباب بوجهها مردداً يمين الطلاق عليها، تلك اللحظات كانت كفيلة بفقدانها للوعي، كما تقول الغربي، مضيفةً: “في فترة اعتقالي كان قلبي ينزف من الداخل حزناً على عائلتي ونار الشوق لأطفالي جعلتني أنسى النوم لأيام قبل خروجي من المعتقل، وفي عتمة المنفردات الباردة كانت صور عائلتي أجمل طيف يزور خيالي”.

وفُوجئتْ فاطمة من طلاقها وحرمانها من احتضانها أطفالها بعد غيابٍ دام سنوات، حيث اتهمها زوجها بجلب العار والسمعة السيئة إليه، لتزيد نظرة المجتمع وأحاديث المقربين والمحيط من التأثير على زوجها، فكانوا يتحدثون عما تتعرض له المعتقلات في السجون بطريقةً واصمة، مما دفعه لطلاقها والتخلي عنها.

رغم كل ما تعرضت له فاطمة من زوجها بالإضافة لفصلها من عملها في التدريس، إلا أن الصدمة الكبرى، كانت عند سماع صوت والدتها التي أخبرتها بأن أخوتها قد تخلوا عنها منذ لحظة اعتقالها، مواسين بعضهم البعض بعبارة “فاطمة ماتت لا عاد تجيبوا سيرتها”، متسترين بحجة العادات والتقاليد والشرف المرتبط بالمرأة.

كانت المرحلة التي تلت إطلاق سراحها هي الأصعب في حياتها لما عانته من رفض ولوم مجتمعي وفقدان لمكانها في العمل وتساؤلات من حولها التي تجلد الروح قبل الجسد، فكان سؤال الجميع أو الجزء الأكبر كما تقول “هل تم اغتصابك؟” لأنها الفكرة الأكثر رواجا عن الاعتقال والمرأة على وجه الخصوص.

 

العائدات لسن ناجياتٍ بالضرورة

تواجه الناجيات كما أشرنا سابقاً صعوبات كثيرة بالاندماج بالمجتمع مرةً أخرى، والتأقلم مع حياة ما بعد الاعتقال، حيث يتم حرمانهن من معظم حقوقهن، ويجدن أنفسهن أمام ظروفٍ وتحدياتٍ جديدة.

تقول فاطمة: “أغلب النساء المتزوجات في المعتقل كن يخفن من الخروج من المعتقل وردة فعل الزوج أو الأهل، لأن المجتمع لا يرحم في كلامه وتعامله، والجميع يحمل المرأة مسؤولية الاعتقال، وكأنها ارتكبت فاحشة أو رذيلة، على عكس الرجال فالجميع يحتفل بخروجهم من المعتقل بإطلاق الزغاريد ورشقات الرصاص المعبر عن الفرح، متجاهلين دور المرأة وبأنها رمز للكفاح الثوري والبطولة الإنساني وبأنها كانت جنباً الى جنب في مسيرة التضحية لنيل الحرية والكرامة.”

حال فاطمة من حال صديقاتها اللواتي أفرج عنهن،  فبعضهن بحسب ما أخبرتنا المغربي، من حاولت الانتحار بسبب رفض عائلتها لها، وأخرى من لم يسمح لها والدها الذي مازال في مناطق سيطرة النظام بالاستقرار معه، وذلك بدافع الخوف من فقدان عمله ومكانته في الحي الذي يقطن فيه، وأخرى أجبرتها عائلتها على الزواج برجل كبير في السن أو لديه إعاقة عقلية أو جسدية بحجة السترة أما الأخريات اللواتي بقين مع أزواجهن إلا أنهن مجبرات على معاناة أنواع مختلفة من العنف الممارس عليهن من قبل الزوج بهجره لهن والخجل من إخبار الناس باعتقالهن، ومع ذلك توصف حالتهن أنهن أكثر حظوظاً من غيرهن لذا يكن مجبرات على الصمت والقبول بالأمر الواقع.

 

انتصار صغير

عانت فاطمة بعد الاعتقال الكثير من الضغوطات والاضطرابات النفسية التي جعلتها تفكر بالانتحار مرارا، إلا أن حصولها على حق رؤية أطفالها بعد مساعدة المحاكم الشرعية في المناطق المحررة لها، جعلها تتراجع عن القيام بذلك رغم أنها كانت قد وصلت إلى لحظات تمنت فيها العودة لظلم السجانين في المعتقلات، بسب ما عانته من مجتمعها ومحيطها.

فاطمة اليوم تصارع مجتمعها بمزيد من الإصرار والقوة لتنمي نفسها، وذلك عن طريق تطوعها ببعض الأعمال التطوعية وبذلك تحاول أن تتغلب على نظرة المجتمع العنيفة لها وتقوي نفسها.

