كثيراً ما تعيش الناجية من الاعتقال والتغييب القسري صراعاً مريراً مع مجتمعها المحيط، إبان خروجها إلى الحرية، لتجد نفسها وقد اصطدمت بجملةٍ من العقبات التي تحول بينها وبين إكمال حياتها بشكلٍ طبيعي من جديد، لتزداد الحال شدّةً في المجتمعات الضيقة، والتي تزداد فيها الحساسية في التعاطي مع واقع المرأة وقضاياها.
من يصدق الناجيات؟
في هذا السياق قمنا ضمن حملة المعرفة من أجل كسر الوصمة، باستطلاع آراء بعض الناجيات، لنبحث معاً عن الصعوبات والعوائق التي واجهنها مع خروجهن من الاعتقال والتغييب القسري.
حيث تحدثت الكثيرات عن الوصمة الأولى، وهي التكذيب، فأشرن بأنه ما أن تروي الناجية قصة اعتقالها، أو أسبابه أو أي شيء يتعلق به، حتى يتم تكذيب روايتها والتشكيك بمصداقيتها، بغض النظر إن كان المحيط مناصراً للجهة التي قامت بتغييبها أم لا.
تخبرنا روعة (اسم مستعار)، والتي تم اعتقالها في طريقها إلى السقيلبية عام 2012: “عندما أخبرت صديقاتي في إحدى المرات عما تعرضت إليه من تعذيبٍ في معتقلات النظام السوري، اتهمتني إحداهن بالكذب، بدليل أن لديها أخ عسكري ضمن جيش النظام، ولم تسمع منه بحصول مثل هذه الأمور، فكثيراً ما كان يقابلني الناس المؤيدين للنظام بالتكذيب، وينشرون أقاويل خاطئة عني”.
أما فاطمة (اسم مستعار) والتي اعتقلت مدة أسبوعين في حمص عام 2012، فسردت لنا كيف تم تكذيبها، فتقول: “لم يتم ضربي أو التحرش بي جسدياً أثناء الاعتقال، إلا أن أحداً لم يصدقني، بل أشعروا أهلي بالحرج بسببي”.
الاتهام بالفائدة المادية:
كما قد يأتي اتهام الناجيات اللواتي ينشطن في الحديث عن ظروف الاعتقال بتزوير الحقائق والكذب بحجة أنهن يهدفن إلى الحصول على دعم من المنظمات سواءً أكان المال أو العمل.
وهذا ما أكدت عليه رؤى (اسم مستعار) التي تم اعتقالها في عام 2014: “كل ما سمعت بحملة اشارك قصتي، وأروي ما أعلمه عن قصص معتقلاتٍ أخريات، وأساعد بالتوثيق وما أعرفه من معلومات، وذلك بهدف فضح النظام السوري، وعسى أن يساعد ذلك بالإفراج عن معتقلات لا يزلن في غياهب السجون، إلا أن الناس يرون غير ذلك، فبعضهم يقول (أكيد صار معك ملايين من ورا هالقصص والمقابلات)، وآخرون: (ما شبعتي شحادي من المنظمات)”.
أما يمنى (اسم مستعار لناجية من الاعتقال) فتقول: “لقد نشرت قصتي عن طريق الإعلام بهدف فضح ممارسات النظام تجاه المعتقلين/المعتقلات في السجون، إلا أن بعض الناس اتهموني بتلقي مبالغ مالية ضخمة مقابل ذلك، ومن أجل “الشحادة” من المنظمات بحسب وصفهم”.
لوم الناجية:
علاوة على ما سبق، تعاني الناجيات من تلفيق قصص وأحداث غير صحيحة تتعلق بالاعتقال وما تعرضن إليه، إلى جانب إلقاء اللوم عليهن في الاعتقال، مما يشوه سمعة الناجية ويزعجها في مجتمعٍ ذكوري يتعامل مع هذه الأمور بقسوةٍ وعدم إنصاف، وهو ما يعتبر من أشكال الوصم الأشد وضوحاً والأكثر شيوعاً في سياقنا، حيث تتعرض الكثير من الناجيات للأقاويل والشائعات، ليقعن ضحية افتراضاتٍ مختلفة يراها البعض مسببةً لاعتقالهن، أو ساهمت بما تعرضن إليه خلال اعتقالهن، لاغين أصواتهن الفعلية وقيمة شهاداتهن.
في هذا السياق تقول راما (اسم مستعار لناجية من الاعتقال): “اعتبر الناس أنني كنت السبب في اعتقالي عند الحاجز، وذلك عند ذهابي إلى حلب في سنة 2015، فقالوا إنني كنت أضع المكياج وكان لباسي ملفتاً!! مع أنني لم أكن أفعل ذلك حتى”.
شفقة أم تضامن؟
الأمر الأخر الذي ينشأ عن شهادات الناجيات، هو وصم الناجية بشعورٍ من الشفقة والاستعطاف من قبل الناس اتجاهها، والسبب أنها كانت معتقلة، حتى وإن مر وقت طويل على خروجها من المعتقل، أو حتى لو استطاعت تجاوز هذه المحنة، مثل “فلانة كانت معتقلة يا حرام”، و”فلانة كانت بالسجن خطي راح مستقبلها وحاضرها”، الأمر الذي يؤثر سلبا على حالتها النفسية ويجعلها تشعر وكأنها إنسان ناقص عن بقية الآخرين، ويطفئ الحماس في قلبها بأن تخطط وتبني حياتها بشكل جيد. أو تراه يؤثر على وضعها الاجتماعي أو الاقتصادي أو غيره.
تقول سعدية (30 عاما اعتقلت عام 2015 عند ذهابها إلى جامعتها في حلب): “سئمت من أقاربي ومن حولي، ليس لهم حديث سواي بعد أن خرجت من السجن، وكله في كفة ومشاعر الاستعطاف في كفة أخرى، لستُ مصدراً للشفقة، أنا بصحتي وعافيتي، وأعمل ولدي أهداف، وأستثمر وقتي بما هو نافع لي ولمن حولي ولأسرتي، لست بحاجة لتلك الشفقة”.
وصم العائلات:
ولا تتوقف المعاناة عند الناجية فقط بل تمتد إلى عائلتها، فالناس تحمل العوائل عار الاعتقال كما حملوه لها، فلا تسلم العائلة من الانتقادات والنبذ. تحكي سلمى (اسم مستعار): “أختي ليست على علاقة جيدة بأهل زوجها، وكلما تشاجرت معهم عيروها باعتقالي، وقالو لها: “النظام فعل بأختك كذا وكذا، وهي بقيت عنده في السجن شهر كامل”. تصمت سلمى ثم تكمل بصوت مخنوق: “وكأن لي ذنب بما حصل”.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مرام (اسم مستعار) فتقول: “أبي لكثرة ما تكلم الناس بالموضوع صار معه مرض القلب، بسبب حزنه وقهره منهم، حتى أثر عليه المرض وتوفى، فصاروا يقولون إني السبب وأكيد حدث معي في السجن ما يشوه سمعتي فمات، الآن الجميع يحملني مسؤولية اعتقالي وموت أبي”.
على عكس الرجل الذي يخرج من السجن فيلقى ترحيبا من الناس، ويشكل اعتقاله تجربة بطولية يفتخر بها أمام الناس يرويها لأولاده وأحفاده، وإن كان يتعرض لما سبق من العقبات فمعاناته أقل بكثير مقارنة بمعاناة المرأة.
تعلق هدى النعسان (خريجة تربية معلم صف) على تلك القصة: “أووووه نحتاج لتغيير المجتمع من جذوره، والأمر ليس سهلا، نحتاج لحملات توعية تجوب المجتمع ولا تترك شبرا فيه، إننا نحتاج إلى المزيد المزيد من الجهود”.
نهايةً، فإن قضية الناجيات من الاعتقال والتغييب القسري ستبقى مستمرة، مهما كانت الجهود المبذولة في هذه المسألة اليوم، فبين حقهن من الخروج من الاعتقال إلى الحرية، وبين مساندتهن ومؤازرتهن للعودة إلى الحياة وتجاوز ما تعرضن إليه تقف الكثير من العوائق والحواجز، ربما كان أوضحها وأهمها الوصم، في مجتمعٍ لم يعتد على مناصرة النساء، لذلك فإن الطريق إلى تغيير واقعهن ما يزال طويلاً وإن بدأت خطواته الأولى.
تأتي هذه المقالة في إطار التعاون مع منظمة تقاطعات ضمن حملة “المعرفة لكسر الوصمة”
في إدلب في تلك البقعة الخضراء بدأنا نتهاوى بسرعة عجيبة، يسقط أحدنا بلا سند، ربما لأننا محطمون من الداخل فنسقط سريعاً. لقد تركنا الفايروس حتى النهاية، وقف شامخاً متربصاً وبدأ يصطادنا، بلا تفرقة أو رحمة. حتى شهيقناً أصبح يوضعُ ضمن ميزانية!
نحنُ المنهكون، أجوافنا فارغة، ذاكرتنا معلقة وأحساسينا معطلة. نحنُ المهزوزون بخبرٍ أو إشاعةٍ أو نكتة!
عواطفنا متلبدة و كلماتنا مختصرة، ونقول: “يا رب السترة”. سُترة نطلبها لنخفي جوعنا، وسُترة نطلبها بشدة لنخفيّ انكساراتنا، وسُترة نخفي فيها خجلنا من غريزة البقاء.
لم يبقى لنا بعد سنواتٍ مريرة سوى بعضنا، اليوم نعيش ما تبقى من وقتنا حياة رقمية، غالية جداً ومنهِكة، نستبدل بها ربطة خبز.
وكل ما يضحكنا ويبكينا في هذه الحكاية هو برودة المشاعر.
بتنا لا نخاف ولا نُسعد، لا شيء يُلفت انتباهنا المشدود دوماً نحو متاهة البقاء.
كيف نبقى وكيف نستمر وكيف نحيا؟
في كل مرحلة نتعلم نمطاً جديد، نتعلم كيفية تحويل المعاناة لروتين. نحاول أن نخترع وأن نستبدل، وكل ما نراه هو استبدالنا. لا نقفُ أبداً ونعترف بالهزيمة، ولا نقول أبداً أنتهت اللعبة، ندفعُ في كل مرة وننطلق من جديد نحو التهالك.
لا أساسيات لدينا ولا كماليات، نعيش الظرف ونتخطاه سريعاً وكأنها لعنة.
كيف لا نفهم أبداً، كيف نتطور سريعاً رغم الغرق، كيف بعد كل هذا نتجرأ على الحلم؟
كل شيء يتعاون على إبادتنا ولا ننتهي، ويسألون أنفسهم غاضبين: “ألا ينتهون؟” ونستمر رغم القيود ويستمرون.
بعد كل كارثة ننهض بعزيمة أقوى، وننتظر الاشعار، أين الاشعار؟ ألم يحن وقته؟ الم يئن أوانه؟
ومع كل ليلة نعانق الوسائد، نضربها ونُغرقها وننام برفقتها، فهي التي تبقى ونحن المرحلون.
نحيا في أحلامنا ونحلم في حياتنا، ونركض كل مرة لنُنهي الكابوس.
لا لقاء ولا وداع ولا ملامسة بعد اليوم ولا حتى قبلة، إنها الحقيقة التي المّت بنا في نهاية المطاف، إنها الوحدة.
بالسنة الثالثة بكلیة الصیدلة بالامتحان النهائي اعتقلني النظام للمرة الأولى بنص موادي وطلعت بثلاث أیام ورحت بعد ما طلعت فوراً كملت باقي المواد وأنا خایفة ومرعوبة من كل حركة بالجامعة وناطرة یفتحوا المدرج ویأخذوني مرة ثانیة، ومرعوبة من كل حاجز لأنه كنت بمر یومیاً عالجامعة بأكثر من عشر حواجز، مشي الحال وما صار شي وانتقلت للسنة الرابعة. بنفس الوقت تماماً من السنة الرابعة بالامتحان النهائي دخلوا ع بیتنا بسیارات كلها أمن كأنه جایین یاخدوا شي مجرم وأخذوني من بین أهلي، بأول یوم فكرت فعلاً أنه ممكن یصیر مثل السنة الماضیة وأرجع أطلع لعند أهلي ولحق امتحاناتي، لكن هالشي ما صار وبدأوا بعدها بتعذیب ما كنت بأكثر كوابیسي سواداً بوصل لمستواه، كانوا مع كل مرة بالكهرباء والكرسي الألماني بیذكروني أنه رح یرموني برا میتة وإني إرهابیة وما بستحق الجامعة یلي درسني فيها بشار الأسد بفضله وبكرمه، وكان كل محقق یتفنن بالمكان یلي بدو یبعتني عليه، عالموت ولا عالزنزانة یلي تحت یلي ما عرفت شو فيها بس یلي بیدخلها ما یطلع، وبفرع فلسطین كانت التهدیدات فصل من الجامعة، وفي سجان حكالي بس تطلعي من هون روحي ع شي دولة من الدول یلي داعمتكم تدرسك، أو روحي ع قطر
“كانت قطر علكة ع لسانهم هداك الوقت” .
لما طلعت بعد عشر شهور، بعد ما وصل ألف خبر لأهلي أني میتة وأخبار نادرة من البنات یلي كانوا یطلعوا إني عایشة ، كانوا مو مصدقین وفایتین بحالة من الهلع وبدهم یطلعوني من سوریا بأي طریقة. بعدها بكم یوم رحت ع الهجرة والجوازات لجدد جواز سفري، وبلمح البصر حجزوا الجواز وخبروني أنه علي منع سفر، وأنه لازم راجع الأمن السیاسي، ورجعت وقتها ع البیت لأنه كنت طالعة لوحدي، ما كنت قادرة فعلاً أمشي، وما قادرة أستوعب هالخراب والدمار یلي ما عم ینتهي، ولا قادرة استوعب فكرة الرجعة لسجن، أهلي كان قرارهم أطلع فوراً لأنه هنن ما حیتحملوا أي خسارة، ویلي كان عكس قراري لسبب بجهله، وبعد جدال طویل كان أبوي حیمرض
على أثرها فعلیاً، فقت تاني یوم الفجر وخبرتهم أنه رح أطلع وطلعت، هيك بكل هالبساطة القاتلة فعلاً، كانت آخر مرة نلمح فيها وجوه بعض.
من سبع سنین، حسیت باقتلاعي من عیلتي ومن بین أخواتي الصغار یلي كبروا بعاد عني أخوي الصغیر ما بیقدر یتذكرني منیح، وإذا حكي معي بطلب من أهلي ما بیعرف كثیر مین هالبنت، اللي مافيه یشعر فيها، وكثیر مرات لما نحكي أنا وأخواتي الصغار بسوریا یسألوني إیمت حترجعي؟ وما بیكون لا عندي ولا عند أهلي جواب.
وبالنسبة لجامعتي فصلوني منها طبعاً، وما قدرت أحصل منها على شيء، وتحول موضوع الدراسة عندي لهاجس وكل ما صار عندي امتحان بجهز حالي أنه شو ممكن یصیر وأنا ببلد ثاني وقارة ثانیة.
لما فكك هالموضوع بیني وبین حالي، وبشوف أنا شو بدي، لما فكر أنه یمكن ما أقدر شوف بیتنا مرة ثانیة وكون بین أهلي ما بقدر ما كون عاطفیة وبتوتر جداً، ولما فكر أنه لو صار عندي فرصة وكانت بلد بدون الأسد رح أرجع؟ بلاقي طبقات من الرعب والخوف والحزن والذاكرة القاسیة یلي ما فیني أتجاوزها، تراكمات من الأذى تخلي مجرد خیالات اقترابي من هالبلد السجن كارثية.
اليوم وأنا عم أسمع وشوف عالفیس عن مؤتمر عودة اللاجئین لسوریا، سوریا السجن، كنت عم حس بس أني حدا واقف بعید وعم یتفرج ومن الخوف والهلع ما قادر یعبر قدي هالمكان سجن حقیقي.
وما كتبت هالشي للحزن والأسف، بالنسبة إليّ أنا منیحة جدا وتعاملي ومعالجتي لهي الذكریات ممتازة، بس هي فرصة للتذكیر دائماً وأبداً بالتوحش یلي عم یطالبوا بعودة اللاجئین إليه
بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها… هنا تجربة صحافي سوري يتابع جلسة محاكمة ضابطين سوريين، وهو معتقل سابق.
مجسّم المحكمة وأدوار الحضور
دوماً ما شعرت بتشابه بين قاعة المحكمة وخشبة المسرح، لكني لم أجرؤ على البوح بذلك مطلقاً، فإدراكي للفارق بين الحكاية المسرحية والأحداث الواقعية يغمرني بالذنب لهذه المقارنة بين المكانين.
على المنصة، وفي صدر القاعة أربعة قضاة نساء وقاضٍ مساعد، يشرفون على قاعة يتوزع عليها فرق الادّعاء، المحامون، الشهود، الصحافيون، والناشطون.
كان كوفيد-19 حاضراً أيضاً، فاتّخذ القيّمون على المحاكمة قراراً بتحديد عدد الحضور بما لا يزيد عن 29. على يمين القاعة، وخلف الحاجز الزجاجي، يجلس المتهمان، لكل منهما مترجمه الخاص وفريق محامي الدفاع عنه. أما القسم الأيسر من القاعة فهو مخصص لممثلي النيابة العامة. وباستثناء الجسم القضائي والقانوني، فإن بقيّة الحضور يشغلون 10 مقاعد فقط، من بينهم صحافيون يغطون الحدث لوسائل إعلام مختلفة.
يبيّن المحامي (باتريك كروكر) المستشار القانوني في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان أهمية الحدث باعتباره المحاكمة الأولى التي يجريها جهاز دولة قضائي، لأحد النافذين السابقين في النظام السوري، وتشمل جرائم مثل القتل خارج القانون، والتعذيب، والعنف الجنسي في المعتقلات السورية. ويذكر المحامي أن المحكمة قد عينت اثنين من محامي الدفاع لكل منهم. ويضيف أنها المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الكمّ من الأدلة ويتم التعامل معها بدرجة عالية من الدقة القضائية. وقد طلبت المحكمة من الخبراء والباحثين المختصين كتابة دراسات عن الوضع السياسي والأمني في سوريا، وعن طبيعة العلاقة بين السلطة والمواطنين، وهناك بعض الدراسات التي تعود إلى التاريخ السوري حتى عام 1960. بينما تشير مساعدة كروكر، الحقوقية السورية (جمانة سيف)، إلى سعي هيئة الادعاء لإدراج جرائم العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي الغائبة حتى الآن على لائحة الاتهام: “من المؤسف ألا تثبت في أول محاكمة من هذا النوع جرائم العنف الجنسي”.
الحضور، الشهود، الضحايا:
الحضور من الجمهور هم الشهود، مما يعني أنهم الضحايا أيضاً. أفكر بهؤلاء المظلومين والمظلومات الذين ينعمون للمرة الأولى بقاعة محكمة تنصت لشهاداتهم في بلد يُعتقد عنه أن صوت القانون هو السائد فيه فوق أية اعتبارات أخرى. الحضور هم الناجون والناجيات، المدّعون والمدّعيات، والشهود والشاهدات، في الآن عينه، منحوا فرصة اكتشاف وجود أشخاص مناصرين لقضيتهم. لكن يبقى أعمق ما يجمع بينهم هي التجربة التي عايشوها هم أو أصدقاء لهم أو أحباء. يحضر في القاعة عائلات المفقودين، أقارب المعتقلين، أمهات المقتولين. كنت أجول في نظري على القاعة فأشعر مثلهم، بأني محاط بأشخاص مروا بتجربة مماثلة لما عايشته، ليس بالضروة في التاريخ عينه، قبل أو بعد في الزمن، لكنها التجربة ذاتها. إنهم يشاركونني ما مررت به، ولو اختلفت تفاصيل كل منا في رواية حكايته.
تشرح لنا الحقوقية السورية (جمانة سيف) صعوبة التجربة التي يعايشها المدعون والشهود، وتقول: “بقدر ما هي تجربة مؤلمة للشهود، بقدر ما هم يشعرون للمرة الأولى بجهاز قضائي مهتم بالاستماع لأقوالهم وتجربتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها. في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل، ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة. وما زالت المحاكمة اليوم مفتوحة لضم مدعين آخرين وشهود آخرين”. أما بخصوص شهادات النساء ومشاركتهنّ في مجريات القضية فتقول سيف: “في البداية أبدت المدعيات والشاهدات بعض المحاذير من المشاركة، ولكننا الآن نرى تزايداً في مشاركة النساء المدعيات والشاهدات”. كذلك تشرح المحامية عن نوع آخر من المدعين والشهود، أولئك الذين رفضوا المشاركة خوفاً على مصير عائلاتهم في سوريا.