رغم أن فاطمة بدأت وبصعوبة تستعيد بشكلٍ من الأشكال حياتها، إلا أن مآسٍ عدة ما زالت طي الكتمان، تلقي بظلالها على واقع المرأة التي تعاني من العنف بأشكال ومسميات مختلفة ولأسباب وأعراف مجتمعات تقضي بحماية السمعة وأسرار البيوت الخاصة.

وبحسب منظمات حقوق الإنسان، فإن أكثر من عشرة آلاف امرأة اعتُقلت منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، إلا أن إطلاق سراح الآلاف منهن لم يضع حداً لمعاناتهن. حيث ما تزال الحرب تلقي بثقلها على الحياة بشكل عام على جميع النساء، إلا أن المعتقلات تزداد صعوبة ومعاناة حياتهن فالكثيرات من هن يعانين من رضوض نفسية، أو من فقدان موارد الرزق، أو خسارة أقارب لهن، وفوق كل ذلك يجدن أنفسهن منبوذات من المجتمع لدى إطلاق سراحهن.

وقد أبلغت منظمة العفو الدولية عن عدة حالات تنكرت فيها عائلات من بناتها المفرج عنهن وحالات قليلة وردت تقارير عن نساء قتلهن أقاربهن لغسل “العار”.

تأتي هذه المقالة في إطار التعاون مع منظمة تقاطعات ضمن حملة “المعرفة لكسر الوصمة”

No tags

سوريةٌ ولاجئة، بين مستقبل جديد وماضٍ لا ينتهي

بين “صباح الخير” و “good morning” و “Bonjour” وتحيات صباحية أخرى بلغات ولهجات مختلفة، هكذا أصبحتُ ابدأ صباحي منذ أقل من شهرين، كلاجئة سورية حديثة في دوقية لوكسمبورغ!
بدأتُ أسمع اسمي بلفظ جديد، بدأتُ أعتاد أن لي كيان، وأن لي حقوق، ولدي ضمان. للمرة الأولى منذ سنوات عديدة امشي في الشوارع دون خوف، اتسوق دون عجلة، وإن مللتْ أخرج إلى الطرقاتِ ليلاً لأشاهد الأضواء الملونة ولا أخشى قطع الكهرباء، فلا ظلمة مقصودة هنا ولا فساد.
إنها المرة الأولى منذ نضوجي لا أكره فيها تساقط الثلج وهطول المطر، فأنا لن أبرد هنا ولن أتبلل، اساسياتُ العيش البسيطة متوفرة ولم أعد أخشى فقدانها.
ورغم كل شيء جوفي فارغ، منذ أيامٍ قليلة بدأت عهداً جديداً في حياتي، يسمونني لاجئة، أنا في بقعة تفصلني عن عائلتي وأحبتي وأصدقائي ألاف الأمتار. يتهمنا البعضُ بالخيانة والهروب، التخاذل وينسى سنوات خذلاننا التي تستمر وتجدد بكل قسوة. بين الأمان والانكسار نحن كسوريون تائهون، تجدد أملنا بمستقبل مختلف وآمن، لكننا دوماً نصمت ونتراجعُ خطوة ونسأل انفسنا باستمرار ماذا عن البقية؟
إن كنت محظوظاً كفاية ستُقتلع من جذرك يوماً ما لتجد نفسك في إناءٍ مبرهجٍ جديد، قبل أن تحطمك شظية طبعاً. وإن لم تكن محظوظ ستواجه المصير وحدك، بين الأشلاء والدماء والمطالب.
الظاهرُ بحلةٍ جديدة، لكن ماذا عن الباطن؟
لا زالتُ امارس طقوسي السورية، لم ولن انسلخ منها، ولكن هناك طقوس دخيلة ترافقني شئت أم أبيت.
قهوتي مع “هال زيادة”، فيروز وثرثرة العائلة والصديقات-الكترونيا-عن بُعد. وما إن نغرقُ في الاحداث غير المهمة تباغتني طائرةٌ سلمية، طائرة ركابٍ مسافرين لقضاء العطلة مع أحبائهم، تدمرُ صباحي كل يوم، وترعبني. حاضري الأن ملون وجميل ولكن ماذا عن باطني؟ يرعبني صوتُ طائرة، يهددني زي عناصرِ الأمن رغم لطفهم، يأبى الخوف مغادرتي وارفضُ الاستسلام.
أظن أننا كسورين، كمغتربين، كلاجئين، كهاربين، محاصرين بالمشاعر والذكريات والروائح.
أضعفتنا هويتنا وأنهكتنا، قلقون باستمرار ونفكر بالأحبة والابرياء في ظل الطغات والفاسدين.
لا نمضغُ قطعة شوكولا دون الشعور بالذنب، فكيف نستمع ونحن أجزاء؟ كيف نجمع أجزاءنا، من يعيد شملنا ويخمدُ جراحنا، من سيكمل الأحجية؟
No tags