المتهمان:
العام الماضي ألقت الحكومة الألمانية القبض على المتهمين، وجرى ذلك في برلين وفي ولاية راينلاند-بفالتس جنوب غرب البلاد، لتبدأ المحاكمة في تاريخ 23 نيسان 2020، وهي أول محاكمة تتم لضابطين سابقين من جهاز مخابرات النظام الحاكم في سوريا، يشتبه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية، وممارسات التعذيب، وجرائم اعتداء جنسي.
المتهم الأول: (أنور رسلان، 57 عاماً)
عقيد سابق في أمن الدولة، كان يدير فرع أمن منطقة الخطيب في دمشق، والمعروف أيضًا باسم “الفرع 251″.
التهم :تعذيب 4000 معتقل في أحد أفرع المخابرات العامة (فرع أمن منطقة الخطيب 251) في دمشق. ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في العامين 2011- 2012
ارتكاب 58 جريمة قتل.
ارتكاب جرائم اغتصاب واعتداءات جنسية.
ويذكر أن هذا الفرع شهد موت 58 معتقلاً تحت التعذيب.
المتهم الثاني: (إياد الغريب، 43 عاماً)
التهم: تقديم المساعدة للمتهم الأول في ارتكاب جرائمه.
احتجاز المتظاهرين وتسليمهم إلى فرع الأمن في منطقة الخطيب في خريف 2011.
احتجاز 30 متظاهراً وسوقهم إلى أقبية التعذيب.
ممارسات تعذيب، الضرب، الركل، الصعق، الاعتداء الجنسي والنفسي، بالإضافة إلى التهديد بإيذاء عائلة المعتقل والتنكيل بها.
قلق الشاهد والضحية من سهوات الذاكرة
دخلت رهام إلى غرفة التحقيق، يرافقها محاميها، وإرادتها الحرة وقرارها الشخصي. جلست على الكرسي بمحض إرادتها، لا شيء يلجم الرؤية، دون قيود تكبل حركة يديها، سوى قلق من سرد قصتها، وشهادتها، والمطالبة بحقها في الادعاء على المدعى عليه أنور رسلان. جلّ ما كانت تخشاه رهام هو سهوها عن التفاصيل الدقيقة لتجربة اعتقالها في فرع أمن منطقة الخطيب قبل أعوام. لقد خشيت من أثر تقادم الزمن على ذاكرتها، وقلقها من ردة فعلها النفسية نتيجة إجبارها على استرجاع كل ما حاولت طمره أثناء رحلة محاولات الاستمرار في الحياة. تقول رهام: “من وقت ما ربينا تعودنا يضيع حقنا، وما حدا يوقف معنا، بتخاف ولو كنت على حق لانو في مين أقوى منك يهددك ويهدد حياة كل يلي بتحبون. بعد التحقيق بقيت فترة ضايعة، ما بعرف انا وين وشو صار، كل الذكريات رجعت كأنو صارت معي هلق، بس بنفس الوقت في احساس بالانتصار، هادا الشعور انو هو اليوم بالسجن، يعني مضطر غصب عنو يفكر بشو عمل، ماعاد فيو يهرب من حالو. هاد الشعور انو هو بالسجن بكفي انو يخليني حس انو انتصرت”.
ذاكرة رهام لم تتردد أو تسهو، لا بل أعادت شهادتها الذكريات بقوة إلى ذهني وحواسي. تدفقت تجربة تفصلني عنها 10 سنوات في جسدي وحواسي، انفجرت كسيل ينهال بغزارة. رأيت نفسي أجلس على كرسي التحقيق معصوب العينين، مكبل اليدين، من حولي يتحرك المحقق بشكل دائري بلا توقف، يستجوبني بشكل مستمر. فقدت حينها الإحساس بالزمن. ويوماً بعد آخر، في جلسة التحقيق الرابعة أو الخامسة، فقدت احتساب تسلسل الأيام. هناك لا أهمية لذلك، مجرد تفصيل تافه في خضم الأحداث الجارية.
استحضار الألم المنسي
أشد ما يعانيه الشهود والضحايا في هذا النوع من المحاكمات، هو ضرورة استحضارهم وروايتهم بالتفصيل لتجارب جهدوا طيلة السنوات الماضية لنسيانها وتجاوزها، في المحكمة يجب استعادتها بدقّة وبالتفصيل والمعايشة لأجل محاكمة عادلة منشودة.
دخل لؤي إلى غرفة تحقيق المحكمة الألمانية كشاهد. 5 أشهر تفصل بين هذه اللحظات وحضوره أمام القضاة، والتحديق في وجه المتهمين. أعوام كثيرة مضت وأحداث عدة وقعت منذ خروجه من المعتقل، وها هو اليوم مضطر إلى أن يسترجع كل ما حدث بالتفصيل الدقيق، وأن يخبر قصته بكل حيثياتها. تلك القصة التي ناضل سنوات ليلجم ذكراها في محاولة منه للاستمرار، عليه الآن أن يجيب على كل الأسئلة، يسترجع كل التفاصيل، يحفظها. لا مجال لسقوط الصغير منها أمام بيروقراطية استجواب الناجي وإلا تم التشكيك بكل ما مر به، عليه أن يكون رجلاً آلياً. وكأن استرجاع ما حدث في أقبية التعذيب حكاية مجهول لا شخصانية فيها ولا مشاعر.
في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل،ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة
قال لؤي عن لحظة دخوله إلى قاعة المحكمة، وبعد أن رأى القضاة الستة والمتهمَّين خلف القفص الزجاجي، والحضور الجالس إلى الكراسي: ” فكرت رح يكون في شي6 او 5 اشخاص بالقاعة ما توقعت يكون هيك”، يروي لؤي عن يوم التحقيق هذا: “كان يوم كامل، سألوني بالتفاصيل المملة، قلتلها كل شي وحكينا وكتبو شي عشرين صفحة. كتير صعب الواحد يتذكر، هون ما في مزح بدو الواحد يضل مذكرهن مية بالمية لوقت المحكمة”. ويتابع “بس عالقليلة بالمعتقل كنت مطمش ومربطين ايدي ورجليي، اليوم الوضع مختلف هنن بالقفص ومكلبشين وانا برة، ما بعرف … شعور غريب”.
بعد ما قاله لؤي وجدتني أحاول أن أجرب شهادته، لم تكن ذكرى هاجمتني هذه المرة، بل قررت بتفكير واعٍ أن أحاول تلمس ما يقوله عن صعوبة استحضار الذكريات، عن إخبار الآخرين بذلك: “يتم شد اليدين إلى الخلف، وتقييدهما جيداً، في تلك اللحظة، تشعر وكأن يديك ستنفصلان عن جسدك في أي لحظة، يتم إجبارك على عدم الرؤية، تشعر باضطراب شديد. الظلام حالك، وأنت في أكثر الأماكن رعباً، تحرّك حدقتيك بتواتر عالٍ، كأنك تحاول أن تخترق قطعة الجلد تلك، وأن تبصر ما يحدث حولك، شكل الغرفة، عناصر الأمن، السجان، المحقق”.
النظر إلى الجلاد للتعرف عليه، أية معرفة؟
عملية التعرف إلى الجاني ترتبط بعالم داخلي نفسي معقد، غامض، تربط بين كل شاهد والمجرم نفسه. كيف تنظر الضحية إلى جلادها؟ وهل بالضرورة التعرف عليه بالبصر؟ صحيح أن عيون المعتقل والمعتقلة مطمشة، وممنوعة من الرؤية على الدوام في أقبية التعذيب لكن هل يدركون من هو المسؤول عن مصيرهم السفلي؟ حين طلبت القاضية من (لؤي) الالتفات نحو المتهمين والتأكيد على هويتهما، قال: “انا ما شفتن بالتحقيق كوني كنت مطمش كل الوقت”.
“بعرفهن كتير منيح”
دخلت لينا محمد إلى قاعة المحكمة، يربكها شعورها بحقيقة ما يحدث، وأنها اليوم إنسانة تملك الحق في أن تطالب بمحاكمة معذبيها. جلست أمام القضاة تحدق في وجوههم، على يمينها وفي غرفة زجاجية صغيرة، جلس جسد وآخر بجانبه، ينظران إليها: “بعرفون كتير منيح”، ثم أشاحت ببصرها عنهما، أخذت نفساً عميقاً ثم حبسته بصدرها، وهي تترقب بدء المحاكمة.
لينا محمد المعتقلة السابقة في فرع الخطيب، هي المرأة الأولى التي تظهر علناً لتدلي بشهادتها في المحكمة. عشرون دقيقة مرت قبل أن يُطلب من الشاهدة الدخول إلى قاعة المحكمة للإدلاء بشهادتها، فتحت المحامية الباب، سبقت لينا بخطوات، الجميع هنا، القضاة، الشهود، المحامون، النيابة العامة، والمتهمون: “وقت اخدوني على القصر العدلي بسوريا، كانت محكمة كمان بس الفرق وقت فتت على القاعة كان في قاضي قاعد على مكتب ادامو 7 فناجين قهوة وناس فايتة طالعة، يعني كل شي الا محكمة، بس بهاي المحكمة كان في رهبة”، مشهد وصفته لينا كما لو أنها تمثل في فيلم من انتاج ضخم. تكمل ” بدك تحكي مع ناس مش سوريين وياخدو شو عم تقول بعين الاعتبار، لملمت حالي، وفتت”.
تجلس القاضية مقابل الشاهدة، وتتوجه بكلامها إليها “أنور رسلان قاعد على يمينك بين الحضور، فيكي تدلينا أي واحد هو؟”. تلتفت لينا نحو المتهم، ثوان فصلت بين حركة جسدها وانهيال ذكريات ما قضته في فرع الخطيب، مدت يدها بشكل مستقيم، فردتها بشدة، كما لو أنها تصيده بيدها، ترص قدميها باتجاه الاسفل، في محاولة لمجابهة الماض بثبات حضورها، إلى أن ابتسم، ابتسم لها، ابتسامة المجرم الماكرة، سلاحه الضعيف ليذكر الناجية بما كان له من سلطة عليها، فما كان منها إلا أن ترد عليه بحركة ثابتة تلجمه بيدها، وتؤكد جرمه: “طلع انور رسلان بخلقتي، مرق كل شي متل شريط بشه يلي بطلع للواحد قبل ما يموت، كل التفاصيل مرقت قدامي، طلعت فيه وقلت للقاضية اي بعرفو”.
لكن ماذا عني؟ هل أعرف سجاني إن قابلته؟ تبدو فكرة المشاهدة بالعين أمراً سطحيّاً، وربما قانونياً بحتاً، كنت أعرف عنه ما هم أعمق، أعرف يديه. كان يضرب رأسي ووجهي بين الحين والآخر، يضع المحقق يده على رأسي والأخرى على كتفي، كنت أشعر بخاتم غليظ يحفر جمجمتي حين يضغط بشدة، صوته قريب جداً من أذني، عيناي ما زالتا تحاولان أن تبصرا شكل هذا الرجل. تهدأ حركة حدقتي، وتغرقا في السواد. أعرف الجاني أم لا أعرفه ؟
خطاب المتهم
“بس أنا انشقيت، ومو بس هيك صرت فاعل وناشط بالمعارضة ودعم المظاهرات السلمية، وساعدت كثيرين ليخرجوا من المعتقلات”.
يتناوب خطاب المتهم بين مستويين يبدو أنه حددهما بدقة، المستوى الأول هو ما يحاول أن يقدمه من معلومات يعرفها عن بنية النظام المخابراتي. وهنا يقوم بدور المتعاون، بل والمفيد للسلطات الألمانية، وهو يقدم هذا المستوى للحصول على المستوى الثاني، وهي محاولته خلق حكاية متماسكة تبعده ذاتيّاً كلما اقتربت الشهادات من دوره، فما كان منه إلا أن يشكك أكثر بمقولاتها.
ذاكرة رهام لم تتردد أو تسهو، لا بل أعادت شهادتها الذكريات بقوة إلى ذهني وحواسي. تدفقت تجربة تفصلني عنها 10 سنوات في جسدي وحواسي، انفجرت كسيل ينهال بغزارة. رأيت نفسي أجلس على كرسي التحقيق معصوب العينين، مكبل اليدين، من حولي يتحرك المحقق بشكل دائري بلا توقف، يستجوبني بشكل مستمر. فقدت حينها الإحساس بالزمن. ويوماً بعد آخر، في جلسة التحقيق الرابعة أو الخامسة، فقدت احتساب تسلسل الأيام. هناك لا أهمية لذلك، مجرد تفصيل تافه في خضم الأحداث الجارية.
استحضار الألم المنسي
أشد ما يعانيه الشهود والضحايا في هذا النوع من المحاكمات، هو ضرورة استحضارهم وروايتهم بالتفصيل لتجارب جهدوا طيلة السنوات الماضية لنسيانها وتجاوزها، في المحكمة يجب استعادتها بدقّة وبالتفصيل والمعايشة لأجل محاكمة عادلة منشودة.
دخل لؤي إلى غرفة تحقيق المحكمة الألمانية كشاهد. 5 أشهر تفصل بين هذه اللحظات وحضوره أمام القضاة، والتحديق في وجه المتهمين. أعوام كثيرة مضت وأحداث عدة وقعت منذ خروجه من المعتقل، وها هو اليوم مضطر إلى أن يسترجع كل ما حدث بالتفصيل الدقيق، وأن يخبر قصته بكل حيثياتها. تلك القصة التي ناضل سنوات ليلجم ذكراها في محاولة منه للاستمرار، عليه الآن أن يجيب على كل الأسئلة، يسترجع كل التفاصيل، يحفظها. لا مجال لسقوط الصغير منها أمام بيروقراطية استجواب الناجي وإلا تم التشكيك بكل ما مر به، عليه أن يكون رجلاً آلياً. وكأن استرجاع ما حدث في أقبية التعذيب حكاية مجهول لا شخصانية فيها ولا مشاعر.
في البداية، رفض العديد من الشهود المشاركة بسبب فقدان الأمل،ولكنهم الآن يعبرون عن رغبتهم بالمشاركة في الادّعاء والشهادة. لقد آمنوا بأنها جزء من طريق العدالة
قال لؤي عن لحظة دخوله إلى قاعة المحكمة، وبعد أن رأى القضاة الستة والمتهمَّين خلف القفص الزجاجي، والحضور الجالس إلى الكراسي: ” فكرت رح يكون في شي6 او 5 اشخاص بالقاعة ما توقعت يكون هيك”، يروي لؤي عن يوم التحقيق هذا: “كان يوم كامل، سألوني بالتفاصيل المملة، قلتلها كل شي وحكينا وكتبو شي عشرين صفحة. كتير صعب الواحد يتذكر، هون ما في مزح بدو الواحد يضل مذكرهن مية بالمية لوقت المحكمة”. ويتابع “بس عالقليلة بالمعتقل كنت مطمش ومربطين ايدي ورجليي، اليوم الوضع مختلف هنن بالقفص ومكلبشين وانا برة، ما بعرف … شعور غريب”.
بعد ما قاله لؤي وجدتني أحاول أن أجرب شهادته، لم تكن ذكرى هاجمتني هذه المرة، بل قررت بتفكير واعٍ أن أحاول تلمس ما يقوله عن صعوبة استحضار الذكريات، عن إخبار الآخرين بذلك: “يتم شد اليدين إلى الخلف، وتقييدهما جيداً، في تلك اللحظة، تشعر وكأن يديك ستنفصلان عن جسدك في أي لحظة، يتم إجبارك على عدم الرؤية، تشعر باضطراب شديد. الظلام حالك، وأنت في أكثر الأماكن رعباً، تحرّك حدقتيك بتواتر عالٍ، كأنك تحاول أن تخترق قطعة الجلد تلك، وأن تبصر ما يحدث حولك، شكل الغرفة، عناصر الأمن، السجان، المحقق”.
النظر إلى الجلاد للتعرف عليه، أية معرفة؟
عملية التعرف إلى الجاني ترتبط بعالم داخلي نفسي معقد، غامض، تربط بين كل شاهد والمجرم نفسه. كيف تنظر الضحية إلى جلادها؟ وهل بالضرورة التعرف عليه بالبصر؟ صحيح أن عيون المعتقل والمعتقلة مطمشة، وممنوعة من الرؤية على الدوام في أقبية التعذيب لكن هل يدركون من هو المسؤول عن مصيرهم السفلي؟ حين طلبت القاضية من (لؤي) الالتفات نحو المتهمين والتأكيد على هويتهما، قال: “انا ما شفتن بالتحقيق كوني كنت مطمش كل الوقت”.
“بعرفهن كتير منيح”
دخلت لينا محمد إلى قاعة المحكمة، يربكها شعورها بحقيقة ما يحدث، وأنها اليوم إنسانة تملك الحق في أن تطالب بمحاكمة معذبيها. جلست أمام القضاة تحدق في وجوههم، على يمينها وفي غرفة زجاجية صغيرة، جلس جسد وآخر بجانبه، ينظران إليها: “بعرفون كتير منيح”، ثم أشاحت ببصرها عنهما، أخذت نفساً عميقاً ثم حبسته بصدرها، وهي تترقب بدء المحاكمة.
لينا محمد المعتقلة السابقة في فرع الخطيب، هي المرأة الأولى التي تظهر علناً لتدلي بشهادتها في المحكمة. عشرون دقيقة مرت قبل أن يُطلب من الشاهدة الدخول إلى قاعة المحكمة للإدلاء بشهادتها، فتحت المحامية الباب، سبقت لينا بخطوات، الجميع هنا، القضاة، الشهود، المحامون، النيابة العامة، والمتهمون: “وقت اخدوني على القصر العدلي بسوريا، كانت محكمة كمان بس الفرق وقت فتت على القاعة كان في قاضي قاعد على مكتب ادامو 7 فناجين قهوة وناس فايتة طالعة، يعني كل شي الا محكمة، بس بهاي المحكمة كان في رهبة”، مشهد وصفته لينا كما لو أنها تمثل في فيلم من انتاج ضخم. تكمل ” بدك تحكي مع ناس مش سوريين وياخدو شو عم تقول بعين الاعتبار، لملمت حالي، وفتت”.
تجلس القاضية مقابل الشاهدة، وتتوجه بكلامها إليها “أنور رسلان قاعد على يمينك بين الحضور، فيكي تدلينا أي واحد هو؟”. تلتفت لينا نحو المتهم، ثوان فصلت بين حركة جسدها وانهيال ذكريات ما قضته في فرع الخطيب، مدت يدها بشكل مستقيم، فردتها بشدة، كما لو أنها تصيده بيدها، ترص قدميها باتجاه الاسفل، في محاولة لمجابهة الماض بثبات حضورها، إلى أن ابتسم، ابتسم لها، ابتسامة المجرم الماكرة، سلاحه الضعيف ليذكر الناجية بما كان له من سلطة عليها، فما كان منها إلا أن ترد عليه بحركة ثابتة تلجمه بيدها، وتؤكد جرمه: “طلع انور رسلان بخلقتي، مرق كل شي متل شريط بشه يلي بطلع للواحد قبل ما يموت، كل التفاصيل مرقت قدامي، طلعت فيه وقلت للقاضية اي بعرفو”.
لكن ماذا عني؟ هل أعرف سجاني إن قابلته؟ تبدو فكرة المشاهدة بالعين أمراً سطحيّاً، وربما قانونياً بحتاً، كنت أعرف عنه ما هم أعمق، أعرف يديه. كان يضرب رأسي ووجهي بين الحين والآخر، يضع المحقق يده على رأسي والأخرى على كتفي، كنت أشعر بخاتم غليظ يحفر جمجمتي حين يضغط بشدة، صوته قريب جداً من أذني، عيناي ما زالتا تحاولان أن تبصرا شكل هذا الرجل. تهدأ حركة حدقتي، وتغرقا في السواد. أعرف الجاني أم لا أعرفه ؟
خطاب المتهم
“بس أنا انشقيت، ومو بس هيك صرت فاعل وناشط بالمعارضة ودعم المظاهرات السلمية، وساعدت كثيرين ليخرجوا من المعتقلات”.
يتناوب خطاب المتهم بين مستويين يبدو أنه حددهما بدقة، المستوى الأول هو ما يحاول أن يقدمه من معلومات يعرفها عن بنية النظام المخابراتي. وهنا يقوم بدور المتعاون، بل والمفيد للسلطات الألمانية، وهو يقدم هذا المستوى للحصول على المستوى الثاني، وهي محاولته خلق حكاية متماسكة تبعده ذاتيّاً كلما اقتربت الشهادات من دوره، فما كان منه إلا أن يشكك أكثر بمقولاتها.
“كنت مجرد موظف بنظام أكبر مني، مثل الأيد يلي بس بتنفذ الأوامر، النظام الإداري المخابراتي بيبلع الكل. الحرس الجمهوري هو المسؤول عن يلي صار. وأكتر من مرة، خصوصاً وقت مظاهرات الحولة، اعترضت على أفعالهم، حتى أخليت سبيل بعض المعتقلين دون مذكرة. ومن وقتها بدأوا يهددوني بوضوح، وجردوني من كل الصلاحيات. صرت مجرد كاتب للملخصات والمذكرات عن الاستجوابات يلي بيعملها المحققين. كنت أكتب محضر واحد عن كل التحقيقات، وأوصيت بإخلاء سبيل المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا”.
وعن خطاب المتهم والنظام البيروقراطي ومكننة التعذيب، يقول الكاتب السوري عمار المأمون: “هناك مهارات تأليف لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل وثيقة تملك معنيين، لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـفرع”، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي توقف القلب والتنفس”.
ما الفارق بين النظام البيروقراطي الورقي أو الشفاهي الذي كان يخدم فيه رسلان، وبين نظام المحكمة الألمانية الذي يجري أمامنا مبنياً على سلطة الأوراق والوثائق والهرمية الإدارية؟
برأيي عمار المأمون، المتهم رسلان يملك الخبرة. في الماضي السوري كان بهلوان الأوراق الإدارية، وهذه المهارة تمنحه القوة أيضاً في التعامل مع المحكمة الألمانية. يتحدث بإسهاب عن بنية النظام السوري الهرمية الإدارية، لكن ما أن تصل الشهادات إليه يجعل من الاتهامات الموجهة إليه عاطفية أو غير متماسكة. هو يملك خبرة الدقة، يكثر في كلامه توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث الحقيقية حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته.
إذاً، هي خبرة التعامل التلاعب بالوثائق والأدلة، لكني ما زلت أشعر بكل ذلك، ما زلت أشعر برأسي يرتطم أرضاً، عاجز عن الحركة، حيز عصابة عيني لا تبدي إلا ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. أذكر وقوفي الطويل، الخارج عن الزمن في درجة الحرارة الباردة. سمعت قدمين تقتربان نحوي وصوتاً يصيح: “وجك ع الحيط”، رفعني من شعري، ومن ثم أمسكت بي يدان من الكتف وراحتا تقذفاني إلى الحائط، سمعت طقطقة عظام أنفي، كانت حقيقية أكثر من أية وثيقة أمتلكها الآن.
كلما تضاربت عليّ المعلومات، الشهادات، الحقائق، والحكايات، كنت أبحث بنظري في القاعة عن الصحافيّة (لونا وطفة)، التي اعتقلت أيضاً في فرع أمن منطقة الخطيب. هي الصحافية السورية الوحيدة التي توثق كل جلسات محاكمة كوبلنز. تحدق بصمت في الشاهد الذي يروي بتفاصيل دقيقة ما تعرض له من تعذيب على يد رجال الأمن التابعين للنظام السوري، تضغط على القلم الذي حفر نفسه بقوة على الدفتر، تشد كتفيها، وتكتب، متجاهلة التصاق ذكرى ما حدث معها في تفاصيل حكايات الشهود.
تنصت (لونا) باهتمام دقيق لأسلوب الشاهد في رواية حكايته، يتحدث بهدوء مع ابتسامة واثقة. كانت عباراته واضحة كما لو أنه يروي حكاية جرت لشخص آخر. يصمت بين الفينة والأخرى، في محاولة للتوازن بين العالم الذي يروي عنه في الماضي، والعالم الحاضر الآن أمامه في قاعة المحكمة. كلما صعب عليه الأمر كان يسود صمت مطبق في القاعة يصيب الجميع. فطلبت القاضية استراحة، بدا أن ما قاله الشاهد أثقل عليها أكثر مما أرهق الشاهد نفسه، المضطر إلى استعادة ماضيه: “عم الصمت كل القاعة مش بس القضاة، الكل صمت، زوجة الشاهد موجودة كمان عم تبكي مع الموجودين، هو بكي كمان، يلي صار بهاي الجلسة ما فيني اوصفه”. تعلق لونا، التي رحت أشعر بأن ما يجمع بيني وبينها هو الدليل الأعمق الذي تحتاجه أي محكمة لتثبت حقيقة أعمق من الأوراق والأدلة. إن التفاعل بين ذاكرتي وذاكرتها هو الدليل الأعمق للحقيقة. لم نتحدث عن ذلك مباشرة، لكني أدركت أن ذاكرتنا هي الدليل الذي يسمح لي بإكمال المحاكمات، الشهادات، الحكايات والحكايات المعاكسة، بثبات.
الشهادة التي تغير التاريخ
مع كل شاهد أو شاهدة جديدة، كنت أتساءل إن أصبحت أكثر قدرة على سرد حكايتي: “في ذلك اليوم، فُتح باب الزنزانة، وتم جرّي مغمض العينين مكبّل اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً، قالولي “هاي مو بلدك، بتحبّ نرجع نزتّك على الحدود”. كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثر سواداً، ارتطمتُ خلاله بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.
لكن لا بدّ من شهادة تحرك الراكد الفاسد وتكشف المسكوت عنه. فالشهادات المنهكة، والمتعبة، والمدمرة، قد تغير التاريخ. ماذا لو صمت جميع الشهود وفضلوا عدم عيش تجربة الاستعادة والاستحضار لتجارب قاسية من ماضيهم؟ لابد من شهادة أن تشق مساراً جديداً، كما حدث هذا العام في الرابع من حزيران الفائت حين أدلى المحامي (أنور البني) بالشهادة الأولى. استمرت شهادته قرابة الست ساعات، روى فيها عن سنوات اعتقاله الخمسة حتى خروجه في العام 2011، وهجرته إلى أوروبا. لم تمض ثلاثة أشهر على الشهادة الأولى، حتى ظهرت في 16 أيلول شهادة أخرى، هذه المرة للمحامي ومدير المركز السوري للاعلام وحرية التعبير، مازن درويش، الذي قدم شهادته عن سنوات اعتقاله الأربعة بين أعوام 2011-2015. ومن ثم تتالت الشهادات حول الجرائم المسكوت عنها.
لا تملك شهادتي أهمية قانونية في محاكمات كوبلنز الحالية مع مدير أمن فرع منطقة الخطيب. لكنّني، وبتاريخ اليوم، أقدم نصي هذا، ليس كشهادة لإقناع الآخرين أو كدليل للقضاء، بل كمحاولة لأسرد لنفسي ما حدث معها في المنفردة في فرع المخابرات الجوية العسكرية، فأكون شاهداً أمامي، من هنا، في مواجهة مع الذات الهاربة من التذكر.
سيطرت الكآبة على جونا العائلي بعد أن سافر والدي وأخي وبقينا أنا وأمي وإخوتي الصغار وحدنا تحت الحصار واستمرار القصف المدفعي في مدينة يغرس كل من فيها أنيابه بالآخر.ننام ونصحو على أصوات القذائف المدفعية التي كانت تنطلق بوتيرة منتظمة فجر كل يوم؛ فما أن يقول المؤذن الله أكبر حتى تبدأ سلسلة القذائف اليومية المعتادة وأحياناً كانت المدفعية تسبق آذان الفجر، لتكون أول ما نبدأ به يومنا. ويستمر القصف حتى طلوع الصباح، وكأن ملائكة الليل والنهار تجتمع ًفي وقت الضحى والغروب شاهدة على الشهداء الذين يرتقون كل يوم، حاملةً معها أرواحهم نحو السماء بعيداً عن هذا الخراب البشري.
اتجهنا من ريف دمشق هاربين من القصف ووصلنا إلى مشارف دمشق ونزلنا في المحطة الرئيسية التي تصل بين ريف دمشق والعاصمة المكان التعيس المعروف باسم ” كراجات السومرية”،الباصات داخل العاصمة ضخمة عما نعرفه في الأرياف، تتسع لقرابة ٤٠ شخصاً، ولكن في سوريا تبتلع كل ما تقدر على حمله من أشخاص، فترى أكثر من سبعين راكباً مكتظين فوق بعضهم البعض، يكاد لا يكفيهم الهواء، وثم يأتي صوت السائق يعبر الفراغات المعدومة بين الركاب، صارخاً: وسعو مكان لغيركن!!
رغم أن المكان صار أشبه بعلبة سردين” وكالعادة في وقت الظهيرة كانت الأعداد تتراكم فوق بعضها البعض، كنت أحمل بعض الأمتعة ومنها حقيبة يدي وفيها بعض الأشياء ولكن أهمها ما يُعرف بسوريا باسم كرة النجاة المبدئية من السجون وأقصد هنا الهوية الشخصية، غيابها كفيل بإنزال اللعنات علينا كمدنيين من عساكر الحواجز. انتبهت ونحن في منتصف الطريق أن قفل الحقيبة كان مفتوحاً، بحثت فيها ولم أجد المحفظة الصغيرة. بدأت أرتجف من الخوف أنا وأعوامي الستة عشر و بدأت تنهال علي كل تلك القصص والسيناريوهات التي كان سكان دمشق يهمسون بها بحذر خوفًا من أن تسمعهم الحيطان” و كدت أفقد عقلي تمامًا. بحثت هنا وهناك ولم أجد شيئاً، طلبت من السائق أن يتركني على قارعة الطريق ونزلت كمن لدغته أفعى، وبدأت أبحث في الشوارع حتى تلك التي لم أمر فيها طيلة حياتي.
عدت أدراجي نحو المحطة الرئيسية وصرت أبحث يميناً وشمالاً ولكن ولا حتى بصيص أمل واحد. لا أعلم كيف وصلنا إلى منزلنا في وسط دمشق دون أن يطلب أحد من عناصر الجيش هويتي، و اتصلت بوالدي وأنا أرتجف واتجهت مسرعًة إلى أقرب مركز شرطة في حي الميدان لأقدم بلاغاً، وصلت هناك في حوالي الساعة العاشرة صباحاً.إنها المرة الأولى التي أزور فيها مبنى الشرطة رغم أنني مررت من جانبه مئات وربما آلاف المرات. كان كل شيء مريعاً جد ًا فأنا و أمي وحدنا وأن تكون في مخفر شرطة سوري بلا واسطات أمر مفجع ومخيف.
طلب منا موظف الشرطة الذي مر على ً تقاسيم جسدي بنظراته المقرفة وكلماته المليئة بالحقد والشر والكثير من الغايات الدنيئة تجاه فتاة لا تتجاوز السادسة عشرة.طلب منا أوراقا من مكتب النفوس الذي يقع في منطقة الجزماتية، توجهنا إلى المكتب وبعد انتظار وفوضى ودفع المال حصلنا على الأوراق.
عندما عدنا إلى الشرطي، طلب منا اوراقاً أخرى يجب أن نحصل عليها من نفس المبنى الذي كنا فيه قبل قليل.. شعرت حينها أنه يتلذذ بجعلنا ننتظر ونذوب تحت شمس ذلك اليوم الذي كان حاراً رغم أننا في شهر تشرين الأول، أم ربما دمائي هي التي كانت تغلي!
ساعات من الانتظار في بهو المبنى وساعات من التوتر ، طلب مني الشرطي أن أجلس بجانبه : اقعدي عمو قعدي ليش واقفة.. وأشار بيده إلى السرير العسكري الذي يجلس هو عليه، وفي الغرفة مكتب في آخرها وكرسيان ،وعلى جانبيها سريران من الحديد، على كل واحد منهما فراش أظنه موجوداً هناك منذ الأزل نظراً إلى لونه الأصفر من تراكم الغبار. في حلول الساعة الرابعة وبعد انتظار ظننته سيستمر إلى الأبد أحضرنا كل الأوراق المطلوبة و قام بملئ طلب ثم نظر إلي بطرف عينه:
_ وين شهادة المختار
_ شهادة شو ؟
_ مارحتي عالمختار وعبيتي طلب انو ضيعتي هويتك _ …!ا
_ بدكن تضلو طول اليوم شاغليني قومي روحي عالمختار جيبي ورقة وتعالي.
وبدأت حلقة جديدة من العذاب ، من حسن الحظ أن مكتب المختار يبعد مسافة ٦٠٠ متر لا أكثر. قال المختار المحترم أننا بحاجة إلى شاهدين على عملية السرقة، أخبرته أن والدتي كانت معي و صديق والدي كان يقف بجانبنا
_ أمك مابيصير تشهد لأنها أحد افراد عائلتك يمكن تكون عم تكذب معك
_ يعني شو اعمل هلأ؟!
_ لاقيلي شاهد تاني
_ حسبنا الله ونعم الوكيل يعني كيف أمي بدا تكذب..
_ روحي عمو لاقيلي شاهد تاني وانتبهت إلى أن عيناه كانت تتجه بخبث لئيم إلى صديق والدي، واتضح أنه يريد رشوة أو ما يعرف ب” تسليكة ” اتصلنا بأحد أقاربنا ولكن المختار رفض مجدداً بحجة أن الشاب لم يتجاوز العمر القانوني وهو في السابعة عشرة،
ولا يحق له أن يشهد على الموقف، انتفضت غاضبة ومتعبة وبالصدفة البحتة عندما كنت خارجة من المكتب وجدت احد أصدقاء جدي والذي كان جارنا طوال ٢٠ عاماً عرفني عندما قلت له أنني ابنة م_ف
فقد مرت بضع سنوات على رؤيته لم يفكر مرتين وقال أنه سيشهد على الأمر
_ شو بدك يعني من وين جبلك شهود روح جيب ركاب الباص اللي بحياتي ما عرفتن لك شو بدك قلي هلكتو سمايي من الصبح
قامت أمي بسحبي نحو الخارج وأنا أصرخ وأشتم بطريقة لم أعتد عليها في حياتي كلها أعتقد بأن جارنا قد فهم الأمر وقام بإعطاءه ما اتفق عليه.
عدنا إلى مركز الشرطة وأنهينا الأوراق كلها وخرجنا وفجأة اتصلت بي إحدى معارفي التي سبق وكتبت رقمها على ورقة في حال اضطرت للاتصال بها الواضح أن من سرق المحفظة قام برمي الهوية مع بقايا المحفظة والصور الصغيرة لعائلتي تحت أحد المقاعد ولم يحتفظ سوى بالمال حين رأيت هويتي بين يديه شعرت أنني أتنفس من جديد كل ماكان يخطر في بالي أن احد الحواجز سيوقفني ويسألني عن هويتي وحين أقول له _مامعي هوية، ستكون هذه أول خطوة لي باتجاه الهاوية التي سأذوق فيها مرارات وعذابات لا يمكنني تصورها.
توجب علي العودة إلى مخفرالشرطة لأغلق الضبط بعد يوم حافل،وطلبت أمي من أخوتي انتظارنا على الرصيف المقابل للمخفر ريثما نعود. لم نكن قد تحركنا حين سمعنا صوت صراخ وشجار كبير، بضعة شباب تترواح أعمارهم بين السابعة عشرة والعشرين يتشاجرون على أمر ما، واحد منهم كان “عميل” رأيته يركض نحو مخفر الشرطة وخرج برفقة شرطي وهو يصرخ
_ كان عم يسبكن (يشتمكم) سيدي ، وعم يسب سيادة الرئيس.
في هذه الأثناء وصلنا أنا ووالدتي سريعا نحو المخفر، المبنى كان فارغاً إلا منا، في قرابة السادسة و النصف عصراً، نظر الشرطي إليّ بغضب
_ عم تلعبي معنا وتتسلي..
_لا كانت ضايعة ودقولي حتى آخدها من ساحة المرجة ومن شوي
_ عم تكذبي كمان.. تاني مرة قبل ما تقدمو طلب وتشغلو الدولة بالمسخرة تبعتكن بتنقبري بتدوري منيح على هويتك، بتشوفيها اذا كانت تحت مخدتك.. _ بس هويتي ماكانت بالبيت قلتلك جزداني انسرق
_ لا عاد تكذبي لسا نسرق والتقى، شو هالقصة الملفقة هي
في هذه الاثناء دخل عنصر آخر من اٌلشرطة يجر بيده اليسرى الشاب اليافع الذي رأيناه في الخارج في الشجار ، يمسكه من ياقة قميصه ويقوم بضربه بيده الأخرى بكل قوة وقسوة، يركله بقدمه وينهال عليه بسيلٍ من الشتائم والكفريات. نهض الشرطي من على الكرسي وهرع ليساعد زميله في حفلة الضرب الوحشي.، سمعنا صوت باب زنزانة حديد يفتح، الفتى يصرخ ويبكي
_ مشان الله يا سيدي والله ماعملت شي هنن هجموا عليي، مشان الله يا سيدي.. لك آااخ يا أمي _ مشان الله
_تعا خلي الله يشفعلك هلق لشوف ولاك.
_ يا سيدي..
صفعة أخرى على وجهه أخرسته تمامًا، ثم سمعنا صراخه من جديد كان يلسع جلده بالسيجارة المشتعلة بيده.
عاد إلى الغرفة نظر إلي بوحشية _ إذا لسا بتاكلي خرا وبتجي بتشغلي الدولة بقصصك وبتقليلي مرة تانية ضاعت الهوية بدي فوتك وراه عم تفهمي..
هل يبدو الاسم مألوفاً أم أنه اسم عابر لم تعطه الحياة فرصة البقاء في أذهاننا؟ وهل دُفن كصاحبته مثل الآلاف من النساء اللواتي حارب المجتمع لإبقاء حياتهن وموتهن سراً؟ من هي ميساء التي لا أرغب أن أكون هي يوماً ما؟
ميساء ثلاثينية وأم لثلاثة أطفال كانوا دوماً الأداة التي يستخدمها والدهم لترهيب وتهديد ميساء، ومعلمة في إحدى مدارس “أطمة” في ريف إدلب الشمالي. جاء الخبر سريعاً وعابراً ربما، “ميساء انتحرت”، هكذا ملأ الخبر صفحات التواصل الاجتماعي، مع تفاصيل قليلة أن ميساء وضعت حداً للعنف الذي تعرضت له يومياً من زوجها، الذي حرمها أطفالها الثلاثة، فواجهت كل هذا وحيدة وقتلت نفسها.
قبل خبر موتها على العلن، لنطرح على أنفسنا كم مرةٍ يجبُ على المرء أن يواجه موته ويعيشه بكل تفاصيله حتى يصل لسبيل الانتحار، وهل أصبحت خياراتنا كنساء محصورة ضمن موتين وكلاهما موت غير معلن.
انطوت ميساء على قصتها بعد أن عاشت أقسى أنواع العنف الذي جسده شريك حياتها الزوجية، وبحسب ما روته الدائرة المقربة منها، أن آثار العنف الجسدي كانت ظاهرة يوميا على ملامحها، حتى العنف الذي مارسه بالضغط المستمر عليها وحرمانها من حق التكلم عن كل الذي تحمله، أو يأخذ منها أطفالها.
طاقة النساء على الصبر مرعبة ومخيفة، فمن كانت تصبر على الأذى لأجل أطفالها هي حتماً تقدم بطولة وتضحية من نوع يصعب تفسيره، من كانت تتحمل أعباء عملها كمعلمة وأم والوقت نفسه “معنفة” وتظهر بكل قوتها لتكن امرأة عادية هي حتما أكبر من كل المصطلحات التي تكمن داخل اللغات.
وربما كان هذا الصبر خياراً وحيداً وضعته الحياة أمام النساء، وخاصة في ظروف كتلك المحيطة بحياة ميساء، زواج أقارب وثلاثة أطفال ونزوح وتهجير وحرب لا تنتهي، إضافة لكل ما يحيط بحياة النساء من ظلم وعنف واضطهاد متجذر عميقاً في تاريخ المجتمع البشري.بعد أن انتهت السبل، ووصلت النهاية المكلومة اخذت ميساء انتحارها طريقا أخر للراحة، بعيداً عن زوجها وعائلتها وكل من ساهم في موتها المباشر والأسباب التي دفعتها للموت كل يوم.
الآن هل ستكتب نفس النهاية لميساء جديدة؟ ولمَ حتى بعد وقوع هذه الفاجعة منطقتنا مازالت تأخذ الأمور المتعلقة بالنساء في منحى السخرية؟ هل باتت أوجاعنا مصدراً ليستمد بعض الذكور الرجولة منه.
لا نريد الموت، نحن الحياة بهيئتها المتناقضة، الأمر ليس بالسهولة التي كنت أتصورها حين اتخذت قرار المواجهة للعيش كما أحب، أصبحنا كنساء ندرك تشاركنا في العقبات التي تقف بعد كل فعل، حتى في أبسطها مثلا كفعل الكتابة، عند الانتهاء من النص ستكون أمامنا قائمة من التهم تدخل في سياق ما كتبنا، ومنها فضائية تماماً، لا صلة لها بالمحتوى، سيكتب لكِ أنكِ نسوية كتهمة، وأنكِ ضد ما تحمليه من معتقدات دينية وغيرها من التهم الموجهة لكِ، ليس للذي تكتبيه.
كل ما روي عن ميساء وظروف انتحارها إلا أنه كان كافياً لإشعال نوعاً من الثأر بداخلي، وإحساساً بأحقية الدفاع المستميت عن نفسي وعن من هن مثلي شريكاتي في العبء الحياتي كامرأة، قبل الحادثة بيومين فقط، كنت أستقبل كل ما يقوله زميلي في العمل أنه نوعاً من المزاح، حين يقول “حاج تتعبي آخرتك لبيت زوجك، نحن الرجال صار لازم نطالب بحقوقنا”، لكن بعد هذه الحادثة هو مذنب في كل مرة سيتجاوز مزاحه معي مساحة الحقوق التي نقاتل من أجلها كنساء كل يوم والتي حرمنا منها قبل ولادتنا حتى.
وربما سأدخل في خضم معركة جديدة تبقيني من الناجيات، فأنا ناجية حتى الآن من بطش نظام الأسد، ونازحة ومهجرة، وهذه نجاة يشاركني بها كل السوريون، لكن الآن أريد أن أكمل حياتي كناجية من نظام أبوي قمعي، حتى لا أكون ضحية يوماً ما لمن لا يملك من الرجولة سوى ما تعلمه من خبراته المكتسبة تاريخياً واجتماعياً والتي تحدد شروط رجولته بأن يمارس هيمنته وسلطته علينا كإناث.
وحتى لا أكون ميساء ويستمر وجعنا حتى بعد الموت، لأن القرية منعت تداول قصة ميساء، وكتمت حقها حتى بعد موتها، ومنع زوجها أطفالها من وداعها للمرة الأخيرة قبل الدفن، لأنه حسب ما يقول أن ما فعلته عار سيلاحقهم طول الحياة.
ماذا لو كانت الحياة طبيعية؟ ماذا لو قضيت كل يوم من حياتي بصدقٍ وكرامة وحرية؟ كيف سأشعر عندما يعاملني الجميع كإنسان فقط دون تاء التأنيث؟ ذلك الحرف المدورُ الصغير، الذي يضعني دوماً في دائرة الاتهام، والذي يتربص بي كوصمة. أتساءل دوماً بحسرة، كيف سأشعر؟
في نظرهم أنا عدة أشياء قبل أن أكون إنسان، أنا السلعة والجمالُ والكمال، أنا الإعلانُ المبهرجُ على كل الأبواب والجدران، أنا الأضواء الزاهية والغزل المنمق والألوان الصارخة، أنا القياساتُ الصغيرة والضيقة والكعوب الشاهقة، أنا الجسدُ النحيلُ المغري والشفاهُ الممتلئة والمنحنياتُ الدقيقة، أنا الآلة ذات صلاحية محددة، أنا السنين الصغيرة. أنا كل شيء ولستُ إنساناً بعد. أنا الجسدُ والشرفُ واسم العائلة، أنا العشيقة والخطيئة والحروب السرية، أنا الزوجةٌ الأولى والثانية والثالثة والرابعة، أنا الخيارُ الثاني دائماً، والقطعة القابلة للاستبدال، أنا الزوجة المطيعة والأختُ المتمردة، أنا الأم المحترقة منذ ليلة العسل الأولى، أنا الابنة المكبوتة صاحبة مستقبل مرسوم على لوحة في وسط الصالون. أنا كلُ ما سبق ولستُ إنساناً بعد. أنا ضحية جريمة بلا شرف، أنا المُغتصبة والمُتحرشُ بها، أنا المعرَضة والمتعرضة لكافة أنواع العنف، أنا الموصومة بالعار، أنا ضحية الاستغلال والابتزاز الجنسي حصراً، أنا المعتقلة في كل السجون، يتفننُ جلاديّ بطرق تعذيبي. أنا المطلقةُ والأرملة والمتزوجة مرة أخرى، أنا التهمة والفضيحة والسبب. أنا الشيء الذي لا يشبه الإنسان فالإنسان حر.
في كل يوم أنزعُ قناعاً أرغمني المجتمعُ على وضعه، وأحاول ارتداء قناع أكثر سلمية وحيادية، أحبُ الأقنعة الحمرا وأخاف منها، مللتُ الأقنعة الفضية، مللت الأماكن التي أوضعُ فيها رغماً عني، والأسماء التي أُنادى بها والألقاب والأدوار التي أُنمطُ بها والأطر التي تخنقني، تخنقني أُطري.
لطالما أرعبني الكمال ومساحيق التجميل بعد ليلة سادية، ولطالما هددتني الأنوثة. يكتبون في دفتر العائلة عند ولادتي إنها التهمة والضحية، وتحاصرني هويتي والتاء الأنثوية. أجربُ رفع رأسي فيصرخون إنها المسترجلة هاجموها. ويقيمون عند رفع صوتي حفلة رجمٍ خيالية، يرجمونني بأقبح الكلمات وأكثر الصفاتِ سوداوية، يسقطُ وشاحي لشدة الرجم فيخافون وجهي بخزعبلات وأكاذيب وعنصرية. يرعبهم شعري، ويرعبهم صوتي ويتعالون أكثر ويبتكرون أساليباً أكثر حداثة وعصرية. وينسون كل شيء، يتناسون سبب وجودي، يتناسون الفطرة ويتجاهلون الحاجة، يسلبونني حقي بالعيش. يرعبهم كوني إنسان اساويهم بالوجود والحرية.
بينما أتابع فيلماً وثائقياً على أحد الشاشات يظهر إعلان مختلف لا يشبه أي إعلان شاهدته، يملأ هذا الإعلان قلبي ويشد حواسي كاملة، فهو يعلن عن اقتراب عرض الفيلم السوري الوثائقي إلى سما”، أشعر بالانتماء لهذا الفيلم، وتأتي تلك الساعة التي تجتمع كل عائلتي حول التلفاز منتظرين اللحظة التي ستظهر فيها قصتنا السورية على الشاشة، نعم قصتنا، فهذا الفيلم يقص جزءاً من حرب عشناها، ويحكي جزءاً عميقاً من حياة آخرين كافحوا على أرضهم ومن أجل وطننا جميعاً، و عند انتهاء الفيلم بما حمله من مأساة و ما احتضنه من دموع و صرخات و ما تكرس فيه من موت لأحلام غضة و تصعُّدِ أرواح للسماء اعتزلت و بكيت مسحت دموعي و التجأت للكتابة فهي الملاذ الأول و الأخير لي الكتابة التي أدمن عليها فكانت هوساً و شغفاً و مأمناً لي.
ثم ما الذي كتبته ؟.. كتبت ما شعرت أنهم قالوه و عاشوه و يعيشونه..و على إحدى صفحات دفتري الذي أثقله الحزن و أنهكه التعب إثر الحكايا التي مزجت فيها دموع أناس حاربوا و ناضلوا و بذلوا الأرواح في سبيل أوطانهم ، على تلك الصفحة قصصت بلسانهم
(كانت حافلتنا هي الأخيرة .. قلت لها .. لمدينتي الساكنة الخالية إلا من أشلاء الأطفال ، لا تقلقي يا حبيبتي سنعود لا تقلقي سنعيد بناء كل بيت فيك و الصرخة الأخيرة كانت سنعود .. هنا ، كل التماسك الذي ناضل و استمر ، كل القوة ، كل أسباب البقاء فينا ، انهارت دفعة واحدة و أجهش الجميع في البكاء ، بكينا حتى نفدت الدموع ، لم ينطق أحدنا ببنت شفة ، كان كل منا يحاول ترميم ما بقي منه ، بكينا كل الأشياء التي ماتت فينا و ذلك يعني أنّنا بكينا كُلَّنا فكل شيء فينا مات ، كلّ شيء فينا بكى ، كل خلية فينا نشجت حتى أُنهِكَت ، لكننا كنا أقوى من أن نتوقف هنا ، صوت بداخلنا كان لا يزال حياً أو أنه ولد الآن ، في تلك اللحظة ولد ، كان يدفعنا للمُضِيِّ قُدُماً و هذا ما فعلناه ، لم نكن لنتوقف هناك ، صحيح أننا لا نستطيع أن ننسى فحتى بعد رحيلنا لازلنا كلما نام الكون و كلما انزوى كل واحد على أحلامه لازلنا ننزوي على فتات ذكرياتنا نحتضنها و نبكيها من جديد نبكي فيها كل ما عشناه كل ما شاهدناه من جثث الشباب و بقايا الأطفال و عويل الأمهات و استماتة الآباء ، و في نهاية المطاف و بعد أن يرى النوم أننا أُنهكنا بالكامل يأتي ليظلل علينا، و في الصباح ننهض من جديد نوقد أملنا و دوافعنا نشعلها جيداً و نكمل مسيرتنا المميزة مقتحمين معارك جديدة خلاقة ..
يخبرني أستاذي الذي يعمل كطبيب نفسي بأنه من الأفضل لي أن أتحكم بردة فعلي، وأن أضبط انفعالاتي وأسيطر على غضبي. يخبرني بكيفية خلق إطارات جديدة لحياتي، كأن أنظر بإيجابية لعدة أمور أنا شخصياً لا أستطيع أن أبصر منها إلا حقيقتها المظلمة، وما أشد ظلامها. يخبرني طبيبي بأن أثقف نفسي نفسياً، رسائل توعوية يفترض أن تغير حياتي حتى وإن كان ذلك تغييراً طفيف. يعلمني بعض التقنيات التي قد تريحني لدقائق أو ساعات أو حتى أيام، ولكن ماذا بعد؟
في الحقيقة كل ما أخبرني به صحيح فكيف لا وهو الطبيب وأنا المتعرضة لعدةِ أشياء، لستُ الضحية ولست الناجية. أنا أتأرجح بين الكفتين، أقفز بين الحبلين. أرفض أن أخضع وأكون الضحية، وأعجز عن النجاة. ستكون أقوالي غير صحيحة إن قلتُ إنني أنفذ تعليماتِ الطبيب بدقة. أنا أصدقها وأؤمن بها. والمضحك أنني أقدمها، أنا أزود الناس بها كل يوم وكل ساعة حد الإدمان، لكنه في النتيجة إدمانٌ صحي. هل يعقل ذلك؟ في الحقيقة نعم، في الحياة عدة أنواع من الإدمان، كإدمان السعادة الذي لم أجربه بشكل مطلقٍ بعد ولكنه موجود. إدمان النجاح، إدمان العلم وغيره. أنا أساعد الناس على إيجاد الإدمان الإيجابي والصحي وأعجز عن إيجاد إدماني.
ما أحاول قوله هنا هو بصراحة تساؤل. كيف نعثر عن إدماننا الإيجابي، كيف نبتكر أطرنا الجديدة السعيدة، كيف نتغير ونحن لا نزال نقبع في القوقعة ذاتها؟ زميلة لي تسأل دائما: “دكتور كيف سنأثر على حياة النساء ونساعدهن دون أيقاف العنف؟”، يجيبها الطبيب في كل مرة هناك من يقوم بهذا الجزء، هناك من يمكننا إحالة الناس إليه أو إليها، وأحياناً قد نعجز عن وقف العنف، وأحياناً أخرى قد يرفض الأشخاص التغير ببساطة أو التعاون مثلي أنا. لكن زميلتي طيبة جداً، ترفض التوقف عند هذه الخطوة، وكأنها ستغير العالم، أو على الأقل البقعة البنية التي تعيش فيها. وهو أمر ليس مستحيلاً إن توفرت له كل الشروط!
سألتني صديقة ذات مرة: “كيف تساعدين كل هؤلاء الناس وانتِ تعيسة، أوليس فاقدُ الشيء لا يعطيه؟” كان سؤالاً منطقياً نوعاً ما، ولكنني اكتشفت أن فاقد الشيء يعطيه، وأحياناً يعطيه بطريقة أفضل ممن يملكه. ليس كل شيء حقيقي كما يبدو في الظاهر، وليس بالضرورة أن يكون كاذب، الأمور نسبية لطالما كانت نسبية تعتمد على ملايين المبررات والحجج. الأمر ببساطة أن نتكلم بلغة من نداويه. ولكن لغتي معقدة بعض الشيء.
لن أتحدث عن الحرب كعادتي وما سببته لي، سأتحدث عن الأشياء الناتجة والمترتبة. كشابة عشرينية (25 عام) متزوجة، لا أطفال، عائلتي حولي، لدي عمل، لدي أصدقاء، مكتفية مادياً، فما الذي ينقصني؟ السؤال الصحيح ما الذي يجري؟ هل هو تجبَر؟ هل هو اكتئاب؟ هل هو حِداد؟ ماذا يحدث؟
إنها تلك اللعنة التي تعيش في رؤوسنا جميعاً، تتغذى بشكل جميل وكافي، وتحتل مساحة مختلفة في وعيينا أو في اللاوعي. إنها اللعنة التي تأسر روحي وتلتهم عواطفي وتأجج مشاعري. تلك اللعنة التي وجدت منذ الازل، وطورت نفسها في كل ثانية على مدار ملايين السنين. تلك اللعنة هي لعنة التفكير!
قد يبدو الأمر كوميدياً للبعض أو سطحي وهذا أمرٌ طبيعيٌ جداً فلعنة التفكير تأخذ حيزاً خجولاً منهم، لذلك هم لا يشعرون أو يدركون، أما أنتم الذين تحاربون هذه اللعنة بلا جدوى تعلمون جيداً ما أقصده وما أريد قوله. أحياناً لا داعي للكلمات فهي عاجزة عن الوصف، أحياناً تخرس الكلمات وتختبئ خلف التعابير. وتنشأ حرب بين النفس وعضلات الوجه أو حركات الجسد، فأنا من الممكن أن أبكي كل يوم بلا دموع، قد اضحك خلال الألم وقد أتناول السكريات عند التوتر. يبتكر المصابون بهذه اللعنة عدة أدوار ولوحات، قد يؤدون لوحة عظيمة خلال يومهم العادي، قد يخلقون مشهداً مشرقاً وهم في الحقيقة ينزفون.
لطالما اعتبرت نفسي ذكية، فأنا على الأقل أعلم ما يدور حولي وما يدور داخلي، أنا أعلم ما أحتاجه ولكنني عاجزة عن الوصول إليه.
معلولون نحن نعم، وهناك مضاعفات عديدة ترافق هذه العلة أو اللعنة كما أحب تسميتها. لكن دعونا ننظر إلى الجانب المشرق من الحكاية. نحن من اختبر كل أنواع الألم والفقد والخسارة، نحن الذين تعلمنا كل شيء، نحن المبتكرون وقت الحاجة، المزوِدون، الحالمون والناجحون. نحن الخلاقون والمنظمون وأصحابُ الأولويات، نحن الذين نعلم أبعاد كل فكرة وكل خطوة سنخطيها، رغم الأرض المهزوزة تحت أقدامنا ورغم الطائرات التي تترصد لنا، رغم الحواجز والآلياتِ والأرتالِ والسياسة والتصريحات والفقر والأزمات والأوبئة، وسط النيران وعلى بعد خطواتٍ من سيارة مفخخة، رغم الأقنعة ومن تحت الطاولة نحن دوماً سنسبقهم بخطوة. رغم الحياة المؤجلة. نحن الذين سنسأل دوماً ماذا بعد؟
اسمي حنان من إدلب وبدرس بكلية الطب البشري بمحررنا..
من فترة قصيرة كنت عم فكر أكتب مجموعة نصائح لطلاب البكالوريا وادعمهن معنويا لان بعرف تماما اشو بتكون حالة الطالب النفسية بهالظروف الصعبة..لما كنت بكالوريا بفترة ما ازداد القصف عادلب كتير وبطلت ادرس اصبت تقريبا بحالة انهيار نفسي انو ليش عم ادرس اذا وطني عم يروح انا مو ضامنة اذا رح قدم فحص او لا..
طلعت من حالة الانهيار بمساعدة أبي..واحساسي بهديك الفترة لحد الان معلق بذاكرتي وهالشي هو دفعني لاكتب لطلاب البكالوريا هالسنة..
كتبتلن من فترة طويلة..بس حذفته مبارح
حسيت كتير بايخ تقول لواحد اكتب وما تعطيه قلم..
عمدار فترة البكالوريا كانت ترعبني فكرة اني كمل جامعتي بمناطقنا هون خاف انو ما يكون في اعتراف او ما نال خبرة كافية او ما يكون في اهتمام جيد فينا كانت فكرة الطلعة لتركيا وإكمال دراستي فيا ملازمة إلي دائما.. بس الحمد لله اجتزت مرحلة البكالوريا ودخلت الفرع الي كنت بحلم فيه وبمحررنا.
ببداية الجامعة اخدت صور كتيرة بالمريول الأبيض واكتب عكل مقرراتي Dr مع اني بعرف تماما انو مؤهلاتي الطبية ما بتسمحلي فرق بين الكبد والكلية بس حس انو اي هاد حلمي وطالما انا مبسوطة مو مهم.. وكان حلمي كل يوم يكبر و يوم عن يوم كان يزيد حبي للجامعة والدكاترة وشغفي فين وكنت مرتاحة كتير..حسيت بفترة انو اي هي ارضي هون جامعتي هي الارض المناسبة لافرد جذوري لبلش ابني حلمي يلي رح فيد من خلاله كتيرين وبلشت خطط لعيادتي المتنقلة وكيف بس اكتسب القليل من الخبرة ومع الأيام رح بلش بطلعاتي التطوعية بمجال الطب مع أي فريق تطوعي كان برغم خبرتي الصغيرة..وبتذكر اني بيوم من الأيام كتبت تعليق لفريق ملهم التطوعي في ما معناه انو “استنوا لصير سنة تالتة رح اترك قسم الكفالات وصير أطلع طلعات تطوعية طبية ترضوا ما ترضوا مش مهم” بغض النظر عن حسي الفكاهي الي بيبقي ملازمني.. حسيت انو رح اتعلم لفيد…لكون إنسانة ناجحة لفيد بعلمي متل الدكتور طراف والدكتور حمزة الدكتورة وعد وغيرن كتار من الأبطال بشتى المجالات…
بجامعتي كنت اتصبح كل يوم بعلم الثورة.. مافيي أوصف فخري بكل مرة بدخل فيها عالكريدور وشوف علم الثورة..
بناء جامعتنا بسيط وبالمناسبة جامعتنا ما فيها مدرج متل باقي جامعات العالم..ومخابرنا بسيطة ومو كل الأدوات متوفرة عندنا بس بالمقابل في عنا إنتماء في فخر في علمنا وحرية.. بالمقابل فيك تناقش الدكتور باحترام فيك تحكي رأيك فيك تعترض.. كانت جامعتنا ملاذ كتير مناسب وبلش إنتمائي الها يكبر -بغض النظر إني حدا بيتكيف بسرعة-
كان يكفيني انو أنا عم أتعلم..المدرج مو مهم مقابل المعلومة..مقابل الدكتور الي بقلك لا تنسى هالأيام مقابل الدكتور الي لما ياخد دفترك ليصلحه بشوفك كاتب عبارة حلوة محفزة بردلك ب إن شاء الله.
مقابل نظرات الدكتور جواد النا..الي كانت مليانة أمل انو اي رح تصيروا شي مهم أنتو رح تبنوا هالوطن
وهاد مثال صغير عكلية وحدة ضمن جامعة وحدة
اليوم طلع للمرة التالتة على التوالي قرار بتأجيل الامتحانات.. كل العالم خلصوا امتحانات الفاينل إلا نحن.. عم نأجل فيه بسبب القصف بسبب انو عدد منيح من الطلاب نزح من بيته وواقف مع أهله تحت المطر بالشوارع بدون مأوى وبسبب أنه كمان عدد منيح من الطلاب طلع ليدافع عن أرضه وعدد منيح من الطلاب الي عم يدور عبيت لأهله بالمناطق الي ما فيها قصف -ما رح قول آمنة-..
نحن ما عم نفقد فقط أراضي عالخربطة الحمرة والخضرة فقط..
نحن اليوم عم نفقد وطن عم نفقد الأرض الي مدينا جذورنا فيها الأرض الي بلال وعزيز عبرروا عكل جدران من جدرانا.. الأرض الي احتوت كل المهجرين.. الارض الي ما عم ينسوها من لعناتن.. عم نخسر شباب متل الورود.. أطفال عائلات أحلام آمال وأوطان كاملة..
عيون محمد الملونة ما عم أقدر أنساها ولا هديك السيارة الحمرة..
عم نخسر كل شي مع أراضينا..هالحكي هاد مو لانشر بؤس ولا نكد عحدا.. عم أحكي لحتى ما حس انو نحن وحدنا.. عم إحكي لحتى أتأكد انو لسا فيني كون أنا..لسا بإمكاني قول حرية.. نحن مو ندمانين نحن يمكن عم ننطر معجزة لتنقذنا رغم انو منعرف انو ولى زمن المعجزات..نحن يمكن عم نستنى نموت كلنا أو نعيش كلنا
انا عم احكي جزء بسيط من معاناتنا
صرلي فترة منيحة عم بعد عن اني اكتب أو احكي عن مشاعري بس ما قدرت.. ما قدرت ما قول انو العالم بالشوراع بلا مأوى حتى خيمة عالحدود مو مأمن الها..العالم عم تحرق بيوتا وتطلع لحتى هالسفلة ما تستفاد منه.
أنا جربت النزوح مرات كتيرة سابقا..بس لو اخدت الجانب الايجابي من الموضوع رح قول اني لما نزحت كان في مكان روح عليه..
أما اليوم هالعالم الي عم تنزح عم تطلع وهي عنجد عم تقول وين رح روح.. وين؟
وين؟
وين؟